نزار نيّوف
/
Jun 14, 2006
اتصل بي يوم أمس الصديق الفنان سفيان السباعي من مدينة حمص السورية ليخبرني بأن جامعة "البعث" في المدينة قررت فصل طالب لمدة ستة أشهر بسبب مقال نشره في "الحوار المتمدن". ولأني اعتبرت اتصاله إخبارا من جملة الإخبارات التقليدية التي تأتينا يوميا عن الجرائم والانتهاكات التي تقترفها السلطة بحق الناس، قطعت الحديث عليه وطلبت منه أن يكتب لي التفاصيل بالبريد الإلكتروني، وأن يوفر دقائق اتصاله الهاتفي لكي أسمع صوته الذي لم أسمعه منذ أكثر من عام، وليحدثني عن آخر لوحاته. إلا أنه رفض ذلك، مفضلا أن يقص عليّ الحكاية بلسانه، وبشيء من الزهو والشعور بالاعتزاز إزاء نموذج من طلابنا لم يستطع " مخطط التقريد " البعثي أن يحوله إلى سعدان آخر في السيرك الكبير الذي كان يسمى حتى وقت قريب .. سورية. (ملاحظة برسم الأجهزة الأمنية في حمص: هذا التعبير لي، وليس للأخ سفيان، فلا تضمّوه إلى قائمة التهم حين تقررون اعتقاله بتهمة الاتصال بجهات أجنبية!).
من سياق الحديث الهاتفي علمت أن المعني بالأمر طالب في الصف الثاني بكلية العلوم يدعى يامن حسين . وهو ينحدر من الطائفة العلوية. وقد قررت إدارة الجامعة حرمانه من الفصل الثاني للعام الدراسي 2005 ـ 2006 بعد جلسة تحقيق معه تشبه جلسة تحضير الأرواح، تضمنت ـ فيما تضمنته ـ تفكيكا لمقاله بأحدث ما توصلت إليه مناهج علم اللسانيات، بما فيها منهج نوآم تشومسكي، خصوصا بعد أن طبع المقال من قبل طلاب مجهولين ووزع في أروقة الجامعة، وأثار استنفارا أمنيا جامعيا شاملا كما لو أنه منشور سياسي يدعو إلى انتفاضة مسلحة!
ما إن وضعت سماعة الهاتف حتى سارعت إلى موقع "الحوار المتمدن" بحثا عن المقال المعني، لأكتشف أنه منشور في العاشر من شباط / فبراير الماضي . ويبدو أنه أول مقال ينشره الطالب يامن حسين، وأرجو أن لا يكون الأخير!
في الواقع ليس "المقال" مقالا بالمعنى التقليدي للكلمة. إنه أشبه بنص سيناريو أعد ليكون فيلما وثائقيا. ولو كنت منتجا لما تأخرت لحظة واحدة في شرائه منه بالسعر الذي يريده، دون أي مناقشة. وتذكرت ساعتئذ عمر أميرلاي ـ فناننا الكبير الذي برع أيما براعة في فضح عوراتنا وهتك أستار فضائحنا "الحضارية" بسيول "طوفانه" وبعين شاعر أين منها عين امرىء القيس وهو يصور حصانه: مِكَرٍّ مِفَرٍّ، مقبل مدبر معا...!
من الصعب تلخيص السيناريو هنا، وليسمح لي صاحبه أن أسميه كذلك. ولذا أحيل من يهمه الأمر إلى الرابط أدناه، لا ليقرأه ويتمتع به كما قرأته وتمتعت به أنا وحسب؛ ولكن ليبكي من الداخل بملء جوارحه كما بكيت. إنه نص فضائحي؛ نص عن العار؛ نص يهتك ما تبقى من قشور أعراضنا الزائفة، وشرفنا الأكثر زيفا. نص يقول لنا بوقاحة سافرة مليئة بالنبل الإنساني الرفيع: هذه حديقة حيواناتكم التي أرفض أن أكون فيها قردا أو سعدانا!
ثلاث كافتريات طلابية: واحدة للمسيحيين وأخرى للسنة، وثالثة للعلويين. كل منها لها هويتها وعالمها وطقوسها. في الأولى، التي يسميها طلاب الطوائف الأخرى بالكاتدرائية، يصدح طوني حدشيتي (مطرب "الشعب" المسيحي) ويُمَجّ التبغ الأجنبي المستورد وتتدلى الصلبان مختلفة الأحجام من أعناق كرستين وميشو؛ وفي الثانية منشد يصلي على محمد ("نبي الشعب السني") وتسود اللحى المرسلة على عواهنها والمحجبات وأربطة المعاصم السوداء والدشداشات أو البناطلين "الشرعية" الواسعة وخواتم الفضة التي تزنر الأصابع؛ وفي الثالثة يصدح علي الديك (مطرب "الشعب" العلوي) و يُمَجّ التبغ الوطني من نوع "الحمراء القصيرة" وتلوّح الأيدي ذات المعاصم المزنرة بالأشرطة الخضراء المقتطعة من الأقمشة التي تغطي أضرحة الأولياء العلويين، والأعناق التي تتدلى منها السيوف "الذوالفقارية".
إنها ثلاث "هويات" واضحة المعالم لثلاثة "شعوب" بعد نصف قرن من "الثورة الوطنية الديمقراطية البعثية"، والوحدة الوطنية العصية على الكسر، وفق آخر تصريح للطبل الأجوف محسن بلال وزير الإعلام! ثلاث هويات لبلد قاد الدفاع عن حدوده قبل ثمانين عاما مواطن كردي يدعى الجنرال يوسف العظمة؛ وأسس مجمعه اللغوي كردي آخر يدعى محمد كرد علي؛ وعرف أكثر من خمسة رؤوساء أكراد آخرين؛ وكان رئيس وزارئه، ليس ميسحيا فقط، بل ومن أصول لبنانية، يدعى فارس الخوري ـ أحد رموز الاستقلال؛ وقائد ثورته الاستقلالية شيعيا موحّدا (درزيا) يدعى سلطان باشا الأطرش؛ ووقف برلمانه ذات يوم، بالاجماع، ضد نائب أراد أن يكفّر نزار قباني بسبب قصيدة "خبز وحشيش وقمر"!
بالطبع، كان ذلك كله قبل مجيء "البعث" بثورته الوطنية الديمقراطية، كما يحلو لبقايا المستحاثات والأحافير البكداشية أن تسمي انقلاب حليفهم الأبدي. أي: في عصر الرجعية وأذناب الاستعمار وجواسيس حلف بغداد وشركة نفط العراق، كما يطيب ـ للمستحاثات إياها ـ أن تسمي عصرنا الذهبي!
في ذلك الوقت لم يكن المسيحي يعرّف نفسه، أو يعرفه الناس، بصليب أو بأيقونة مريمية تتدلى من عنقه، بل بالحزب الذي ينتمي إليه؛ ولم يكن السني يعرف نفسه أو يعرفه الناس بلحيته أو دشداشته الشرعية أو خاتمه الفضي، بل بانتمائه إلى الكتلة الوطنية أو حزب الشعب أو انتفاضة أكرم الحوراني الفلاحية؛ وفي ذلك الوقت لم يكن العلوي يعرف نفسه أو يعرفه الناس بـ "ذو الفقار" الذي يتدلى من عنقه كما لو أنه ذاهب إلى فتح حصن خبير أو للقتال في موقعة الجمل أو صفين مع إمامه علي بن أبي طالب، أو بعضويته في سرايا الدفاع أو جمعية الإمام المرتضى أو بعلي الديك، بل بانتمائه للحزب الاشتراكي الذي يقوده "السني ـ الحموي" أكرم الحوراني، أو الحزب القومي السوري أو "بعث" وهيب الغانم؛ ولم يكن الشيعي الموحد (الدرزي) يعرف نفسه أو يعرفه الناس بشاربيه اللذين يقف عليهما النسر والعقاب، أو بلفّته أو لحيته، بل بدوره في الثورة السورية الكبرى وعدد البنادق والثوار الذين هربهم وورّدهم إلى "السنيين" محمد الأشمر وحسن الخراط في غوطة دمشق الشرقية!
في زمن الرجعية الأسود، وزمن أذناب الاستعمار وعملاء حلف بغداد، كان مطرب الشعب صباح فخري وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب، ومطربة الشعب لودي شامية والكسندرا بدران (نور الهدى) وفيروز وأم كلثوم. وكان شاعر الشعب بدوي الجبل وفخري البارودي ووصفي القرنفلي وعمر أبو ريشه. وفي ذلك الزمن كان زعيم الفلاحين العلويين "السني" أكرم الحوراني وليس جميل الأسد، وزعيم السنة المدينيين "العلوي" وهيب الغانم وليس مروان حديد أو أبو القعقاع أو الزرقاوي، وكانت مرجعية المسيحيين فرج الله الحلو أو ميشيل عفلق أو أنطون سعادة، وليس البطريرك هزيم أو زكا الأول أو الأب الياس زحلاوي! وفي ذلك الوقت شهد الريف العلوي أكبر حملة في تسمية المواليد الجدد باسم "أكرم"، بحيث أنه ما من علوي ولد بعد العام 1950 وسمي "أكرم" إلا تيمنا بأكرم الحوراني!
لم يفعل البعثيون إلا أن ردوا الإنسان السوري إلى بداوته ووحشيته وبراريه الأولى؛ أي إلى الأمكنة التي عاش فيها قبل أن يكتسب شرف الانتماء للجنس البشري وإحساسه بكرامته كإنسان. كانت الطريقة الوحيدة التي اجترحها البعثيون، وفي مقدمتهم حافظ الأسد، للإمساك برقاب الناس هي "مخطط التقريد " الذي قضى بتحويل الناس إلى قطعان من القرود والسعادين التي يمكن وضعها في أقفاص وعرضها للفرجة في متاحف التاريخ الطبيعي أو مكاتب السياحة، باعتبارها عينات ونماذج للإنسان السوري القديم الذي اخترع أبجدية أوغاريت وأنجب زنوبيا التي حكمته قبل أن تتحول تسعة أعشار نساء البعث إلى محجبات و "قبيسيات"، وقبل أن تصبح مرجعية البعث "العلماني" وزارة الأوقاف وشيخ الشباب محمد حبش وآية الله علي خامنائي والكنيسة المريمية.
قبل حافظ الأسد كنا نحن المنحدرين من الطائفة العلوية نفخر بأننا أكثر مواطني سورية حرية. كنا نفخر بأن الريف العلوي بكامله لم يكن فيه سوى مسجد أو اثنين؛ وكنا نفخر بأن لحية أكبر رجل دين علوي لا تساوي فلسا إلا بقدر ما يحترم صاحبها نفسه ويبتعد عن دس أنفه في أمور دنيانا؛ وكنا نفخر بحرية الحب والإلحاد دون أي عاقبة، ودون أن يتجرأ أي رجل دين على أن يصادر رأينا. كانت حرية المرأة عندنا مضرب الأمثال لكل متنور، ومدعاة لرجمها بالتغريب والانحلال من قبل ظلاميي الطوائف السنية والشيعية لمجرد أنها تستطيع أن تلبس ما تريد، وتحب من تريد، وتتزوج من تريد. ولهذا فخر المنحدرون من هذه الطائفة بأن أول طبيبة في سورية، وأول طبيبة درست خارج سورية، كانت جمانة سليمان الأحمد ـ شقيقة بدوي الجبل، وبأنهم قدموا عشرات المناضلات لحزب العمل الشيوعي كنّ مضرب المثل في الشجاعة والصمود بوجه جلادي حافظ الأسد وسرايا الدفاع!
صحيح أن ثمة تقاليد في الحرية عند العلويين لا تستطيع أي ردة مذهبية أن تصادرها، لأنها من صلب عقيدتهم أصلا، ولا منة لرجال الدين العلويين في التسامح بشأنها. ولكن الأكثر صحة أن حافظ الأسد فعل في الطائفة كما فعله في كل الطوائف الأخرى. فوقف وراء أكبر حملة لبناء المساجد في الطائفة منذ أن ولدت قبل 12 قرنا، رغم أنه ـ ولحسن الحظ ـ لا يرتادها حتى الآن إلا القلة؛ وكان مع شقيقه جميل وراء أكبر عملية تشيع في الطائفة. وبتعبير آخر: وراء تحويل طائفة تستمد عقيدتها من التقاليد الثورية للمعتزلة ورسائل إخوان الصفا ومدرسة إيونيا الفلسفية اليونانية وإرث القربان المسيحي، والقرّائية البغدادية، ولا تؤمن بتسييس الدين، وتفصل ما هو زمني عما هو ديني (الدين عن الدولة)، وليس لديها أي طقس من الطقوس الدينية،... إلى طائفة شرع ينخرها السوس الشيعي وتقاليده وطقوسه، بكل ما يعنيه ذلك من تحويل علي والحسين من قدوتين ثوريتين لصناعة التقدم، إلى مرجعيتين لاهوتيتين لصناعة التأخر والقهقرى!
ومع هذا كله، فإننا نراهن على أن مخطط التقريد هذا، أقلّه في الطائفة، لن ينجح، طالما أن هناك شبابا مثل يامن حسين يقاتلون ويواجهونه بشجاعة، رغم غضاضة عودهم وحداثة تجربتهم، ويرفضون الارتداد من الطور الآدمي إلى طور السعدان!
تحية إلى يامن حسين، وكل أبناء جيله الذين يحاربون مخطط التقريد البعثي ـ الأسدي، واعتذار منه لأني لم أقرأ "مقاله" إلا الآن.
****************
مقالة يامن حسين:
إذا كنت بوذياً.. فلا تقترب من جامعة البعث
14 يونيو 2006
في يومٍ شتويٍ بارد من أيام العام الحالي 2006 كنتُ ذاهباً إلى جامعتي (جامعة البعث) وأنا أدرس في كلية العلوم قسم الرياضيات السنة الثانية وأنا بلا فخر راسب، وقبل خروجي من المنزل أخذت مصروفي اليومي من أبي العزيز (خمس وعشرون ليرة) وفي الطريق من البيت الكائن في حي السبيل بمدينة حمص إلى موقف السرفيس سمعت صوتاً يندهني من الخلف; نظرت إلى الخلف وإذ......!! بصديق قديم من أيام الدراسة الثانوية وكانت قد تراجعت علاقة الصداقة بيننا بعد دخولنا الجامعة فلقد سجّل هو في كلية التربية بجامعة تشرين بمدينة اللاذقية لأن مجموع درجاته في البكلوريا لا يؤهله دخول كلية التربية إلا في جامعة تشرين وبعد عام نقل تسجيلهُ إلى جامعة البعث، وقفت وسلمت على صديقي القديم وسألت عن أحوالهِ ودراسته وقلت لهُ: إلى أين أنت ذاهب في هذا الجو البارد فأجاب: إلى الجامعة، هنا ارتبكت و بدأت العمليات الحسابية تدور في رأسي فمعي خمس وعشرين ليرة وأجرة السرفيس هي أربع ليرات وبالتالي إذا انتخيت (من النخوة) ودفعت عنهُ في السرفيس سيكون المجموع 4+4=8 ونضيف إليها أجرة العودة إلى المنزل من الجامعة في حال لم أضطر للدفع عن صديق أخر فيكون المجوع الكلي 8+4=12 نطرحه من مصروفي فيكون الباقي ببساطة 25-12= 13 لام سين. بعد هذا الوقت من التفكير العميق بعلم الحساب وصلنا إلى موقف السرفيس فبدأت دقات قلبي تتسارع وارتفع معدل الأدرينالين في دمي. وبعد انتظار طويل جاء الفرج أي السرفيس وكان من نوع هيونداي مكتوبٌ عليه بخط كبير مميز "مخصص للصبايا" وكان لون السرفيس أبيض بالأصل ولكن نتيجةً للأمطار والحالة العامة للطرقات في مدينة حمص وباقي مدن ومحافظات القطر تحول لون السرفيس إلى اللون البني الداكن نتيجةَ للوحول في مشهد سريالي جميل. صعدنا السرفيس وبطبيعة الحال لم نجد مقعداً شاغراً فاضطررنا للجلوس كيف ما كان، ولله الحمد فلقد جلس صديقي خلف مقعد السائق، أما أنا فلقد جلست كالجرذ بين ثلاثة أشخاص في المقعد الأخير ولقد صمم هذا المقعد ليتسع لثلاثة أشخاص فقط ونتيجة لهذا الوضع فلقد اضطر صديقي ولله الحمد أن يدفع عني كونه الأقرب للسائق الذي كان فرحاً بأغنية مشهورة للفلتان المشهور ربيع حمدي "هبهب هوى العزيبي ..." وأنا أيضاً كانت الغبطة تختلج بدمي ولكن ليس طرباً بالأغنية بل لأنني لم أضطر لدفع أربع ليرات عن صديقي ووفرت أربع ليرات كونه دفع عني، وبعد مدة وصلنا إلى الجامعة وعند باب الجامعة رأينا تجمعاً هائلاً للطلاب يصرخون "يا مليس ويا حقير تضرب إنت وهالتقرير..." سألنا أحد االطلاب فقال هذه مسيرة ضد ميلس وكلابهِ اللبنانيين وهناك إيقاف دوام في الجامعة فقال صديقي: (إجت والله جابها) ستكون الشلة مجتمعة في ندوة (كافتيريا) كلية الآداب وسألني هل تأتي معي؟ فقلت: ألن نذهب إلى المسيرة؟ فقال: لا هؤلاء يكفوون ويوفون تعال معي سأعرِّفك بالصبايا والشباب.
ذهبنا باتجاه كلية الأداب وفي الطريق قلت لهُ: مارأيك أن نذهب إلى كلية العمارة سمعت أن فيها صبايا حلوات فاستهجن كلمتي وقال: صحيح ولكن بنات كلية الآداب أيضاً حلوات وكفتريا كلية الآداب أشرف من الكتدرائية (أي كفتيريا كلية العمارة) وبناتها ومخنثيها... استغربت موقفه وسألته ماسبب تسميتها بالكتدرائية؟ فقال لأن كل من يجلس في كفتريتها مسيحيون يعني ليسوا من دجاجاتنا (يستعمل ترمييز دجاجاتنا عند الطوائف والمذاهب للدلالة على الشخص إذا كان من نفس الطائفة والمذهب)
أصريّت على موقفي وقلت لهُ أنا سأذهب لأرى بنفسي فقال إذهب وعندما تتأكد عُد أنا سأكون في كلية الآداب... ذهبت باتجاه كلية العمارة وما أن دخلت من الباب حتى بدأت أسمع لهجة أو لغة غريبة بين الطلاب فيقولون بدل حرف "القاف" "أآف" لم أكترث ودخلت باب الكفتيريا ووقفت أستطلع الطاولات لأجد مكاناً جيدا للجلوس وهنا رأيت الجميع يحملقون بي مشمئزِّين، وبادىء الأمر لم أفهم ولكن بعد برهة فهمت سبب اشمئزاز الطلاب فلقد كان الجميع تتدلى من أعناقهم صلبان كبيرة ومختلفة الحجم ويلفون معاصمهم بقطع قماش أسود مجدولة ومعقودة اثنا عشر عقدة وعلِّق بطرف هذه الربطة صليب أو أكثر حسب الحالة الإيمانية للشخص أما انا ياحسرتي لم يكن لي صليب وأنا لست مسيحياً بطبيعة الحال، دخلت وجلست على طاولة ذات موقع جيد بجانب الشباك وضعت كتبي وذهبت لأشتري شيئاً لأشربهُ مع السيجارة وكان معي الخمس وعشرين ليرة التي يجب أن يبقى منها أربع ليرات لأتمكن من العودة للمنزل بالسرفيس وصلت إلى المسؤول عن البيع وطلبت مشروباً لذيذاً جداً يكنى بـ "تلاتي بواحد" وهو عبارة عن نيسكافيه وسكر وكريمة مبيضة وأخرجت من جيبة البنطلون خمسة عشر ليرة على شكل قطعتين من فئة الخمس ليرات وخمس قطع من فئة الليرة الواحدة فرمقني البائع وقال لي: هل مازال هناك ليرات فراطة بالدني ياأخي...!؟ لم أرد... فأعطاني طلبي وعدت إلى الطاولة وأخذت من باكيت الدخان (حمراء قصيرة) سيجارة وأشعلتها فسمعت من الطاولة المجاورة إحدى الفتيات تقول بهمس خفيف مع ضحكة دلوعة لصديقها الملون الشعر: "ميشو ليك هداك عم يدخن حمرا أصيرة يا حرام فئير" فالتفت الأخ ميشو نحوي وضحك جداً وأنا بدوري ضحكت لأن الأخ ميشو كان يضع قرطاً في أذنهِ ولون شعره كان أزرق كلون الصيصان الملونة مع الباعة الجوالين، فغضب ميشو وصاح لصديقٍ آخر "أبو الجوج ئول لميمي تتشوف هالمهستر الوافد جديد علينا" لم أعرهم انتباهاً وتابعت شرب كوب "التلاتي بواحد" بشهية و نفثت دخان سيجارتي بقوة فبدأت إحدى الفتيات بالسعال والأخرى كأنها أصيبت ببوادر إقياء فقام الأخ أبو الجوج وفتح الشباك بجانبي وقال لي بلهجة شبه لبنانية "ياأخي دخن دخان أجنبي لايت... ياي منيح يعني تموت كريستين من شان حدرتك" فقلت لهُ عفواً لم يكن بقصدي وما إن سمع أحدهم في طاولة بعيدة نسبياً حرف القاف في كلمة قصدي حتى ضحك باستهزاء أشبه بصهيل الخيول وكان الأخ يضع جل بكمية كبيرة على شعره الذي سرحه بطريقة تشبهُ عُرفَ الديك، ووسط هذا اللغو والضحكات وصوت غناء طوني حدشيتي المخنث الآخر حملت كتبي وخرجت من الكفتيريا.. الكتدرائية.. موقناً بالتشابه بين رواد كفتيريا العمارة والدجاج... وصحة تسميتها بالكتدرائية... وذهبت باتجاه كلية الآداب وليشهد الله ما أن وصلت إلى باب كفتيريا الآداب حتى رن في أذني من كل فج عميق حرف القاف الذي اشتقت لسماعه حتى أن صاحب الكفتيريا كان يضع شريط كاسيت لعلي الديك ويصدح "راحت تقمقش حطب.." وعندما سمعت حرف القاف اغرورقت عيني بالدمع من الحنين، فرآني صديقي وصاح لي وما أن وصلت إلى طاولته حتى أخذ يعرفني بأصدقائه "علي أبوجعفر.. حسين أبو ذو الفقار.. أم علي.. أم حافظ.." وعرفهم "يامن" فغمزه الأخ علي أبو جعفر "هلّق الأخ من جيجاتنا؟" فأجابه صديقي مفتخراً: نعم، وهنا سألتهم هل هم جميعاً متزوجون فأجابوا جميعاً: لا..! وأجابتني أم علي لتزيل استغرابي حول الأسماء فقالت هنا الجميع علويون والأسماء إما علي أو خضر أو جعفر أو حسين فنضيف أبو فلان منعاً للالتباس، وأكدت الأخت أم حافظ أنها نذرت نذراً لأحد الأولياء الصالحين في المنطقة الغربية أن تسمي ابنها حافظ على اسم القائد الخالد في حال نجحت في مادة الثقافة القومية. هنا بدأت أحاديث الشباب والبنات عن شريط كاسيت جديد لعلي الديك الذي ينتمي إلى نفس الطائفة الكريمة وحاول أبو ذو الفقار تبادل أطراف الحديث معي فسألني هل سمعت هذا الموّال "الإمامو علي بالخير بشر وبعدك ياحافظ عندنا الأمل بشار" فأجبتهُ بالنفي فتغضن جبينه وقطب حاجبيه فاستدركت قائلاً: لكن الموّال رائع.. فارتاح قليلاً وهنا رحت أفكر: هنا دجاج وهناك دجاج والفرق الوحيد هو في النوع، وتلفتُّ حولي فرأيت الجميع تتدلى من أعناقهم سيوف تختلف بالحجم حسب إيمان كل شخص على ما يبدو، ولفوا معاصمهم بقطع قماشية مجدّلة خضراء اللون يؤتى بها من مقامات الأولياء المنتشرة على امتداد الساحل والسهل والجبال وتسمى هذهِ الربطات "الخلعات" فقلت لصديقي ما بال الجميع يلبسون سيوف في أعناقهم كأننا في ساحة الوغى، فاحمر وجهه وصمت الجميع مذهولين فقال لهم صديقي: إنه يمزح، وهمس بأذني غاضباً هل أثرت بك زيارتك للكتدرائية فنسيت من أنت؟ عندها حملت كتبي وهممت بالرحيل وسط ضجة ناتجة عن كثرة استعمال الطلاب لحرف القاف بما يشبه صوت الدجاج "قاق.. قاق" وقبل أن أغادر القن (بيت الدجاج) قلت لصديقي: معك الحق كافتيريا العمارة أشبه بكتدرائية ولكن هنا دجاج وهناك دجاج، هذه حاله الدجاجية غير معقولة واستدرت باتجاه الأخ علي أبوجعفر الذي كان قد رفع كم قميصه (خملة الدراق المتعارف عليه بين شباب طائفتنا كزي فلكلوري) وبان على ساعده وشم على شكل سيف وتحته كتب "يا علي" فقلت لهُ: هنيئاً لك ولدجاجات الطائفة أنا متأكد أنكم ستبيضون يوماً أما أنا فلا أظن أني سأبيض لذلك لست من دجاجاتك ولا من دجاجات غيرك. فقام الجميع وكأنهم سيغيرون على الثغور لتحرير فلسطين أو الجولان فهربت مسرعاً وبدأوا بالضحك عليّ وصاح أحدهم: جبان، طنط (كلمة للدلالة على التخنيث عند الشباب).
الآن لم يبقَ شيء يؤسف عليه فتوجهت خارج مبنى كلية الآداب دون أن أعرف إلى أين أنا ذاهب مشيت ومشيت فوجدت نفسي أمام باب إحدى الكفتريات في الجامعة وكانت مقسومة ديناميكياً إلى قسمين الأول بجانب الباب فيه شباب طويلو الذقون يلبسون جلابيات وفي أحسن الأحوال بنطلون قماش فضفاض ليخفي العورة جيداً ووضع معظمهم خواتم فضة كبيرة نوعاً ما وبأيديهم سبَّحات أما القسم الثاني فكان القسم الداخلي من الكفتيريا فيه فتيات يلبسن حجابات بيضاء بعضهن بان وجهه والأخريات لم يظهر منهن شيء وهنا تراءى لي وكأنّي في حلمٍ دجاجي آخر فيه دجاجات بيضاء داخل القن تحاصرهن ديوك شبقة، استيقظت من حلم اليقظة على صوت أحدهم يصيح "أبو خالد شوف الأخ شوبدو" وكانت لهجته غريبة أيضاً فهو يضم الحرف الأول ويسكّن الحرف الأخير عندها قلت في نفسي لا أريد معركة انتماء أخرى فلربما يأتي الآن عمر أو معاوية أو حتى أبو صياح دباح الغنم فيتهمني بقذف المؤمنات المحصنات الغافلات وتنشب معركة شرف أكون فيها الخاسر، فاستدرت على أنغام أغنية تصدر من الكافيتيريا ذاتها تناجي الحبيب محمد وتبتهل الله أن يمنَّ عليه (للمطرب) بالحج...
وخرجت باتجاه موقف السرفيس وأنا أدندن أغنية لزياد الرحباني "قوم فوت نام وصير حلام أنو بلدنا صارت بلد" ورحتُ أدوِّر في رأسي معادلة رياضية حتى أستطيع شراء باكيت دخان حمراء قصيرة الرخيصة الثمن (عشرون ليرة) فبعد هذا اليوم الطويل في الجامعة سيبقى معي 6 ليرات وبالتالي أحتاج 14 ليرة وقبل أن أصل إلى موقف السرفيس وكنت ما أزال في حرم الجامعة وإذ بسائح يبدو عليه أنه شرق أسيوي يتوجه باتجاه مبنى الكليات فهرعت إليه مسرعاً والحمد لله فكان يجيد العربية أكثر منّا فسألته عن دينه ومذهبه فرد ضاحكاً "بوذي" وعندها قلت له دعك من الجامعة فليس هناك دجاج من نفس النوع فيها وتعال معي أعلمك فن شرب المتة وأشرح لك الحالة الدجاجية في الوطن...
مع تمنياتي بأن تفتك إنفلونزا الطيور بكافة أنواع الدجاج شبه البشري في الجامعة ومختلف مرافق الوطن الكبير... "بالبرغل في طائفية"....
yamen_geuvara@yahoo.com
عن الحوار المتمدن:
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=56902
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط