بسام درويش
/
Jun 28, 2005
الفصل الأول
تداعى "الوطنيون" السوريون إلى عقد مؤتمر في واشنطن عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية في الثامن عشر والتاسع عشر من شهر حزيران يونيو 2005 وذلك للتباحث في كيفية الخلاص من نظام الحكم القائم في سورية، وإقامة نظام ديموقراطي مكانه.
ابتدأت الجلسة بمحاكمة موقع "الناقد" والكتّاب المساهمين فيه، وعلى وجه الخصوص بسام درويش حضورياً ووفاء سلطان غيابياً!
وبعد حوالي الساعتين، انسحب بسام درويش من القاعة، وبقي موضوع لسان "الناقد" الطويل مهيمناً على الاجتماع "التاريخي"، ثم ليتحول الحديث فيما بعد إلى مواضيع أخرى، غلب عليها طابع الخلافات بين "الوطنيين الأحرار" خلال ما تبقى من اليوم الأول وكذلك خلال اليوم الثاني.
في مساء اليوم الأول، تداعى "الوطنيون" إلى عقد جلسة خاصة في بيت أحدهم، ليكون أيضاً الحديث عن "الناقد" وبسام درويش، الموضوع الرئيس المهيمن.
كان هذا موجزاً سريعاً لأخبار الاجتماع التاريخي وسنوافيكم بالتفاصيل في نشرتنا الكاملة قريباً.
كان ذلك هو الموجز وإليكم التفصيل:
الاجتماع الذي عُقد في واشنطن في الثامن عشر والتاسع عشر من شهر حزيران يونيو الحالي، كان ثمرة جهود بذلها فريد الغادري رئيس حزب الإصلاح السوري.
لم يكن الغادري انتقائياً في دعوته للراغبين بالاشتراك في هذا الاجتماع، لأنه أراد حقاً أن يكون مفتوحاً لجميع السوريين بمختلف اتجاهاتهم السياسية وطوائفهم وكل راغبٍ بالعمل من أجل سوريا ديموقراطية حرة.
للأسف الشديد، تخلف عن حضور الاجتماع الأشخاص الذين كان يأمل فريد في حضورهم، بينما تداعى الإسلاميون، والإسلاميون المتسترون بالعلمانية (أو المنافقون) ليشكلوا في النتيجة غالبية المشاركين فيه.
مع كل ذلك، كان الغادري متفائلاً، اعتقاداً منه بأنّ ما تمر به سوريا اليوم، وكذلك ما عاناه شعبها من الحكم الحالي على مدى أربعة قرون ولا زال يعانيه، لا بدّ وأن يكونا أهمّ اعتبارين في نظر المجتمعين يشجعانهم على وضع كلّ الاعتبارات الأخرى جانباً، والتركيز على سوريا ومستقبلها كموضوع فوق كل الموضوعات.
خاب ظن فريد، ولن أستفيض في الحديث عن خيبة امله بالنيابة عنه، فهو أقدر بكل تأكيد على التعبير عن مشاعره. أما أنا فعلى العكس منه أؤكّد بأنّ توقعاتي لم تخب، إذ أنني بمجرد معرفتي بمشاركة بعض الذين حضروا الاجتماع الأول في شهر مارس، فقد كنت على ثقة كاملة بأن الغوغائية وضحالة التفكير سيكونان مظهراً رئيساً من مظاهر هذا الاجتماع أيضاً. لكن، وإذا اعتقدت أن اجتماعاً موسعاً كهذا يضم عدداً أكبر من المشاركين ربما يأتي ببعض الأصوات الجديدة المعتدلة والتي قد تضفي على الاجتماع طابعاً متوازناً، فقد كان لدي أملٌ ـ ولو ضئيل ـ في أن يكون بين الحاضرين بعض النسخ ـ ولو مصغّرة جداً ـ عن الدكتور زهدي الجاسر الذي كان بحقٍّ مثال الاتزان والموضوعية وسعة الصدر في اجتماع شهر مارس الماضي.
بدأ الاجتماع بقيام كل من المجتمعين بالتعريف على نفسه: اسمه، عمله، المدينة التي يسكنها، وغير ذلك من الأمور. منهم من استفاض في التعريف، ومنهم من أوجز، ما عدا أحدهم ـ حسام الديري ـ والذي اكتفى بذكر اسمه فقط؛ وحين طلب منه أحد المشاركين أن يستفيض، أجاب بطريقة تعبّر عن طبيعة سلبية وربما عن عقدة نفسية تُعرف بـ "الأنا"، بقوله: الاسم يكفي.. ماذا تريدون أكثر من الاسم!.. هذه السلبية لم تخفَ على السيد ريتشارد بيرل ـ أحد صانعي السياسة الأمريكية المحترمين ـ الذي جاء يشارك في اجتماع اليوم الثاني (الأحد) وذلك حين أبدى امتعاضه منه وعلق عليه قائلاً: "إني أتساءل لماذا أنت سلبي على هذا الشكل!!"
كان السبب في امتعاض ريتشارد بيرل هو خروج صاحبنا السلبي ـ المصاب بعقدة الأنا ـ عن أصول اللباقة بمقاطعته المستمرة للحديث وإبداء أراء تعبّر عن كراهية دفينة للطائفة الشيعية. امتعاض بيرل لم يتوقف عند ذلك الحد من التعليق، إنما قال بعد خروجه من الاجتماع بأن الإدارة الأمريكية ترفض على الإطلاق التعامل مع أناسٍ من هذه النوعية.
حين جاء دوري للتعريف عن نفسي، أردت أن أكون واضحاً فيما يتعلق بأسباب مشاركتي في الاجتماع فقلت، "أنا مواطن أميركي من اصل سوري وأعتبر هذا البلد وطناً لي وليس لي أية طموحات سياسية من خلال المشاركة في هذه الاجتماعات. كل ما أتمناه وأسعى إليه أن أرى سوريا حرة ديموقراطية محترمة كي يفخر أولادي وأحفادي حين يقولون إنهم أميركيون من اصل سوري.
بعد تلك الفقرة، افتتح الجلسة السيد محمد جبيلي ـ وقد رشحه المجتمعون لأن يكون رئيساً لها ـ بكلمة يبدو أن الاتفاق قد تم عليها مسبقاً بينه وبعض المشاركين في الاجتماع. ففي نهاية الكلمة قال السيد جبيلي (وللأمانة أشير إلى أنّ ما أنقله هنا ليس حرفياً) إنه لزاماً علينا أن نظهر للعالم أننا متفقين وأن لا نصرّح إلا بما يظهر التناغم بيننا، ولأجل هذه الغاية يجب علينا أيضاً أن ننسق بين مواقفنا فيما يتعلق بما نكتب أو نصرح به. ـ وتابع يقول: ـ فعلى سبيل المثال، لدى البعض منا مواقع على الإنترنت، مثل فلان.. وأنا.. والسيد بسام درويش.. علينا أن نستخدم هذه المواقع لما يخدم المجموعة وأن نبتعد في ما نكتبه فيها عن الطعن بعقائد الآخرين أو اتجاهاتهم.. إلخ..
وعند وصول السيد جبيلي إلى هذه العبارة، فوجئت به يطرح ما قاله للتصويت، فرفع جميع من في القاعة بأيديهم تأييداً، ولا شكّ أنه بعضهم قد فعل ذلك بحسن نية. لكن، وإذ كنت أصغي بانتباه إلى كل كلمة، خصوصاً بعد أن عرفت بما دار من أحاديث جانبية في اليوم السابق تعبّر عن امتعاض البعض من وجودي، إلى درجة بلغت بهم حد التخلّف عن الذهاب معنا إلى اللقاء الذي تم في وزارة الخارجية الأمريكية يوم الجمعة ـ أي اليوم الذي سبق هذا الاجتماع ـ فقد بقيت يدي منخفضة على الطاولة أمامي، بينما كانت نظرات المجتمعين ـ عدا أصحاب النية الطيبة ـ منصبة عليّ منذ اللحظة التي رفعوا فيها أيديهم لتأييد الاقتراح. والتفت إليَّ السيد جبيلي وهو يقول للمجتمعين: يبدو أن هناك معترضاً واحداً بيننا، فما هو وجه الاعتراض يا سيد بسام؟!
رددت على السيد جبيلي بقولي إن ما أعالجه في "الناقد" من مواضيع ليس له علاقة بما نحن مجتمعون هنا من أجله، وقلت إنني أرفض تقبّل أية توجيهات لأفكاري من أحد.
عند تلك اللحظة، انبرى عدد من الحاضرين دفعة واحدة يعلنون عن غضبهم بأصواتٍ مرتفعة، إلى درجة أعترف عندها بأنني هيّأت نفسي للاختفاء وراء محمد الجبيلي الذي كان يجلس إلى جانبي خوفاً من ان يستلّ أحد من هؤلاء مسدساً ويزرع رصاصه في رأسي. (مع الاعتذار من السيد جبيلي إذ لا أعني بأنني كنت سأستخدم جسده ترساً إنما قد خطر بفكري أنه كمحامٍ، لا بدّ وان يذكّرهم بالعقوبات التي سوف تواجههم إن تصرفوا بحمق)
آمل أن يفهم قارئي أنني لم اقل ما قلتُ إلا ساخراً فيما يتعلق بخوفي، رغم أنني لم استبعد قيام أحدهم بذلك!.. لقد شعرتُ بالخوفِ حقاً وأنا أتامل في وجوه وحركات السادة "الوطنيين"، لكن خوفي لم يكن على نفسي. فلو كنت أخشى على نفسي من هذه الأشكال لكنت أقلعت عن الكتابة منذ زمن بعيد بعد استلامي لأول تهديد بالقتل. بصراحة، إنّ ما أثار قلقي وخوفي هو أن أرى بعد هذا النظام الحالي الفاسد نظاماً قوامه شرذمة كهذه الشرذمة أو نماذج عنها.
إليكم أمثلة عن الأسئلة التي قضى السادة الوطنيون بضع ليالٍ وأيام قبل هذا "المؤتمر" يعدّونها لمناقشة موضوع تحرير سوريا وإرساء الديموقراطية فيها:
ـ يا سيد بسام إنك تدّعي العلمانية ولكنك تهاجم الإسلام ولا تتعرض للمسيحية. لماذا لا تهاجم المسيحية أيضاً؟!!
ـ يا سيد بسام كيف تدّعي العلمانية وتستخدم في مطلع كلمتك التي تعرّف فيها على "الناقد" عبارة من الإنجيل تقول: "الحق يحرركم"؟؟!!
ـ لماذا تحارب الإسلام؟..
ـ في إحدى مقالاتك قلت كذا وكذا.. ألا ترى في ذلك تجريحاً للإسلام؟..
ـ أنت يا سيد بسام تنتقد المقدسات وهي ثوابت.. عليك الابتعاد عن انتقاد الثوابت!..
ـ لماذا تتهجم على الإسلام ولا تتهجم على الكهنة الذين يتحرشون جنسياً بالأولاد.
ـ أنا بصراحة لم أطّلع على الناقد ولكني أعتقد أن النقد لا يكون في الطعن بمعتقدات الآخرين!!!!
ـ موقعك مخصص فقط للطعن بالإسلام.. هل تحدثنا عن هؤلاء الكتبة الذين خصصت لهم منابر خاصة لذلك.. من هم.. هل كلهم حقيقيون؟
******
وجدت نفسي صغيراً جداً أمام عمالقة الفكر هؤلاء، الذين قطعوا المسافات الشاسعة وجاؤوا إلى واشنطن للعمل على رسم صورة لسوريا المستقبل!!!
شعرت بالإحباط وانا افكّر فيما يمكنني أن أقوله دفاعاً عن نفسي. كذلك رأيت هذا الإحباط مرسوماً على وجوه بعض الحاضرين دون أن أعرف إذا كان إحباطهم تعاطفاً معي أو مع السادة القضاة. مشكلة هؤلاء أنهم بقوا صامتين خلال الجلسة، رغم أنهم قبل مغادرتهم الفندق بعد انتهاء الاجتماع اقبلوا إلي يقولون لي انهم يقدّرون أفكاري ويحترمون آرائي وأنهم كذلك سيتواصلون معي؛ وحتى الان، لم أسمع منهم كلمة أخرى.
مع كل ذلك، بذلت جهداً عظيما لتجاوز الإحباط كي أجيب على أسئلة عمالقة الفكر هؤلاء واحداً واحداً.
(لتفاصيلِ الأخبارِ تتمةٌ خلال الأيام القادمة، أما الآن فمع هذه الاستراحة الغنائية من كلمات الشاعر عمر أبو ريشة، تلحين وغناء لسان حال الشعب السوري:
إن خوطِبوا كذبوا أو طولِبـوا غضبوا أو حورِبوا هربوا أو صوحبوا غدروا
خافوا على العـارِ أن يُمحى فكان لهم على الرباطِ لدعمِ العــارِ مؤتمـرُ
على أرائكهــم سُــبحانَ خالقـهم عاشوا وما شعروا ماتوا وما قُبِـروا
*********************
الفصل الثاني
9 يوليو 2005
لزمت الصمت لبرهة من الزمن أتأمل في وجوه هذه الحفنة من الجثث المتحركة، باذلاً اقصى جهدي وأنا أنظر إلى جماجمهم، محاولاً سبرها علني أعرف ما إذا كان في داخلها أي نوع من الحياة! تأكد لي أن أي جواب على هذه الأسئلة سيصطدم بهذه الجماجم ولن ينتج عن اصطدامه إلا الصدى العميق!
مع كل ذلك، قررت الرد حيث كان هناك بينهم من لزم الصمت ينتظر ردي. على أي حال، وإذ لا يجوز لي أن أحكم على هؤلاء من خلال صمتهم لا سلباً ولا إيجاباً، فلا بدّ لي هنا من القول إنني لا أعني في حديثي هذا كل من حضروا الاجتماع.
******
بدأت ردي بإبداء استغرابي لاستهلال جلسة تاريخية كهذه ـ جاء اعضاؤها من كل حدب وصوب للحديث عن تحرير سورية ـ بمحاولة للحد من حرية أحد الأعضاء المشاركين.
توجهت بردي إلى ذاك الذي سألني "كيف يمكن أن أكون علمانياً وأنا أقتصر نقدي أو هجومي على الإسلام دون المسيحية؟"
في الحقيقة، إنّ نظرة رثاء إلى هذا الرجل كان يمكن أن تكون كافية بالنسبة لي، إذ لم أصدّق ان يطرح سؤالاً كهذا، إنسان يُعَوَّلُ عليه في تقرير مصير أمة!..
قلت له، هل لك يا سيد أن تطلعني على أي شيء في المسيحية يسيء إليك وأنا أعدك بانتقاده والتهجم عليه!!..
بصراحة، كنت على ثقة تامة بأنه يعرف الجواب على سؤالي، ولكني توقعت أن يسكت دون أن يجيبني بكلمة. لكنه فاجأني برده قائلاً: "طبعاً لا.. فالمسيحية معروفة بأنها دين تسامح!!!.."
"تهانينا يا سيد.. طالما أنك تعرف ذلك، فلماذا سألت ذلك السؤال أساساً؟!!"
الرجل يطالب بحصص متساوية من النقد للمسيحية والإسلام، وإلا فإن النقد لن يكون عادلاً!..
******
قلت لهذه الحفنة من مدّعي الثقافة والوطنية: دعوني ايها السادة أجيب على اسئلتكم هذه دون لف ودوران.
لو أنني أردت أن أكتب عن كل تحرش جنسي يقوم به كل رجل دين مسيحي كما اقترح أحدكم هنا، لكنت أضعت عمري كله وانا أكتب عما يفعل كل رجال الدين بمن فيهم رجال الدين المسلمون. أنا لا أنتقد أفراداً إنما أفكاراً وسياساتٍ وأيديولوجيات، خاصة تلك التي تسيء إليّ وإلى حريتي بشكل أو بآخر. لذلك فأنا لا أحارب الإسلام إنما أدافع عن نفسي ضدّ ما يعلّمه بشأني. الثوابت في نظركم ليست ثوابت في أنظار الآخرين، وما هو مقدس بالنسبة لكم لا يرى الآخرون فيه أيّة قداسة، وعلى وجه الخصوص حين يعني تهديداً لحرياتهم أو امتهاناً لكرامتهم.
يؤسفني يا سادة أن أسمع من يقول بينكم أنه لم يقرأ لي شيئاً، أو آخر يقول إنه قرأ مقالة أو بضع مقالة، ليأتي بعد ذلك ويتهمني بانني لا أفقه شيئاً في الإسلام أو انني أطعن فيه دون معرفة. أنصحكم بأن تعودوا لقراءة المزيد وبالذات مقالتي التي تحمل عنوان: "فلتتقدس حريتي.. آمين".
أما أنت يا سيدتي التي تتساءلين عن الكتّاب المساهمين في الناقد، فإني أجيبك بنعم؛ كلهم حقيقيون، وكلهم من الدين الذي تؤمنين به. أما عن سؤالك عن استعمالي لعبارة من الإنجيل تقول، "الحق يحرركم" واعتقادك بأن استعمالي لها يناقض علمانيتي، فهل تفضّلين أن اقول، "الكذب يحرركم"؟..(1)
******
بعد أن أجبت بما كنت على ثقةٍ بأنه لا بدّ سيدخل في أذُنٍ، ليخرجَ فوراً من أذُنٍ أخرى، رأيت أن الانسحاب من اجتماع ـ يشارك فيه أناس كهؤلاء ـ سيكون أمراً حكيماً؛ فقد خشيت حقاً أن يستفز وجودي بعض الحاضرين ـ أو على الأقل أحدهم ـ فيتصرف تصرفاً احمق. لكن، واستجابة إلى إلحاح البعض على بقائي، وافقت على البقاء مؤقتاً كمراقب فقط وحتى انتهاء الفترة الصباحية الأولى من الاجتماع.
وبعد أن قضى المجتمعون فترة من الزمن بحثاً عن اسم مناسبٍ لتنظيمهم، حان الوقت للعمل الجدي وياله من عمل جدّي!.. فخلال لحظات تم تقرير مصير حكومةٍ وأمةٍ بطرح اقتراحٍ للتصويت عليه:
"يا سادة، نحن مجتمعون هنا لهدف واحد، وهو إسقاط النظام القائم!.. على الموافقين أن يرفعوا أيديهم!.."
وطبعاً فقد بقيت يدي منخفضة ممدودة على الطاولة أمامي فالتفت السيد جبيلي إلي وسألني: وما هو وجه اعتراضك أيضاً يا سيد بسام؟..
أجبت بقولي إنني سبق وأن قلت لكم إن بقائي هنا هو كمراقب فقط ولفترة قصيرة. وعند إلحاح السيد جبيلي وآخرين على سماع رأيي ـ ويبدو أنهم كانوا يريدون حقاً معرفة ما إذا كنت معهم في هذا الهدف أم لا ـ أجبت قائلاً:
أعتقد أن بينكم هنا في هذه القاعة ثلاثة مهندسين، وبودّي أن أوجه إليهم السؤال التالي: إذا كان أمامكم بناء تريدون هدمه، هل تُقدِمون على هدمه قبل أن تُقَدِّموا لأصحابه مخططاً للبناء الجديد الذي سيحل محله؟.. أليس من المفروض أن تبدأوا بالحديث عن رؤيتكم لسوريا المستقبل وتطرحوا هذه الرؤية للتصويت عليها قبل أن تصوتوا على إسقاط النظام؟..
أخذ بعض الحاضرين يدلي كلٌّ برأيه دون أي نظام(2) هذا يقول، "طبعاً لدينا رؤية.. إننا نسعى إلى نظام ديموقراطي.." وثانٍ يقول، "نظام حر.."، وثالثٌ يقول، "نظام تعددي.." وإلى ما هنالك من شعارت.
أجبتهم بأن كل الأنظمة الموجودة تدّعي أنها ديموقراطية وحرة وتعددية. أنا على ثقة بأن مفهومكم لهذه الشعارات يختلف عن مفهوم غيركم لها، ولذلك، إن لم يكن الشعار الأول "فصل الدين عن الدولة"، فإننا سندور في حلقة مفرغة وستبقى كل هذه الشعارات مبهمة وفارغة المضمون.
وارتسم الغضب فوراً على وجوه الجميع بمن فيهم المنافقون الذين يدّعون العلمانية بينما هم أكثر الناس رفضاً للغير من منطلقات دينية تعصبية كريهة. أخذ كل منهم يقف ملوحاً بقبضته، أو يضرب بيده على الطاولة؛ ذاك يتهمني بأنني ما جئت إلا لأرمي التفرقة بينهم، وآخر يقول بأنني فتنة.. وتعالى صراخهم وأنا صامت أنظر إليهم مشفقاً عليهم، لا بل مشفقاً على نفسي لوجودي بينهم. نهضت أخيراً وأعلنت أنني سأترك لهم القاعة وقلت لهم وأنا في طريقي إلى خارجها، إنّ نظاماً جديداً يصل بأمثالكم إلى الحكم لن يكون أفضل من النظام الحالي رغم فساده.
**********************
(1) بالمناسبة، ألفت هنا نظر القراء، إلى أن هذه العبارة قد وردت في المقدمة القديمة للناقد والتي أشرت فيها أن استخدامي لها لا يعني أن الموقع يهتم بالروحانيات، إنما لما وجدت فيها "من حكمة بليغة تتناسب وغايتي من إصدار هذه المجلة، حيث أردت لها أن تكون منبراً للحق، يعتليه الذين يجدون لدى أنفسهم الجرأة على قول الحق دون خوف من أحدّ".. ـ لذلك، يسعدني أن أعود لأستخدامها شعاراً ثابتاً في المقدمة الجديدة، ولتكن شوكة في أعين كل الذين يكرهون كلمة الحق!
(2) هذا على الرغم من أنني في الليلة السابقة للاجتماع قد توقعت هذه الفوضى، ولذلك اقترحت عليهم التزام اسلوب حضاري في النقاش. ومما اقترحته كان تحديد وقت لحصة كل شخص بالحديث، وعدم مقاطعة الآخرين، وكذلك أن يضع كل شخص لصاقة على صدره تحمل اسمه: وهو أمر لم يفعله حسام الديري المصاب بعقدة "الأنا" لأنه بنظر نفسه أشهر من نار على علم!
*******************
الفصل الثالث
مغادرتي للقاعة لم تعنِ جهلاً بما كان يجري داخلها خلال اليوم الثاني وما تبقى من اليوم الأول. فبين الفترة والأخرى، كان يخرج من القاعة "واحد حردان" ليلحق به آخر يهدّئ من غضبه على الطريقة "تبويس الشوارب" العربية؛ ومن خلال الخارجين والداخلين، فهمت أن الاختلاف كان على توازع المناصب الوزارية.
وفي اليوم الثاني جاء السيد ريتشارد بيرل إلى الاجتماع بصحبة شخصين كان أحدهما يتكلم العربية بطلاقة، ولم تطل فترة بقائه داخل القاعة، إذ اكتفى بما سمع من أخذ ورد بين زعماء المستقبل، سارع بعد ذلك بالخروج ليرفع تقريره لمركز البحوث عن الأمراض العقلية. اما ريتشارد بيرل، فبقي تأدباً لفترة أطول على الرغم من استيائه من حسام الديري لتهجمه على كل ما هو شيعي أو علوي.
في مساء يوم الأحد، (اليوم الثاني والأخير للاجتماع) جاء لعند فريد الغادري ـ وكنت آنذاك وإياه بصحبة آخرين ـ مَن يحمل رسالة من الإدارة الأمريكية تقول، إنّ هذه الإدارة لن تتعرف على، أو تتعامل مع، اي مجلس معارضة لا يخرج ببيان يتضمن بنداً ينص على السعي لإقامة نظام يفصل الدين عن الدولة فصلاً تاماً. إضافة إلى ذلك، قال حامل الرسالة إن هناك بين أعضاء هذا "المؤتمر" من ترفض الإدارة التعامل معهم على الإطلاق بغض النظر عما قد يتضمنه البيان وكان اسم حسام الديري على رأس القائمة.
وفي صباح يوم الإثنين، عاد حامل الرسالة ليضيف أسماء كثيرة اخرى على لائحة المغضوب عليهم من الضالين. بعد ذلك، وقبل مغادرتي واشنطن بساعات، جرى هناك لقاء مصغر في قاعة الفندق لساعة من الزمن أو أكثر، شارك فيه فريد الغادري ومحمد الجبيلي ونجيب الغضبان وشخص آخر شارك في المؤتمر فضّل أن يكون اشتراكه بصفة مراقب. خلال هذا اللقاء، وضع الجبيلي على الطاولة أمامنا نص البيان الذي أعدّه "المجلس"، وكان الرد عليه فوراً أنه إنْ لم يتضمن إشارة إلى علمنة الدولة فإن مصيره هو و"المجلس" الذي أصدره سيكون التجاهل تماماً من قبل الإدارة الأمريكية. هنا، وجه محمد الجبيلي كلامه إليّ قائلاً، "أنا ليس عندي أي مانع في إضافة هذا البند.. بل على العكس تماماً أنا مع علمنة الدولة". آنذاك، رفع نجيب الغضبان يده معترضاً وقال: إني أعترض.. أنا إسلامي ولا أقبل بنظام لا تكون فيه الشريعة الإسلامية مصدر التشريع.
هنا بدأ حوار "ممتع" بيني وبين السيد الغضبان.
قلت له هل لك يا دكتور نجيب أن تحدثني عن وضع الأقليات في ظل نظام يستمد دستوره من الشريعة الإسلامية؟ اجاب على الفور، "كل الناس سيكونون متساوين في كل شيء لأنّ الإسلام يكفل لهم ذلك.. ولا يهمني حتى لو انتخب للرئاسة مسيحي!"
قلت له، اسمح لي إذن أن أبرهن لك من تعاليم الإسلام، أن المساواة بين الناس في ظل الشريعة الإسلامية أمر مستحيل!
كان رد نجيب على الفور كمن لسعته حيّة، والسبب في ذلك أنه قد كان له تجربة معي في شهر مارس الماضي لا يرغب بتكرارها. لا بل كان له تجربة من هذا القبيل مع الدكتور زهدي الجاسر الذي أعطاه نفس الجواب الذي أعطيته أنا اليوم.
قال بسرعة: أنا لا اريد أن اتحدث معك بأمور الدين.. لا اريد ان أتحدث معك!..
قلت: ألا تريد ان تسمع الرأي المخالف لرأيك؟.. لماذا تخشى من سماع الجواب؟
ـ انا لا أخشى شيئاً.. أنا أعرف أننا لن نصل إلى نتيجة!
ـ إنك تعتقد اننا لن نصل إلى نتيجة لأنك لا تريد أن تصل إلى نتيجة. النتيجة لا تعجبك.
ـ رجاء.. أنا لا اريد أن اتحدث في أمور الدين معك!
قلت، حسناً، دكتور نجيب. لن أدخل معك في نقاش في أمور الدين. اقترحت عليه ذلك لعلمي اليقين بأن السبب وراء رغبته في عدم الخوض في نقاشٍ معي هو عملاً منه بما يقول القرآن: "وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا فأعرِضْ عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره.." (الإنعام 68).. قلت له: لا اريد أن أخوض معك في أمور الدين.. لكن، على الأقل أرجو أن تجيب على سؤالٍ لي. ربما أنا لا أفهم ماذا تقصد بالشريعة الإسلامية.. هل لك على الأقل أن تشرح لي ما هي الشريعة الإسلامية التي ستكون مصدراً للدستور.. نوّرني رجاء يا دكتور.. ماذا تعني بالشريعة كمصدر للدستور؟..
قال على الفور: القرآن والسنّة والإجماع.
ـ أنا افهم ماذا تعني بالقرآن. لكن ماذا تعني بالسنّة؟. (اردت أن أجرّه للدخول في الموضوع جراً)
قال: السنّة تُستوحى من الأحاديث النبوية.
ـ إذن فمعنى ذلك أن غير المسلمين بنظرك سيكونون متساوين مع المسلمين في ظل دستور مستمد من القرآن والسنة ـ التي هي الأحاديث ـ والإجماع؟
قال: نعم
ـ إذن هل يمكن أن تقول لي ما هو وضع الإنسان الذي "لا عقل له" في ظل الدستور.. أعني المجنون.. هل له حقوق مثل غيره من الناس؟..
ـ ماذا تعني بذلك؟..
ـ هناك حديث لمحمد يصف المسيحي بأنه لا عقل له.. كيف يمكن لفئة من مواطني هذا المجتمع، تعتبرهم "السنّة" بدون عقل، أن يساهموا في إدارة الدولة أو في أية وظيفة من وظائفها؟..
قال: لم أسمع باي حديث يصف المسيحي بأنه لا عقل له؟
ـ إليك الحديث: جاء إلى رسول الله رجل وقال، يا رسول الله ما أعقل فلاناً النصراني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه ((أي أسكت)) إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى، "وقالوا لو كنا نسمع ونعقل ما كنا في اصحاب السعير".
قال: هذا حديث لم اسمع به وليس موجوداً.
ـ الحديث موجود وقد وجدته في حاشية تشرح الاية القرآنية المذكورة في تفسير الجلالين.
وبقي نجيب مصمماً على أن هذا الحديث مختلق وليس موجوداً، فقمت إلى جهاز الكمبيوتر الذي أحمله معي وأردت أن أريه نسخة من تفسير الجلالين مع الحاشية، إلا أنه رفض وشدد على الرفض وأدار وجهه قائلاً، لن أنصت إلى أي شيء من هذا.
ـ حسناً.. لن أتحدث عن هذا الموضوع.. دعك من السنّة.. دعك من الأحاديث، فلسوف تقول لي هذا موجود وذاك غير موجود.. هذا ضعيف وهذا منسوب أو مختلق.. لكن ماذا عن القرآن؟ ألا تؤمن بأن القرآن صالح لكل زمان ومكان؟
أجاب على الفور: طبعاً
ـ هل يمكنك أن تنكر وجود الآية 29 من سورة التوبة التي تقول: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق (أي الثابت الناسخ لغيره من الأديان وهو دين الإسلام.. حسب تفسير الجلالين) من الذين أوتوا الكتاب (أي المسيحيين واليهود حسب المصدر نفسه) حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون." (أي أذلاء منقادون لحكم الإسلام. حسب المصدر نفسه).. وقبل ان أتابع، ما رايك بكلمة "صاغرون"؟..
ـ معك حق.. قوية!!
ـ هل تعتبر زمن هذه الآية قد ولّى وأنها غير صالحة للتطبيق الآن وأنه لن يُطلب من المسيحيين تحت نظام مستمد من الشريعة الإسلامية أن يختاروا بين الإيمان بالإسلام أو يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون؟..
تململ الدكتور نجيب وقال: هناك مجتهدون وهناك إجماع يا سيد بسام.. ولا شك في أنه سيكون هناك في الحكم جماعات من المجتهدين ترى أن القرآن يجب أن يطبّق حرفياً في هذا الخصوص أو غيره. لكن، هناك من المجتهدين من يقدّر تماماً العلاقة بين الحدث والنزول ويعرف أن الزمن قد مضى بالنسبة لبعض الأحداث، وبمضيّه تنتفي الحاجة إلى أحكام معينة.
قلت هذا كلام جميل رغم أنني أجد صعوبة في الاقتناع به، إذ أنك منذ لحظة اعترفت بأنك تؤمن بأنّ القرآن هو لكل زمان ومكان. لكن هل يمكن أن تقول لي: من أي فريق من المجتهدين أنت؟ أمن الفريق الأول الذي تحدثت عنه أم الفريق الثاني؟
قال: من الفريق الثاني طبعاً
ـ إذن هنا نصل إلى دور الإجماع. ماذا يضمن للمسيحيين وغيرهم أن ترجح كفة "المعتدلين" أمثالك يا دكتور نجيب؟.. هل يعيش المسيحيون على كف عفريت لا يعرفون على يد مَن مِنَ المجتهدين سيكون قرار مصيرهم؟..
وفاجأني الدكتور نجيب بقوله: هذا حقيقي. ليس هناك ما يضمن ذلك.
ـ إذا كان هذا هو جوابك يا دكتور، أفلا يكون نظامٌ يفصل الدين عن الدولة، أعظم ضماناً لجميع الديانات والأعراق والاتجاهات من نظامٍ يستمد دستوره من شريعة دين واحد.. بغض النظر عن هذا الدين؟..
صمت الدكتور وأدار وجهه عني وتوقف عن الأخذ والرد معي.
أعترف أنني بدأت آنذاك أشعر بصداع كبير. كيف لهذا الرجل أن يعيش مع هذه القناعات المتناقضة؟.. لو كنت مكانه لكنت قد أصبت بالجنون، ولكن يبدو أنه جنون قد اعتاد عليه أخوتنا المسلمون فعرفوا كيف يتعايشون معه.
انتهى حديثي مع الدكتور نجيب إلى "لا نتيجة" تماماً كما قال هو في البدء!.. الرجل يعرف تماماً انّ الأمر ليس بيده منذ أن وضع "الخالقُ" القرآن في قلبه وعقله وأغلق عليهما الباب ثم اخذ المفتاح واختفى في سمائه السابعة.
والتفتُّ آنذاك إلى السيد محمد الجبيلي أبادله الحديث بعد أن انتهى هو الآخر من حديث كان يتبادله مع فريد الغادري، ولكني بحديثي مع الجبيلي قد فوتُّ فرصة سماع ما قاله الدكتور نجيب لفريد ولصديقي الذي كان يجلس إلى جانبه: بصراحة أنا لا أريد التحدث مع بسام درويش.. ربما أرشّح نفسي للرئاسة وانا لا يناسبني أن يقال عني بأنني تحاورت معه!!!
******
فقراتٌ أخرى من هذا الاجتماع أدوّنها للتاريخ:
ـ في السابع عشر من الشهر، وخلال الاجتماع الذي جرى في وزارة الخارجية الأمريكية مع ممثلين عن الإدارة، كانت امارات الجهد تبدو على وجوه أعضاء الجانب الأمريكي وهم يحاولون فهم ما يقوله بعض "الدكاترة" السوريين باللغة الإنكليزية!
كان من المفترض لهذا اللقاء ان يضم عدداً لا بأس به من السوريين، ولكن لم يأتِ سوى خمسة وهم، فريد الغادري والدكتور موفق بني المرجة، والدكتور محمد الخوام، وأنا؛ أما الخامس، ـ وهو الدكتور فهمي خير الله ـ فقد رُفض دخوله في بادئ الأمر لأنّ اسمه لم يكن موجوداً على قائمة الوزارة، ولم يُسمَح له بالدخول حتى سعى له بذلك الغادري لما له من علاقة جيدة مع الوزارة.
عدد الممثلين عن الإدارة الأمريكية كان ضعف عدد السوريين؛ ولقد استمر اللقاء لفترة ساعة من الزمن تقريباً. هنا أشير إلى أنني لن أدخل في تفاصيل ما دار خلال اللقاء، وعدم قيامي بذلك لا يجب أن يُفَسَّر بأن أموراً بالغة الأهمية قد دارت ولا يجوز البوح بها، إنما لأنّ لكل حديث أوانه.
بعد انفضاض الاجتماع، ذهبنا إلى الفندق الذي اختير لعقد المؤتمر، وهناك وجدنا بعض السادة "المعارضين" جالسين في بهو الفندق. كان هناك بعض الوجوه التي عرفتها من اجتماع شهر مارس الماضي، ومن بينهم حسام الديري الذي عرفت تماماً بمجرد رؤيتي له أن الاجتماع سيكون مهزلة ما بعدها مهزلة. ففي ذلك الاجتماع (الأول)، كان صوت المذكور (وبالمناسبة فإن له صوتاً لا أعتقد أنّ إنساناً على وجه هذه الأرض سيكون سعيداً بسماعه لو احترف الغناء) يلعلع في أرجاء المبنى معترضاً على كل شيء يقال ـ عدا ما تقوله أخته سلمى بالطبع ـ إلى درجة خرج عندها أحد الحاضرين ليتأكد من أن الموظفين الموجودين في المبنى لم يسارعوا إلى طلب البوليس ظناً منهم أن معركة قد نشبت بين السوريين.
كان هنالك أيضاً من لم يسبق لي وان تعرفت عليهم، ومنهم السيد احمد الجبيلي الذي دعاني للجلوس إلى جانبه. وبعد التعارف وتبادل بعض الأحاديث سألني عن اللقاء الذي تم في وزارة الخارجية. قلت له على الفور بأنني أستغرب عدم مشاركته في اللقاء، فجاءني جوابه أكثر مدعاة للاستغراب. قال إنه مستاء من التصريحات المتناقضة لكونداليسا رايس والتي تعبّر ـ بنظره ـ عن عدم جدّية الإدارة الأمريكية فيما يتعلق بالنظام الحاكم في سوريا. قلت له، هل يعني ذلك أن عدم حضور اللقاء هو بمثابة احتجاج على سياسة الإدارة الأمريكية؟ فكان رده بأن هذا صح.
بصراحة، استغربت أن يصدر كلام كهذا من إنسانٍ يحمل شهادة محاماة. هل يعقل أن يرفض محامي دفاع حضورَ جلسةٍ احتجاجاً على تصريحاتٍ اطلقها القاضي أو شخصٌ يمثل القاضي؟.. قلت للسيد جبيلي: اسمح لي أن أخالفك الرأي يا سيد. من أنت ومن أنا حتى نعتقد أن الإدارة الأمريكية ستعير اهتماماً لعدم لقائنا مع ممثلين عنها. كيف للإدارة الأمريكية أن تعرف أنك تحتج على تصريحات رايس إذا لم تذهب إلى الاجتماع وتعبّر عن رأيك هناك؟..
هنا، لا بدّ لي وأن أعطي الرجل بعض التقدير من حيث تمتعه بالمرونة في الأخذ والرد مع الآخرين، إذ أجابني قائلاً: معك الحق في هذا! (تبين لي فيما بعد ان مرونة السيد جبيلي تساعده على اللعب على كل الحبال) مع كل ذلك، فإنني لم أقتنع بجوابه عن سبب عدم حضوره اللقاء. الحقيقة إنني طرحت ذاك السؤال وأنا أعرف جوابه مسبقاً، إذ أكّد لي اثنان من الحاضرين أن السبب وراء تخلف البعض عن اللقاء في وزارة الخارجية كان احتجاجاً على وجودي أنا، وليس على تصريحات كونداليسا رايس!.. كذلك أكّد لي هذان الشخصان أن المحرّض على عدم الذهاب كان المدعو حسام الديري.
من هو حسام الديري؟..
بصراحة لا اخفي على قرائي انني لم أكن قد سمعت باسم هذا الشخص من قبل إلى أن اجتمعت به وبوالده في الليلة الأولى لوصولي إلى واشنطن في شهر مارس الماضي. لكنّ بضعَ ساعةٍ من الزمن، قضيتها مع الاثنين في بيت مضيفنا، كانت كافية لكي تؤكّد لي أن هناك خطأ ما في تركيبة الرجل. وعرفت سلفاً أنه إذا كان هناك من مشكلة ستبرز على طريق هذه المسيرة، فإن هذا الرجل سيكون مصدرها، ولم أتردد في الإفصاح عن ذلك.
ـ خلال اليوم الأول للاجتماع، بدا لي أن هناك في القاعة من كان ينظر إلى ساعته ثم يلتفت إلى الباب متحرقاً بانتظار وصول أحد!.. وعند وصول هذا الأحد، تنفس صاحبنا الصعداء. حضور "هذا الأحد" ـ السيد لطفي حداد ـ لم يدم إلا ساعتين تقريباً ترك بعدها ولم يعد. وظهر واضحاً أن غاية المذكور من تشريفه، كانت تلبية لرغبة بعض الأعضاء الذين أرادوا أن يقولوا لبسام درويش إنه لا يعبّر عن رأي الأقليات المسيحية وإن المسيحيين لا يشاركونه الرأي على الإطلاق. السيد لطفي لم يُدلِ بأي رأي في اي موضوع إلا حين دار الحديث عن نظام يفصل الدين عن الدولة، إذ قال آنذاك وكأنّهم "حفّظوه" قرآنه تحفيظاً: "أنا لا أعترض على نظام ينص دستوره على أن دين الدولة هو الإسلام ويستمد قوانينه من الشريعة الإسلامية. أنا أؤمن بأن الإسلام يمنح جميع الناس حقوقاً متساوية ولا يفرق بين احد." انتهت مهمته وجلس مستمعاً!.. وبعد انسحابي من الاجتماع بفترة بسيطة، خرج الحاضرون للاستراحة بعد الغذاء فاقبل السيد لطفي حداد إلي يشدّ يدي مصافحاً بحرارة والفرح يطفح على وجهه قائلاً لي: "إني سعيد بلقائك يا سيد بسام.. إنني أقرأ الناقد باستمرار وأنا معجب بكتاباتك!!"
أوشكت أن "أبقّ البحصة" في وجه ذلك الرجل لولا أنني تمعنت فيه فلم أرَ فيه إلا وجهاً "طفولياً" ترتسم عليه ابتسامةٌ أكثر "طفولةً". شق علي حتى مجرد التفكير بالنقر على رأسه نقرة صغيرة لتحريك ما فيه قليلاً. ابتسمت بوجهه وقد حضرني قول الشاعر ابن المعتز، "وحلاوة الدنيا لجاهلها ـ ومرارةُ الدنيا لمن عقلا"، وقلت له "أنا سعيد بسماع ذلك.. هل حقاً تقرأ.. الناقد؟.." ثم نظرت في عينيه لأرى ما إذا كان قد فهم قصدي من توقفي لبرهة بين تقرأ.. و، الناقد!.. وجاء جوابه، "طبعاً طبعاً.."؛ آنذاك ودّعت الرجل وأنا أقول: يا حرام!
ـ خلال اليوم الثاني "علقت الخناقة" بين الإسلاميين أنفسهم، وانسحب الدكتور موفق بني المرجة من الاجتماع بعد أن حاولوا تحجيم دوره لأنه كما يبدو كان أكثرهم ميلاً إلى الحوار مع الطرف الآخر. كذلك استاء بني المرجة من لسان حسام الديري الذي لا يعرف أي شيء عن "أصول اللياقة في التعامل مع الآخرين" حسب تعبير بني المرجة.
بالمناسبة، فخلال الاجتماع الجانبي الذي جرى في بيت الديري مساء يوم السبت، والذي كان جلسة مؤامرة ضد الغادري، كان الحديث الغالب عن بسام درويش حيث طُبعت بعض مقالاته من "الناقد" لتبيان ما فيها من "تهجم" على الإسلام. فتحدث الدكتور بني المرجة قائلاً لهم: إننا نخطئ يا اخوان في تعاملنا مع بسام درويش. أليس من الأفضل لنا أن نرحب به ونتعامل معه كفردٍ يمثل مجموعة لا يمكن أن ننكر ووجودها، ولو فعلنا ذلك على الأقل لأظهرنا للعالم أننا متقبلون للطرف الآخر مهما بلغ تطرفه.
على الرغم من يقيني بأن بني المرجة لا يقبلني هو أيضاً في قرارة ضميره، وأنه لن يكون لي وجودٌ في نظامٍ يحكم من خلال أيدولوجيته، لكني رأيت أن أذكر هذه الواقعة لتبيان مقدار تطرّف هذه الشرذمة من الإسلاميين والذي بلغ بهم حد التخلّص من واحدٍ منهم لشكّهم باعتداله وذلك على مبدأ أبي مسلّم الخراساني: "من شككتَ به فاقتله!!"
ذلك اليوم الثاني كان يومَ صراخ واتهامات متبادلة انتهت بتخلي الدكتور محمد الخوام عن صاحبه دكتور موفق بني المرجة، فقرر الأخير على اثر ذلك الانسحاب من الاجتماع. لذلك لا غرابة أن يخرج السيد ريتشارد بيرل بعد تشريفه للحاضرين وهو يضرب يداً بأخرى، ولا شكّ في أنه كان يردد المثل الشامي القائل: "إذا كان هذا هو الموس اللي بدو يحلق شعرتنا خليها تصل لركبتنا!.. أما فريد الغادري فقد غسل يديه هو الآخر وانسحب يردد مثلاً آخر بسبب ما أصيب به من إحراج بهذه الشرذمة: دلاّل لا تنادي ولا تشمّت الأعادي!!..
ـ على الرغم من كل ما يوجع القلب في هذا الاجتماع، فقد كانت هناك عبارة طريفة مسلية تتردد على ألسنة الجميع دون استثناء وهي "النظام الطائفي في سورية". عبارةٌ مقبولة حين تصدر عن علمانيين، لكن أن تصدر عن إسلاميين يريدون حكماً يستمد دستوره من الشريعة الإسلامية، فإن الإنسان لا يملك عند سماعها إلا الضحك. ترى أي صفة سنطلقها على النظام القادم إذا وصل أمثال هؤلاء المتخلفين إلى الحكم حقاً؟
******
بعد انتهاء الاجتماع بأيام، جرى الإعلان من قبل هذه الشرذمة ـ التي وحّد بين أفرادها الجهل والحقد على الأقليات ـ عن تأسيس مجلسٍ دعوه "المجلس الوطني السوري" والذي كاد اسمه أن يكون "مجلس التعاضد والتكاتف والتساند الاتحادي السوري" لولا تدخّل أحد العالمين ببعض شؤون اللغة في الاجتماع، والذي قال لهم: يا جماعة.. هذه الكلمات كلها تعني الأمر نفسه!!!
تضمّن هذا الإعلان أسماء أعضاء الحكومة المؤقتة وهم:
اللجنة التنفيذية:
محمد الجبيلي: حزب التجمع من أجل سوريا (إذا كان هناك قارئ قد سمع بهذا الحزب من قبل فنرجو منه أن يكتب لنا بعض الشيء عنه لنعرّف الناس به) ـ محمد الخوام: منبر التضامن للحريات (الذي كان مكوناً منه ومن شريكه د. موفق بني المرجة إلى أن تدخّل أولاد آدو وفرقوا بينهما) ـ حسام الديري: تجمع الأحرار الوطني الديمقراطي (لهذا لحزب قاعدة جماهيرية واسعة في شيكاغو مكونة من الأب والابن ـ والبنت ـ) عبد المهيمن السباعي: الجمعية الأميركية السورية (أصبح عدد الجمعيات الأمريكية السورية ينافس عدد الأحزاب السورية في داخل سوريا وخارجها) نجيب الغضبان: مستقل (مستقل فقط عن الأقليات)
لجنة الإعلام:
مرح البقاعي: صحافية، تريد ان تعيد سورية إلى التاريخ!! (كما قالت في الاجتماع)
فهمي خير الله (خبير بغرف النقاش مع الأخوان المسلمين)
نجيب الغضبان (مسؤول اللجنة للحوار بين العقائد!!)
سلمى الديري (العضو الثاني في "تجمع الأحرار الوطني"، وربما تطمح لمنصب رئاسة الوزارة.. ولمَ لا؟.. هل السيدة غولدا أحسن منها؟..)
اللجنة المالية: محمد خوام (سبق ذكره) ـ هيثم قضيماتي ـ دياب سراج ـ أحمد مسكي ـ أحمد مكتبي (نرجو من القراء الذين سمعوا بأي مآثر عن هؤلاء الوطنيين الأحرار أن يكتبوا إلينا ويزيدونا علماً)
لجنة الاتصال بفئات المعارضة: (المعارضة في الداخل والخارج متحرقة لسماع أصوات هؤلاء!)
محمد الجبيلي ـ محمد خوام ـ إياس المالح
المتحدث الرسمي باسم المجلس:
محمد الجبيلي (متحدث باسم المجلس رسمياً، وضد المجلس مع كل من يستضرِط المجلس)
******
في نهاية هذه النشرة، إليكم سيداتي سادتي موجزاً لما ورد فيها من أنباء:
ـ اجتمع في شهر يونيو حزيران الماضي عدد من السوريين الأمريكيين في فندق ريجنسي في واشنطن. الغاية من الاجتماع هي دراسة السبل لتحرير سورية، وكان برنامج عملهم كالتالي:
اليوم الأول:
· ساعتان لمحاكمة بسام درويش وموقع الناقد
· ساعتان لاختيار اسم للمجلس التأسيسي
· دقيقتان للتصويت على إسقاط نظام الحكم في سوريا
· استراحة لتناول طعام الغذاء من مطعم عربي مختص بالأطعمة "الحلال".
· ثلاث ساعات بعد الظهر "خناقات" بين أعضاء المؤتمر
· سهرة في بيت الديري لشتم بسام درويش
اليوم الثاني:
· ثلاث ساعات تبادل اتهامات وشتائم
· استراحة
· ثلاث ساعات تبادل اتهامات وشتائم
· ختام الاجتماع بما يتيسر من آي الذكر الحكيم
اليوم الثالث: (بعد انتهاء الاجتماع)
الدكتور نجيب الغضبان يعلن عن إمكانية ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية الإسلامية السورية!!..
******
أما الآن فإليكم نشرة الأحوال الجوية:
منذ الإعلان عن هذا المجلس، بدأت تهب رياح مفبركة بواسطة مراوح الكترونية تفوح منها روائح أنفاس أصحابها الزنخة والمحملة بالجراثيم (إضافة إلى رسائل تهديد بالقتل). ومنذ بدأت هذه الروائح تزكم أنوفنا، والرسائل تصلنا، بدأنا بجمع كل المعلومات الضرورية عن مشغّلي هذه المراوح وذلك كي نتمكن من اختيار المبيدات المناسبة.
(انتهى)
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط