عندما كنا صغاراًً كان الكبار يخوفوننا بكائنات خرافية هائلة القوة، رهيبة المنظر، تجوب حقول الليالي المظلمة باحثةً عن الصغار ممن لا يسمعون كلام الكبار. لم تكن تلك الكائنات الليلية المتعطشة للحوم الأطفال الشهية وعظامهم الطرية سوى أكذوبة قديمة ظلت الأجيال تتوارثها قروناً بعد قرون وتحت أسماء وصفات مختلفة بعض الشيء. ففي نجد كانت تسمى ب "السعلوه". تلك الجنية الرهيبة كانت تفضل اللحوم البشرية كما كانت آلهة الشعوب الصحراوية تواقة للدم والأضاحي البشرية والحيوانية. أما النسخة الحجازية فكانت تدعى ب "الدجيلة" وهي أقرب ما تكون لشخصية دراكولا لإنها كانت من هواة مص دماء البشر. أما أهالي المنطقة الجنوبية فقد كانوا أوسع خيالاً وأكثر كرماً فقد صنعت المخيلة الجنوبية فرقة دموية مكونة من سبعة أنفار من الجن، أطلقوا عليها اسم "سبعة". أما إذا سافرنا شرقاً وإلى ضفاف الخليج تحديداً، فقد تقاسمت كلاً من "أم السعف والليف" و"أم حماره" أدوار الرعب، إلا أن كلاهما لم يكونا بوحشية ودموية جن الأقاليم الأخرى. هل كان لتضاريس المنطقة الشرقية وطبيعة أهلها دورٌ في تقليم أظافر "جنها" وتطويق شهواتها الدموية؟ لا أعرف.... ربما يكون ذلك.
ثمة ملاحظة عابرة أود لفت انتباهك من دون أن نتوقف عندها. لماذا كانت الأنثى هي القاسم المشترك بين تلك الكائنات الرهيبة؟ ألا يبدو مثيراً أن الشخصيات الجنية بنكهاتها الإقليمية ذات طابع أنثوي صرف؟ اشعر بشفقة على تلك الأنثى المسكينة.... نسبوا إليها نفي أبينا آدم من الجنة السماوية، وتحولها عبر التاريخ إلى حبل من حبائل إبليس اللعين لغواية الذكر وفتنته عن دينه، وهي بعد هذا كله تحتكر أدوار البطولة المطلقة في تقمص شخصيات ظلامية متوحشة تفتك بالأطفال.
كبرنا الآن، وعلى ما يبدو فإنّ تلك الشخصيات الهيتشكوكية قد شاخت، وتساقطت معها أسنان الحليب. ربما لم يعد لها مكانٌ في قلب ليل المدينة الهادر بالضوء والمشتعل بالضجيج. ولكن إذا كان الآباء قديماً يخوفون صغارهم بحكايات السعلوه ورفيقاتها ليحثوهم على النوم باكراً أو التوقف عن الصراخ والحركة، فإننا نشهد نموذجاً "ترهيبيّاً" مماثلاً يستعمله المتدين بنزعته الأبوية وسلطته البطريركية لتخويف الكبار والصغار معاً لسماع كلامه ونصائحه. كلا الاثنين يسعيان إلى تطويع سلوك المتلقي وتوجيهه بالشكل الذي يحافظ على نسق تقليدي سائد قد يؤدي كسره وخروجه عن المسار المحدد له مسبقاً لهلع الوالدين أو المتدين. في الحالة الأولى، يخترع الأب والأم كائنات شريرة من أجل احتواء ديناميكية جسد الصغير المتمرد على رتابة القوانين والمتطلع دوماً لاكتشاف المجهول والبعيد. أما في الحالة الثانية، فإن المتدين يخترع (يسمى عندهم كذب محمود) نماذجه العقابية من أجل محاصرة ديناميكية العقل المتوهج بالأسئلة والشك وتكبيل النفس المتلهفة لقطف تفاحة الحياة.
النماذج التخويفيه التي تبتدعها مخيلة المتدين ـ رغم أن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ـ تميل إلى التجريد وهو ما ينسجم مع العقيدة التوحيدية المتعالية على التجسيمات. لا يحتال المتدين على الأتباع بأساطير الغيلان والجن، بل يحتال عليهم بنوع أنكى وأشد كالموت والحريق والمسخ والزلازل والفيضانات والبراكين والأوبئة. يكثر المتدين من توظيف سياسة العصا (الترهيب) أكثر من سياسة الجزرة (الترغيب) من أجل ضمان طاعة الرعية والتفافهم حوله وبقائهم تحت قدميه. وللوصول إلى هذا الهدف، يلجأ المتدين إلى أسلوبين خبيثين، كلاهما يكمل بعضهما البعض. الأسلوب الأول، يتسم باختلاق قصص ساذجة ذات نهايات سوداوية لتوصيل رسالة ما، قد تتعلق بنوعية العباءة النسائية أو المحافظة على أوقات الصلوات الخمس أو ضرورة احترام لحية المتدين والتأدب معه. أما الأسلوب الثاني، فيقوم على استثمار مأساة إنسانية حلت بفرد ما يبغضه المتدين، أو بجماعة من البشر يتمنى المتدين زوالها من على وجه الأرض.
دعني أضرب لك مثلاً واحداً فقط على الأسلوب الأول. وجدت مرة في إحدى كبائن الهاتف ملصقات كثيرة، موزعة عشوائياً هنا وهناك، تمور بأحاديث وأدعية واستغفارات، تعد من يحفظها ويرددها ثلاثاً أو سبعاً بنخيل وقصور من ذهب في الجنة. بجوار هذا الأكازيون الإلهي المسيل للعاب، كانت هناك حكاية عن فتاة عشرينية ماتت، وعند وضع جسدها العاري على طاولة غسيل الموتى كان وجهها ينقلب إلى الوراء، ولم تنجح كل المحاولات لإعادة رأسها إلى الحالة الطبيعية. أخبرت العاملة ذوي الفتاة بما وقع لأبنتهم، وتساءلت عن ما إذا كانت الفتاة في حياتها كانت تحافظ على العبادات، فأخبرتها الأم أن ابنتها كانت ملتزمة بشرائع الإسلام باستثناء شيء واحد. ما هو؟ أرجوك لا تضحك....كانت الفتاة - والعياذ بالله – تضع عباءتها فوق كتفها وليس فوق رأسها!!!
الأسلوب الثاني لا يستلزم من المتدين جهداً وطبخ حكاية تافهة، إذ يكفي التقاط أي كارثة حاقت بأحد من الأفراد أو الجماعات، حتى يخرج للناس ليقول لهم: هذا جزاء من يسير في معصية الله... فتوبوا إلى الله يا عباد الله. يتكلم المتدين هنا مملوءاً بثقة عمياء، وكأن الله قد هبط من سمائه البعيدة ليميط له اللثام عن سبب انتقامه وغضبته. قبل أكثر من عام، توفيت زوجة المفكر والروائي السعودي (تركي الحمد) المكروه حتى العظم من قبل المتدينين. لم يخف أكثريتهم سعادة فارطة، ليؤكدوا أن الله قد انتقم منه في زوجته. ما بالهم نسوا الآية القرآنية "ولا تزر وازرة وزر أخرى" والمتكررة خمس مرات في الكتاب! أم تراهم في غمرة سعادتهم نسوا ما قد حفظوه من قرآن؟ وكمثال آخر، انظر كيف تهللت وجوههم لرؤية إعصار تسونامي وكاترينا المدمرين ليحلفوا لنا أن الله ضاق بهؤلاء ذرعاً، فقرر إهلاكهم. لكنهم سرعان ما غصوا بصمتهم، وهم يرون الزلازل تدكّ باكستان الإسلامية قبل حوالي عامين من الآن وإعصار غونو يضرب عمان قبل شهور خلت.
كما كان الآباء يخوفون أبناءهم من الذهاب بعيداً حتى لا تختطفهم أو تبتلعهم الجنية، يخوف المتدين كل من يفكر...أو يناقش...أو يجادل بأن الله سيسقط السقف فوق رأسه. يقول أحدهم: أخزاك الله...أسكت! هل تريد أن يقع السقف فوق رؤوسنا؟ ألا يتساءل هذا الخائف: لماذا يأخذه الله بجريرة من يفكر ويناقش ويجادل؟ ألا يقدر الله أن يحمي روح هذا الذي ينافح عن دينه ويغار على دينه؟ أهو خوف من نار سماوية عمياء تهدم السقف على من فيه أم هو خوف من نار عقل تحرق معتقدات من قش؟
=================
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط