بسام درويش
/
Jul 26, 2003
"هل تؤمن بالله أو بأي إله؟.. أنا شخصياً لا أومن بوجود إله. إنني بصراحة أجد صعوبةً في هضم الإسلام وكل ما يعلّمه على الرغم من أنني ولدتُ مسلمةً شيعية. كما وإني أجد هذا الله متناقضاً مع نفسه بإصداره ثلاثة كتبٍ يختلف كل واحد منها عن الآخر ولكنه مع ذلك، يريد منا اتباع ما فيها. أنا معجبةٌ بما تكتب يا سيد بسام وأرى في ما تكتبه إلهاماً لكثيرين من الذين يملكون القدرة على التفكير. أتمنّى لو أعرف إذا كنت تؤمن حقيقة بأي إله، خصوصاً وأنني لاحظت أنّ لشخصية المسيح مكاناً عظيماً لديك. جوابك على تساؤلاتي أمرٌ مهمٌّ جداً لي.."
كان ذلك بعض ما جاء في رسالتين من قارئة اسمها سوسن.
**********
سألتِني يا سوسنُ سؤالاً، طالما طرحته أنا على نفسي، ولم أحظَ يوماً له بجوابٍ مقنع. هل أنا مؤمنٌ؟
ربما عليّ، كي أصل إلى جواب حقيقي لهذا السؤال، أن أجد جواباً مقنعاً لسؤال آخر: ما هو الإيمان؟..
مفهوم الإيمان لا يختلف من دين إلى آخر فقط، إنما من فردٍ إلى فردٍ، لا بل إنه لَيَختلفُ في فكـرِ الفردِ الواحدِ بين يومٍ وآخر!
*******
كان لي مع الإيمان، حين كنت في الحادية عشرة من عمري، لقاءٌ لا يمكن أن أنساه.
كنت آنذاك أقضي بعض أيام الصيف في محلّ أبي التجاري، أعينه قدر ما يستطيع طفلٌ بذلك السن أن يُعين. كان أبي يبيع قطع تبديل للسيارات، وكان بين زبائنه من أصحاب ورشات التصليح رجل مسلمٌ، حذّرني أبي منه بقوله، أنه ما أن يراني حتى سيبدأ بالحديث عن الدين محاولاً إقناعي بأن الإسلام هو الدين الحقيقي. كان زبوناً مداوماً، ولكن رغم المناقشات الدينية بينهما، فقد كانت علاقتهما طيبة، أو بالأحرى دبلوماسية، لم تبلغ يوماً مرحلة الشجار.
ذات يوم أقبل "أبو عيد"، وكان ذاك اسمه؛ نظر إليّ وقال لأبي: "ماذا يفعل هذا الصغير الضعيف البنية عندك؟.. إنه لا يصلح لعملٍ كهذا!.." أجابه أبي قائلاً: "على الأقل يتعلّم المصلحة.. ولكن إذا غرّك حجمه فلا تستخفّ عقله، جرّبه في أمور الدين إن شئت فهو أدرى مني."
ربما لم أكن في الحقيقة على ما وصفني أبي من خبرة واسعة في أمور الدين، ولكني في الحقيقة كنت على عكس أقراني من الأولاد، محباً للقراءة إلى حدّ الهوس. كنت مهووساً بالكتب إلى درجة كنت أستدين المال لشرائها. وهنا، لا بدّ لي من الإشارة إلى أنني آنذاك، كنت قد عدت منذ شهرين، من مدرسة رهبانية داخلية قضيت فيها سنتين متواصلتين، قررت بعدهما أنني لا أريد أن أصبح كاهناً.
نظر إليّ "أبو عيد" بعد أن عرف من أبي قصة عودتي من الدير، وقال لي بلهجة شاميّة مطاطة تحمل معنى السخرية: "يبدو أنّك لم تجد في المسيحية ما يسعد قلبك، ولذلك عليك أن تؤمن بالإسلام والله الواحد، عوضاً عن هذه الخرافات التي يؤمن بها أبوك؟.."
صمتُّ لبرهة ثم طال صمتي و"أبو عيد" وأبي ينظران إليّ صامتين، وأخيراً نظرت إلى عيني "أبو عيد" وقلت له، ولا زلت أذكر ما قلت له بالحرف الواحد: "وهل أنت مؤمن بالله وبكل ما يقوله؟"
نظر إليّ أبو عيد تعلو شفتيه ابتسامة هازئة وأجابني بسرعة: "طبعاَ أنا مؤمن.. ماذا تعتقد؟.."
قلت: "هل إيمانك بكل ما يقوله الله قوي؟.."
حوّل أبو عيد وجهه عني ونظر إلى أبي قائلاً له: "عمّا يتحدّث فيلسوفك الصغير؟.." أجابه أبي: "ما عليك إلا أن تسأله حتى تعرف عمّا يتحدّث."
"طبعاً إيماني بالله قوي"ـ أجابني "أبو عيد".
قلتُ، "وأنا كذلك.. إيماني بالله قوي جداً!.."
آنذاك تململ "أبو عيد" وقال لي: "ماذا تعني بكل هذه الفلسفة؟.."
فقمت من حيث كنت جالساً على صندوقٍ صغير قرب طاولة أبي، وأمسكت بيد "أبو عيد" وقلت له، تعال معي لأريك ماذا أعني. ونظر أبو عيد إلى عيني أبي وكأنه يسأله دون أن ينبث بكلمة عمّا إذا كنت ولداً طبيعياً أم لا، فأومأ أبي برأسه مبتسماً ولكنه هو الآخر لم يُخفِ استغرابه، وقال: "اذهب معه، ولسوف ترى وأرى أنا أيضاً!."
***********
كان هناك مقابل محل أبي مخبز صغير جداً، وكان يعمل فيه اثنان فقط، واحد في داخل المحل، يقرّص العجين ويدفعه إلى التنّور، بينما كان يقف الآخرُ خارج المخبز، يدخل عصاه الطويلة برأسها المسطّح إلى داخل التنور من فتحته المطلّة على الرصيف الترابي العريض، ليخرج بها وعليها بضعة أرغفة من الخبز يرمي بها على منصّة خشبية إلى القرب منه.
أخذت بيد "أبو عيد" وقدته باتجاه المخبز، وهناك وقفت أمام فتحة التنور وقلت له: أنت تؤمن بما يقول القرآن، "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، وأنا أؤمن بما يقول الإنجيل، "لو كان لكم إيمانٌ مثلُ حبّة الخردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل." فما رأيك أن تمتحن إيمانك وإلهك، وأمتحن أنا إيماني وإلهي، فندخل معاً إلى هذا التنور، والذي يخرج بيننا سالماً، يكون هو صاحب الإيمان الأقوى؟..
وفوراً، بعد تلفظي بتلك الكلمات، أخذت أتسلّق الدرجات ببطء باتجاه التنور، إلى أن شعرت بيد تمسك بي وتشدّني من خلفي.
كان عقلي ـ ولمّا يمضِ بعدُ زمنٌ طويلٌ على عودتي من المدرسة الرهبانية ـ لا زال تحت تأثير سنتين من الحياة الروحية. كان إيماني بالله قوياً، لكن ليس إلى درجة يمكنني أن أثق معها، بأنه سيخرجني من التنور حياً إن غامرتُ ودخلت فيه. لكن، يبدو أن إيماني به كان بمقدار يكفي لزرع الخوف في قلب "أبو عيد" الذي أخذ بيدي وعاد بي إلى أبي مهرولاً ليقول له، بأن ابنه مجنون!..
*********
شعر أبي بالفخر وهو يقول للرجل الواقف أمامه بعينين فاغرتين، "أين هو إيمانك يا رجل!.."
كذلك، ربما شعرتُ أنا بالسعادة لرؤية ابتسامة الفخر على وجه أبي، ولكنَّ أيّاً من الاثنين لم يشعر بما كان يدور في فكري آنذاك. لقد كنت في صراعٍ داخلي مع الإيمان حيث اتضح لي أنّ أيّاً منّا، لا "أبو عيد"، ولا أنا، كان لديه أي إيمان حقيقي. لقد كان كلُّ واحدٍ يحاول أن يبيع الآخر شيئاً لا يملكه. ربما يقول قائل أن "أبو عيد" رجلٌ بالغٌ ولذلك فإنّ عدم استجابته لذلك التحدي الصبياني لا يعني قلة إيمان. هذا قولٌ حسن، ولكن "أبو عيد" الرجل البالغ، لم يبذل أيّ جهدٍ ليبرهن عن إيمانه بأي شكل آخر للطائش الصغير.
ربما كان امتحان الإيمان ذاك بالنسبة للرجل، امتحاناً صبيانياً. وربما كان بالنسبة لي امتحاناً خبيثاً امتحنت به الرجلَ ونفسي، رغم سالف معرفتي أنني لن أقدمَ عليه. ولربما كنت أيضاً مدفوعاً بروحانية السنتين من الزمن اللتين قضيتهما في الدير. لكنّ أمراً واحداً أعرفه، وهو أنّ ذلك اليوم كان بداية رحلة طويلة في البحث عن الإيمان. كثيراً ما اقتربت منه وأنا أبحث عنه، وكثيراً ما ابتعدت؛ ولكني كنت دائماً أكتشف، أن اقترابي منه وابتعادي عنه، لم يكونا نتيجة قناعات شخصية، إنما نتيجة تأثيرات خارجية. يُقال أن بعض الناس بحاجة إلى معجزة كي يجدوا الإيمان، وأعترف باني لم أمرّ بتجربة كهذه.
التفتُّ إلى الآخرين أبحث عن الإيمان في نفوسهم لعلني أستفيد من خبراتهم فيه، فوجدته إما نفاقاً، أو جهلاً، أو سذاجة، أو تقليداً، أو وراثةً.
وجدته لدى أغلب رجال الدين وظيفة يقتاتون منها، أو لدى آخرين تجارة مربحة. وجدته لدى أمّي الطيبة البسيطة أدعيةً تكرر كلماتها وتراتيل دينية تترقرق لدى سماعها الدموع من عينيها. كما وجدته لدى أم صديقي أحمد، ركعة صلاة أو ابتهالات وتعاويذ لا تفهم معناها، لا بل ولا تعرف من الدين غيرها.
وجدته لدى أناسٍ إعلانَ شهادةٍ ينطقون بها، ولدى آخرين غطسةً في جرن معمودية، أو تناول قربانٍ.
وجدته لدى الناس بمختلف أديانهم، حجاً إلى مدينةٍ أو إلى نهرٍ أو قبرٍ أو حجرٍ، أو تقشفاً واعتزالاً للدنيا، أو تنسكاً في معبدٍ أو باديةٍ أو جبالٍ وعرة. وجدته في أدائهم لشعائر مختلفة، كحلق الشعر، أو رمي الأحجار على شياطين وهمية، أو في عملية ختانٍ، أو وضوء، أو اعتراف بخطيئة، أو في طقوسٍ غريبة مضحكة تخوّل الفرد عند بلوغه سناً معيناً أن يصبح عضواً نشطاً في حلقة المؤمنين.
رغم ذلك، لم أتوقف عن البحث، وقادني بحثي من جديد إلى بعض هؤلاء الذين تحدثت عنهم أنفسهم. عدتُ لأجد الإيمان لدى كثيرين منهم على مختلف دياناتهم. ولم يكن غريباً أن وجدت الإيمان عند أقلِّهم معرفةً بالدينِ وعلوم فقههِ أو لاهوته. لا بل ليس غريباً أبداً إن قلتُ بأني وجدتُ من الإيمانِ عند بعض الملحدينَ ما لم أجده عند من يدّعون الإيمان!..
*********
وجدتُ الإيمان في بائع فواكهٍ على عربة صغيرة، وهو يزيد الكيل بحبة فاكهة إضافية كي يتأكّد أنه لم يضع في جيبه قرشاً حراماً.
وجدته في طبيب يعالج في عيادته فقيراً فلا يطالبه بمالٍ، إنما على العكس من ذلك، يعطيه من ماله ليشتري به الدواء.
وجدته في جنديٍّ يحمل عدوّه الجريح على ظهره إلى شاطئ السلامة.
وجدته في الأطفال، يلقى الواحدُ منهمُ الآخر، فيدعوه إلى اللعب معه دون مقدمات ودون سؤال عن أصلٍ أو دين.
وجدته في كريمٍ محسنٍ يعطي، لا غاية له من عطائه ولا يرجو العوض، كما ولا يفرّق بين محتاج وآخر بناءً على عرقه أو دينه.
وجدته في الأيدي الممدودة من أجل السلام، سواء آمن أصحابها بإلهٍ أو بحجر.
وجدته في عابر سبيل مسرع إلى غايته، ولكنه لا يتردد عن العودة مسافات، ليلتقطَ من الأرض قطعة زجاج خوفاً من أن تجرح قدماً تدوسُها.
وجدته في الحليم الصبور الذي لا يردّ على الشتيمة بمثلها.
وجدته في امرأةٍ رأت أن خيرَ ممارسة لطقوسها الدينية هي تلك التي تتم خارج جدران هيكلها، كالأم تيزيزا التي قضت جلّ عمرها بين الفقراء والمرضى في كالكوتا وغيرها من مدن الهند.
وجدته في آخرين من كل لونٍ ودينٍ وعمرٍ وجنسٍ، منهُ في كلٍّ منهمُ ما ليس لدى أنبياءَ وقديسين.
لقد رأيت كل هؤلاء، يطبقون تعاليم ذلك الشخص الذي لاحظتِ بأنني معجب به، سمعوا أم لم يسمعوا به، وآمنوا أم لم يؤمنوا به. لقد رأيته فيهم ورأيتهم فيه، ولا اعتقد انك تخالفيني الرأي بأنّ العالم لو عمِل بتعاليم هذا الرجل، لنعِمَ كل من فيه وعليه بالرخاء والسلام.
ذكرتِ في رسالتك أنك معجبة بي كل الإعجاب وأنك ترين في كتاباتي "إلهاماً لكثيرين من الناس الذين يملكون القدرة على التفكير".
في قولك من الثناء ما لا استحقه يا سوسن، لكني وإذ أشكرك عليه، أتوقف عنده لأسألك بدوري: إذا بلغ إعجابك بي حدّ اعتباري مصدر إلهامٍ لكثيرين، فماذا ترين بأقوال ذلك الرجل الذي مضى على مروره عبرنا، ألفان من السنين، ولا زالت كل كلمة من كلماته، مصدر إلهامٍ لأكثر من "كثيرين"، ومن بينهم أنا.
**********
تسأليني عما إذا كنت حقاً أومن بوجود الله، أو بإلهٍ مــا.
سأكون كاذباً معك إن أجبتك بقولي "لا"، وسأكون كاذباً مع نفسي إن أجبتك بقولي "نعم".
إن قلتُ بوجود إلهٍ فعليّ كمفكّرٍ يقع عبءُ إثبات ما أقول، وإن قلت ليس إلهٌ، فعليّ أيضاً كمفكّرٍ، يقع عبء الإثبات، وإني لمقرٌّ بأني عاجزٌ عن هذا وعن ذاك.
يولد الواحد منا وربما يكون "الله" أو أي اسمٍ آخر له، أولَ كلمة تغزو مسامعه. بارك الله.. ما شاء الله.. أراه الله أياماً حلوة.. حمداً لله على سلامتك.. للهِ ما أجمله من طفل..
ويكبر الواحد منا ولا زال يسمع باسم الله أو الإله في كل خطوة ومرحلة من خطوات ومراحل حياته. يخرج من البيت فتدعو له أمه بقولها، "الله معك.. برعاية الله.. أعادك الله بالسلامة.. وفقك الله.."
يتعامل الناس مع بعضهم، سواء آمنوا أم لم يؤمنوا بالله أو بإله، فيملّحون أحاديثهم باسمه كما يملّحون طعامهم.
نكبر ويصبح هذا الله أو الإله جزءاً منا ومن تفكيرنا سواء آمنا به أو لم نؤمن. سواء عرفنا من هو أو لم نعرف. وإذا ما حاول الواحد منا أن يرفضه فكأنما يحاول أن يرفض عضواً من أعضاء جسده. وإذا استمرّ على قبوله، فإنما يفعل ذلك إما تقليداً أو مُقنَعاً أو مُرغماً خائفاً من العقاب كما هو الحال في الإسلام.
أما أنا، فلا زلت أبحث عن الله، أو عن إلهٍ، بعيداً عن التقليد أو الإقناع أو الخوف من عقاب. أبحث عنه وربما أموت قبل أن أجده، ولربما يجدني هو قبل أن أجده. وحتى ذلك الحين، سوف أكتفي بأن أراه في من حولي من الناس، كبائع الفواكه الأمين، أو الطبيب الطيّب، أو الكريم الذي لا يرجو العوض، أو الجندي الذي يحمل عدوه على كتفه، أو اليد الممدودة لأجل السلام، أو عابر الطريق السامري الصالح، أو الحليم الصبور، أو الأم تيريزا. سأراه في بسمة كل طفل وفي حنان كل أمّ وفي عَرَقِ كلّ أبٍ، وفي كلّ ابنٍ يقدّم لأبيه وأمّه كتفاً يتّكئان عليها.
سأراه في الزهور التي تزيّن الطبيعة وفي الأنهار والجبال والغيوم والبحار. سأراه في كل ما هو جميلٌ، لأنني أتوقّع إن وجدته أن أراه جميلاً.
**************
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط