بسام درويش
/
May 15, 2004
طغى الحديث عن إساءة معاملة بعض السجناء العراقيين والصور التي تم نشرها مؤخراً، على كل حديث آخر في وسائل الإعلام، وعلى وجه الخصوص في وسائل الإعلام الأمريكية. لا بل أصبح الحديث عن هذا الموضوع هو الغالب بين المواطنين الأمريكيين، إذ ما يلتقي أمريكي بصديق له حتى يبادره بالسؤال عن رأيه بقصة معاملة السجناء العراقيين!
************
غنيّ عن الذكر أن إساءة معاملة السجناء أو تعذيبهم، ليس فقط أمراً مخالفاً لكل القوانين والأعراف الدولية، إنما هو قبل كل شيء أمر منافٍ للأخلاق الإنسانية التي تميّز المجتمعات الحضارية عن البربرية.
ليس هناك أمريكيان يختلفان على أن ما حدث هو أمر خطأ يجب التحقيق فيه ومحاسبة المسؤولين عنه.
المحررون في الصحف والمعلقون في الإذاعات والتلفزيونات، والواعظون في الكنائس، والسياسيون والمسؤولون الحكوميون أنفسهم.. الكل في أمريكا مستاء وغاضب، والكل يطالب بالتحقيق ومحاسبة المسؤولين كباراً كانوا أو صغارا. رئيس الجمهورية أبدى اسفه. الوزراء والقادة العسكريون خضعوا لاستجوابات ممثلي الأمة بينما كان المتظاهرون خارج المبنى يطالبون باستقالة هؤلاء الوزراء والقادة من مناصبهم.. والضجة لا زالت قائمة لم تهدأ.
ماذا تعني هذه الضجة الثائرة في أميركا على جميع الأصعدة الشعبية والدينية والسياسية؟
الجواب بسيط جداً: تعني أن هذه الأمة العظيمة بخير، وأنّ حدثاً كهذا لا يمثل وجه أمريكا الحضاري بأي شكل من الأشكال.
لكن، رغم ذلك، لا بدّ من القول بأن ردّة فعل الأمريكيين لهذا الحدث، كانت متسرّعة تسيّرها عاطفتهم النابعة من طبيعتهم الحضارية الأصيلة. مبالغتهم بالتمسك بهذه الطبيعة، هي التي أدت بهم إلى احتضان مجرمي الحادي عشر من أيلول وغيرهم قبل أيلول وبعده، لا بل ولأعداد هائلة من أمثالهم لا زالوا وللأسف يحتضنونهم.
أولاً: هؤلاء المساجين لم يصلوا إلى السجن بتهمة سرقة رغيف خبز أو مخالفة سير؛ لقد وصلوا إلى السجن لأنهم كانوا إرهابيين قتلة يحاولون العودة بالعراق إلى عهد التعذيب والاستهتار بحقوق الإنسان. أناس كهؤلاء لا يستحقون هذه الضجة ولا التعاطف. هؤلاء ليسوا في الحقيقة أسرى حرب اعتقلوا وهم يدافعون عن بلدهم تحت إمرة قيادة عسكرية. إنهم إرهابيون والإرهابيون ليسوا أسرى حرب. إن الاستمرار بالحديث عن إساءة معاملتهم يرفعهم إلى مصاف الشهداء الأحياء بينما هم ليسوا سوى مجرمين لا يستحقون أسفاً ولا تعويضاً على ضرر.
ثانياً: هؤلاء الإرهابيين الذين لا يفرقون بين جندي ومدني، أو بين موقع عسكري وفندق ينزل في الصحفيون، إنما يفعلون ذلك وهم على ثقة أنهم إذا وقعوا في أيدي الأمريكيين فإن الأسر سيكون مجرد رحلة استجمام لهم. يتوقعون العناية الطبية الممتازة بصحتهم وبأسنانهم؛ يتوقعون أن يكونوا على صلة بالعالم الخارجي بواسطة المنظمات الدولية أو بواسطة إمامٍ معين لتأمين الخدمة الروحية لهم؛ يتوقعون ثلاث وجبات غذائية صحية ونظيفة يومياً، كما يتوقعون أن يتم إطلاق سراحهم، بعد أن يعجز الأمريكيون عن الحصول منهم عن أية معلومات، أو على الأقل حين تنتهي الحرب. إنهم يعرفون أن وقوعهم بين أيدي الأمريكيين ليس كوقوعهم بين أسنان كلاب صدام حسين حيث لا "أمي ارحميني!.." ولذلك، فإن الأساليب المتحضرة في التحقيق معهم لمعرفة مصادر تمويلهم أو المتآمرين معهم لن تكون فقط غير مجدية، إنما ستؤدي إلى مقتل المزيد من الأمريكيين والعراقيين، أو لربما تنجح أخيراً بإعادة حكم الإرهاب والتعذيب نفسه!
ثالثاً: كل يوم نسمع عن سقوط جنود أمريكيين على يد الإرهابيين المسلحين. جنود يسقطون قتلى وهم يعملون في بناء الجسور أو مدارس جديدة أو مستشفيات للشعب العراقي. وآخرون وهم يوزعون الطعام على الفقراء، أو ينظمون السير، أو ينظفون الشوارع من إفرازات المجارير النتنة، أو يسهلون عمليات توزيع الوقود على المواطنين.. لنكن واقعيين: ترى ماذا نتوقّع من جندي يحرس مجموعة من أمثال أولئك الإرهابيين القتلة وهو يسمع عن سقوط رفاقه هؤلاء؟!.. لا بل، ماذا نتوقّع غداً من جندي يحرس مجموعة أخرى من الإرهابيين القتلة بعد أن شاهد اليوم أخوتهم البرابرة يهتفون "الله أكبر" وهم يقطعون رأس شاب مدني أعزل لا ذنب له إلا أنه يحمل الجنسية الأمريكية؟!.. هل يكون غريباً أن نسمع عن أحد هؤلاء الجنود وهو يقف فوق واحد من الإرهابيين يبوّل عليه هاتفاً "الله أكبر"؟!
رابعاً: في حين لا يُتوقّع من العرب بالطبع أن يصفّقوا لهذا الحدث، فإنّ ردة فعلهم عليها لا يمكن أن توصف إلا بالنفاق. ردة الفعل في أمريكا هي أمرٌ طبيعي جداً ومتوقعٌ من شعب لا يقبل الذل لا لنفسه ولا لغيره! أما ردة الفعل التي تبعث على الدهشة فهي تلك التي ارتفعت في الدول العربية والإسلامية!
في العالم العربي والإسلامي، ليس هناك من فرق بين "الحياة" ـ إن صحت التسمية ـ خارج السجون أو داخلها. الذين هم خارجها يعرفون أنهم قد يصبحون من نزلائها بإشارة من الحاكم، والذين هم داخلها لا يأملون بالخروج منها إلا إلى المقابر أو المستشفيات أو المصحات العقلية ـ إن خرجوا!..
حياة الإنسان في ذلك العالم، شعورٌ متواصل بالذل والمهانة والظلم والقهر، وقد اعتاد عليها حتى بات قانعاً بها قناعته بحتمية الموت. بات قانعاً بها قناعته بلون عينيه وبشرته أو طول قامته. حتى تقاسيم وجهه تعكس هذا الذل الدائم المتوارَث إلى درجة أنه ينزل من بطن أمه وعلامات الذل والقهر بادية في عينيه. لذلك، فليس غريباً ـ رغم وجود تشابه في السحنة بين شعوب البحر الأبيض المتوسط كلها ـً أن يسهل التمييز بين العربي والمسلم من جهة، وغيره من بني البشر، بمجرد النظر إلى عينيه!..
الإنسان في تلك البقعة من العالم يعيش الذل كمواطن، وكعامل، وموظف، وجندي، وتاجر.. يعيشه كطالب في كل مراحل الدراسة منذ البداية وحتى النهاية، ثم يعيشه بعد تخرجه وهو يبحث عن عمل!.. كل شيء في تلك البقعة من العالم له في قهر الإنسان يدٌ، بدءاً بالله ومروراً بكتاب المدرسة والنظام الحاكم، وانتهاء بهذا الإنسان نفسه الذي إذ يقبل بالذل أمراً طبيعياً، فإنه لا يرى في تطبيقه على أخيه الإنسان إلا أمراً طبيعياً أيضاً.
ردة فعل العرب والمسلمين على هذا الحدث ليست غضبةً لذلٍّ لَحِقَ بأخوان لهم، إنما لأن هذا الذل قد جاء على يد غير مسلمين. هذا كل ما في الأمر!.. الذل بالنسبة للعرب والمسلمين أمر مقبول طالما أتى من حاكم مسلم.(1)
أين كانت أصواتهم عندما كان صدام حسين يجدع أنوفهم أو يقطع أيديهم ثم يَشِمُ جباههم لجريمة ليست أكبر من سرقة رغيف خبز، أو بيع كيلو من السكر بقروش زيادة عن التعريفة الحكومية، بينما كان هو وأولاده وأفراد عصابته يسرقون أموال النفط والغذاء والدواء ويخزنونها في حساباتهم الخاصة؟!
أين كانت أصواتهم حين كان آباؤهم وأخوتهم ونساؤهم وأطفالهم يقادون كالنعاج إلى مقابرهم الجماعية؟..
أين كانت أصواتهم عندما كان مديرات المدارس تبعث بالتلميذات لأولاد صدام كالجواري لاغتصابهنّ؟..
من أعاد هذا الصوت لحناجر العراقيين، لا بل من شجّع كل الأصوات في كل أرجاء العالم العربي على الانطلاق؟..
لقد قضى العراقيون ما يزيد عن الثلاثة عقود من الزمن دون كرامة، وكان عذرهم أنهم كانوا يعيشون تحت نظام حكم مجرم لا يرحم. لكن، أن نجدهم اليوم لا يرون كرامتهم متمثلة إلا في حفنة من الإرهابيين يعملون على إعادة البلاد إلى سابق عهدها، فهو أمر يدفع للتساؤل عما إذا كان لدى هذا الشعب حقاً بعضُ كرامة؟..
ربما يمكن تفهّم غضبة العراقيين من منطلق واحد على الأقل، وهو خيبة أملهم في الأمريكيين الذين جاءوا تحت شعار تحريرهم من نظام كان يقوم على الإرهاب والتعذيب، لكن ما يصعب تفهّمه بأي شكل من الأشكال، هو إدانة حكامٍ ومسؤولين عرب لهذا الحدث، إذ أنهم آخر من يحق لهم الحديث عن حقوق الإنسان سجيناً كان أو طليقاً!
كلمة أخيرة أوجهها لشيخ الأزهر الذي صرح قائلاً "إن تعذيب السجناء جريمة لا تقبل التسامح": كان عليك يا شيخ أن تتذكر أنّ "قاتلوهم، يعذّبهم الله بأيديكم ويُخزِهم وينصركم عليهم ويشفِ صدور قوم مؤمنين." ليست فقرة من فقرات الدستور الأمريكي إنما من القرآن الذي هو دستور المسلمين (آية 14 سورة 9 التوبة).
لا بل أذكّر شيخ الأزهر أن نبيّه كان يأمر بتعذيب الأسرى وقتلهم أيضاً. أما حقارته فكانت تتجلّى في أن التعذيب لم يكن عقاباً لجريمة ارتكبوها إنما لإجبارهم على البوح بمخابئ كنوز أهلهم كي يستولي عليها!(2)
===============
(1) "من كَرِهَ من أميره شيئا فليصبر، فإنه مَن خرج من السلطان شِبرا مات ميتة جاهلية" (حديث لمحمد في صحيح البخاري)
"وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين وقد تظاهرت الأحاديث على ما ذكرته وأجمع أهل السنة انه لا ينعزل السلطان بالفسق.." (شرح النووي 12/229)
عن عبادة بن الصامت، قال: "دعانا النبي فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: أن بايعَنا على السَّمْعِ والطَّاعة، في منْشَطِنا ومَكْرَهنا، وعُسرِنا ويسرنا وأَثَرَةٍ علينا، وأن لا نُنازعَ الأمرَ أهلَهُ، إِلا أنْ تروْا كفراً بواحاً، عندكم منَ الله فيه بُرهانٌ). ونقل ابن حجر رحمه الله الإجماع على عدم جواز الخروج على السلطان الظالم: فقال قال ابن بطال : "وفي الحديث حجة على ترك الخروج على السلطان ولو جار وقد اجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء" (فتح الباري 13/7)
ويقول الطحاوي: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله ـ عز وجل ـ فريضة ما لم يأمروا بمعصية وندعو لهم بالصلاح والمعافاة"
(2) روى ابن إسحاق بسنده عن عبد الله بن عمر: "وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنانة بن الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من يهود، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة،؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك، أأقتلك؟ قال: نعم؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت، فأخرج منها كنزهم، ثم سأله عما بقي، فأبى أن يؤديه، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره، حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة"
وفي سنن البيهقي: ساق بسنده عن ابن إسحاق عن عبد الله بن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم فغلب على الأرض والزرع والنخل فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء ويخرجون منها واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكاً فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي ما فعل مَسْك حيي الذي جاء به من النضير. فقال: أذهبته النفقات والحروب. فقال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب. وقد كان حيي قبل ذلك قد دخل خربة فقال رأيت حيياً بن أخطب يطوف في خربة هاهنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني حقيق"
============
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط