بسام درويش
/
Sep 24, 2004
يبدو واضحاً أن الحكم في سوريا لا زال غير مصدّق بالتغيّر الذي يفرض نفسه على العالم كله، وعلى الشرق الأوسط بالذات. من هذا التغيّر ما تمّ ويتمّ بالقوة، ومنه ما تم ويتمّ طواعية، رغم ما تحمله كلمة "طواعية" من مجاز.
يدّعي نظام الحكم في سوريا، كما جاء على لسان رئيسه ومسؤولين حكوميين آخرين، أن الإصلاح هو شأن سوري داخلي لا علاقة لأحد فيه، وربما يكون النظام محقاً في ادّعائه هذا، لو لم يكن لأوضاعه تأثير سلبي على جيرانه وعلى العالم. المشكلة تكمن في أن النظام يدرك هذا الأمر إدراكاً تاماً، ولكنه مع ذلك لا يفتأ يطلق تصريحات كهذه، أو يتخذ مواقف توحي كلها بأنه عاجز عن الإدراك. وراء هذه العقلية عدة تفسيرات محتملة:
النظام يلعب لعبة شد الحبل:
وهي لعبة برع فيها الأسد الأب سمحت له الظروف آنذاك أن يلعبها. لكن، مع تسارع عملية التغيّر والتغيير في العالم وفي الشرق الأوسط بالذات، فإن الوضع لم يعد يتحمل لا لعبة شد حبل ولا أية لعبة أخرى. إضافة إلى ذلك، لا يبدو أن هناك في نظام الحكم الحالي من له من البراعة ما كان للأسد الأب.
النظام يتعامى:
والتعامي هو أخطر من لعبة الحبل، لأنه يعني استخفافاً مقصوداً بمصير الشعوب رغم المعرفة بوجود الخطر، لذلك فإنه جريمة لا يغفرها التاريخ ولا الشعوب.
النظام مغفّل:
وأن يكون النظام برمته نظاماً مفغلاً، فهو أمر ليس بالمعقول، رغم أنّ ذلك لا ينفي وجود مغفلين فيه. والمغفلون على أية حال، لا تخلو منهم إدارة سياسية، حتى في أفضل أنظمة الحكم في العالم. لكنّ هناك أمراً مؤكداً وهو أن وجود مغفل واحد في مركز حساس قد يجر البلاد كلها إلى ما لا تحمد عقباه.
النظام يماطل:
وهذا يعني بأن النظام يدرك بأن هناك أمراً واقعاً لا مفرّ له من القبول به، لكنه، كي لا يفسح المجال لأعدائه باتهامه بالانهزامية أو العمالة، يريد أن يثبت للشعب فيما بعد، أن قبوله به لم يتم إلا بعد استنفاذ كل الوسائل.
مهما كانت التفسيرات، فإنه ليبدو واضحاً بأن النظام السوري لا يقدّر خطورة الوضع حق التقدير. وبعبارة أخرى، ما على النظام أن يدركه هو أن الوضع اليوم قد بلغ مرحلة، لا يتحمّل معها مماطلين، ولا متعامين، ولا لاعبي حبل، وبالتأكيد إنه لا يتحمل مغفلين:
على الصعيد الإسرائيلي: الوضع يختلف عن كل وضع سابق. فالعمليات الإرهابية الانتحارية وردود إسرائيل عليها قد أصابتها بالانهاك، والإنهاك يعني مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية، وهو أمرٌ لا يمكن أن تتحمله لفترة طويلة. الشيء الوحيد الذي ينقذها من هذا الوضع المنهك هو أن تقوم بضربة وقائية مفاجئة.
الإنهاك لا يعني الضعف، وإسرائيل هي اليوم أقوى من أي وقت مضى. قوتها لا تنبع فقط من جهودها المستمرة لتطوير قوتها العسكرية الضاربة، إنما أيضاً من ضعف أعدائها. لقد ربحت كل حرب دفاعية أو وقائية خاضتها مع العرب أيام كان يمكن أن يقال عنهم ـ ولو مجازاً ـ بأنهم كانوا أكثر وحدة أو تضامناً. اليوم، تقيم إسرائيل علاقات دبلوماسية واقتصادية مع مصر والأردن، وعلاقات أقل من دبلوماسية مع قطر والبحرين وعمان وتونس والمغرب. خطر العراق قد زال ولم يعد هناك خوف من بضعة صواريخ تسقط بشكل عشوائي على مناطق هنا وهناك في إسرائيل. ليبيا أصبح شغلها الشاغل إرضاء أميركا والعالم كله؛ والعقيد القذافي تحول إلى داعية سلام ونزع أسلحة!.. السودان، مقرّ مؤتمر اللاآت الثلاثة، لم يكن من قبلُ، وليس هناك الآن، من يحسبُ لـ "لا" ئها ـ ولا لـ "نَعَم" ـ ها ـ حساباً!.. حتى اليمن أصبح يبعث بتقرير يومي للولايات المتحدة عما يقوم به من جهود لضرب الإرهابيين. وهكذا، "لم يبقَ في الميدان إلا حديدان!" كما يقول المثل الشامي!.. سوريا هي المعارِضة "الصامدة" التي لا زالت تتعامل مع الأحداث وكأنها قوة عظمى، أو كأنها جزء من حلف قوي يمكن أن يفرض ثقله على الأحداث!
على الصعيد العالمي: الوضع أيضاً يختلف عن كل وضع سابق. الاتحاد السوفييتي قد انفرط عقده. روسيا، خليفة الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى أصبحت أقل من عظمى، لا بل أصبحت جزءا من العالم الغربي الذي كانت تناصبه العداء. والعملية الإرهابية المروعة التي جرت في مدرسة الأطفال في بيسلان ـ إحدى جمهورياتها ـ ستظهر آثارها قريباً بانضمام روسيا إلى الغرب في حربه ضد الإرهاب في العالم كله. وحين نقول "الإرهاب" فإنه ليس هناك من إرهاب آخر نتحدث عنه سوى الإرهاب "الإسلامي". أما فرانسا، فإذا كانت سورية تعتمد في صمودها عليها، أو على ألمانيا أو على كوفي عنان وفرقته الموسيقية، فآنذاك لا بدّ وأن نتناسى كل التفسيرات السابقة ما عدا الثالثة منها!
على الصعيد الأمريكي: يخطئ الحكم في سوريا إذا كان يراهن في مواقفه على نتائج الانتخابات الأمريكية. فالحرب التي تخوضها أمريكا ضد الإرهاب، أصبحت بالنسبة لها، سياسة مصيرية ثابتة لن يكون بقدرة رئيس جديد يتولى الحكم التخلي عنها. ربما يكون من الأفضل للنظام، أن يتعامل مع الإدارة الأمريكية الحالية، عوضاً عن المراهنة على إدارة أخرى لا يعرف ماذا ستحمل له معها في جعبتها؛ لا بل ربما يرتكب هذا النظام خطأ فادحاً إذ اعتقد أن حكومة أمريكية بإدارة جان كيري، ستكون أكثر اعتدالاً في سياستها المتعلقة بالشرق الأوسط. جان كيري ـ إن توفرت له سبل النجاح في الانتخابات ـ لن يفرّط بأية مصالح مع إسرائيل، ولن يسحب القوات الأمريكية من العراق، كما ولن يكون أقلّ تهاوناً مع الإرهابيين أو الدول التي تأويهم. إن كيري سيكون عظيم الحذر في سياسته لأن أي اعتداء إرهابي على أمريكا خلال حكمه، سيرجّح كفة كل الذين قالوا ـ خلال الحملة الانتخابية ـ بأنه لا يصلح لأن يكون قائداً للأمة بناء على ما أثير عن تاريخه الانهزامي. إضافة إلى كل ذلك، فإنه لغريب أن يعجز النظام السوري ـ وكل نظام آخر يراهن في مواقفه على نتائج الانتخابات ـ عن إدراك واقع مهم، وهو أنّ التعامل مع رئيس يحافظ على كلمته مثل بوش، أفضل من التعامل مع رئيس اشتهر بتذبذب مواقفه مثل جان كيري.
*******
ما هو المطلوب من سوريا؟..
من الخطأ الاعتقاد بأن المطلوب هو تغيير جذري في النظام القائم حالياً. إن تغييراً جذرياً فيه ليس لصالح المنطقة ولا لصالح أمريكا، وبالطبع ليس لصالح سوريا. على الصعيد الداخلي، المطلوب من النظام إجراءُ إصلاحات على أسلوبه في الحكم، لكي تمهّد هذه الإصلاحات الطريق له لتغيير نفسه بنفسه دون خوف من نكسة قد تأتي بنظام خطرٍ لا يتقبل الإصلاح. وعلى الصعيد الخارجي، المطلوب من النظام تعاملٌ أوعى مع مستجدات الأحداث، وتحركٌ جديٌّ لإقامة أسس نزيهة لمستقبلٍ لم يعد من الجائز التجاهل بأنه أمرٌ لا محالةَ واقعٌ!
على الصعيد الداخلي:
- القضاء على الفساد الإداري أمر يقع على رأس قائمة الإصلاحات الداخلية، وبدون هذا الإصلاح لن يتمكن النظام من إقناع أحد، لا داخلياً ولا خارجياً، بأنه سيستمر. ونظام معرّض للسقوط في أية لحظة وما يمكن أن يخلفه هذا السقوط، هو أمر يثير القلق في المنطقة ولدى أمريكا.
- رغم أن الدولة في سورية هي من أكثر الدول العربية علمانيةً، فإنّ خطر التيار الديني لا زال قوياً فيها، لا بل قد أخذ يتحرك لتأسيس كوادر له للوقوف في وجه أي تحرك باتجاه مستقبل علماني للبلد. لذلك، فعلى النظام أن يعمل بجدية وبسرعة ـ ما دام باستطاعته ذلك ـ على تطويق هذا التيار وعلى سنّ قوانين ـ شيئاً فشيئاً ـ للسير بالدولة على طريق العلمانية الحقيقية. إنّ مسايرة النظام لأصحاب التيار الديني لن تجلب له وللمنطقة إلا الوبال.
- تشجيع الفكر الإصلاحي العلماني الذي أخذ يزدهر حديثاً، ولا بدّ من الاعتراف أنه تشجيع قد أصبح ملحوظاً أو يمكن أن يوصف بأنه تغاضٍ أكثر من تشجيع، ولكن على أية حال لا زال ينقصه حماية من السلطة لأصحابه. فالواقع يؤكد أنّ كل المفكرين يعيشون خطراً دائماً على حياتهم من التيار الديني الرجعي، وعلى وجه الخصوص من أولئك الذين أخذوا يحتلون مراكز قوة في النظام.
على الصعيد الخارجي:
- يحتل لبنان الموقع الأول على قائمة الشؤون المطلوب حلها. فالوجود السوري في لبنان ـ حتى ولو قبلنا افتراضاً أنه حصل نتيجة لطلب من الأطراف اللبنانية المتحاربة ـ هو اليوم احتلال بكل معنى الكلمة. لكنّ هذا الوجود لا يتوقف عند كونه احتلالاً لأرضِ دولةٍ ذات سيادة، أو هيمنة على شؤونها السياسية، إنما يجعل التوصل إلى حل سلمي في الشرق الأوسط امراً مستحيلاً، وذلك بدعمه المطلق لمنظمة خطرة جداً على أراضيه وهي منظمة حزب الله الإرهابية. هذا الحزب لا يعرقل السلام مع إسرائيل فقط، إنما يشكّل خطراً على المنطقة بأسرها؛ حيث أنه بارتباطه الوثيق مع إيران التي تعتبر الممول الرئيس له، فإنه يُعتبَرُ امتداداً لها ولخطرها. إضافة إلى ذلك، فإن استمرار وجود هذا الحزب سيكون عائقاً أمام عودة الحكم في لبنان إلى فرض سيادته الكاملة على أراضيه. لذلك، فقبل ان يقوم النظام السوري بسحب قواته، عليه أن يعمل على تفكيك هذه المنظمة بنفس الطريقة التي ساهم هو بخلقها بها، أي بإيقاف كل دعم مادي وعسكري وبشري وإعلامي لها، وحتى لو تطلب الأمر أن يقوم بضربها إن لجأت إلى العصيان.
- إنّ هزيمةً تتعرضُ لها أمريكا في العراق ستعني حتماً انتصاراً للتيار الإسلامي المتطرف وليس لفلول نظام صدام الذين ذهبوا إلى غير عودة. هذا بدوره سيعني تهاوي أنظمة عربية كثيرة، وربما سيكون النظام السوري على رأس هذه الأنظمة المتهاوية لسبب بديه، وهو كونه أبعد الأنظمة العربية عن الإسلام!.. لكن هزيمة أمريكا أمرٌ غير وارد، وهي لن تقبل بأقل من نصر يحقق كل أهدافها من هذه الحرب، حتى ولو اضطرت إلى القيام بضربة قاصمةٍ حاسمة لسورية ولحزب الله وربما لإيران. ولذلك يمكن القول، أن النظام السوري سيكون هو الخاسر سواء حصل المستحيل بهزيمة امريكا، أو حصل المتوقع بتحقيقها النصر الكامل.
*******
ترى، هل يقرر النظام في سورية أن يشرع في التغيير، فيربح استمراره ويجنّب شعباً طيباً كالشعب السوري ويلات حرب لا يريدها، أم أنه سيقامر بمصيره ومصير آلافٍ من الأبرياء يذهبون ضحية مقامرته؟ الجواب على ذلك هو أنه ليس هناك أي شكّ في أنّ النظام السوري أكثر ذكاء من نظام صدام حسين بمراحل عظيمة؛ ففي سورية ـ على عكس ما كان عليه الحال في العراق ـ لم يكن القرار النهائي المطلق بيد رجل واحد حتى في أيام الأسد الأب، وبالتأكيد ليس هو كذلك اليوم!
أمر لا بدّ من الإقرار به، وهو أن المفتاح بيد سوريا، ولكنه يصلح لفتح بابين.. أحدهما يؤدي بالمنطقة إلى الجحيم والثاني إلى النعيم!
*****************
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط