جوزيف بشارة
/
Dec 13, 2006
تحفل المجتمعات العربية بالعديد من المؤشرات والدلائل السلبية التي تنم عن تخلف وانحطاط لا مثيل لهما في عالمنا المعاصر. في ظل أجواء كهذه، كان من الطبيعي أن تختفي الكلمة وتحل محلها العمليات الانتحارية والإرهابية، وأن تنتفي لغة المنطق والعقل والحوار، وتستبدل بلغة أخرى هي لغة التعصب والتطرف والإرهاب، وأن ينسحب الفكر المعتدل من الميدان تاركاً الساحة للفكر التكفيري. هناك دلائل كثيرة على أن الموضوعية أصبحت عملة نادرة في مجتمع اليوم العليل، وأن الغوغائية باتت هي اللغة السائدة من المحيط إلى الخليج. تثبت الأحداث المتتالية أن التفاهم والسلام والحب والانفتاح لم يعد لهم مكان في المجتمعات العربية، ولكن الصراعات والحروب والكراهية والانغلاق أصبحوا يغلفون المجتمعات العربية ويشكلون غطاءً كثيفاً يكبت الحريات العامة ويمنع الحقوق الإنسانية ويعيق التقدم الحضاري.
تتخذ الغوغائية في العالم العربي أشكال بشعة عدة، فهي في بعض الأحيان سياسية وفي البعض الآخر طائفية أو حتى عنصرية. ولا تقتصر الغوغائية على مجتمع عربي بعينه، وإنما هي تنتشر بشكل كاد أن يغطي كافة المجتمعات من المحيط إلى الخليج. ولا تمارس الغوغائية جماعة بذاتها، ولكن الجماعات المتطرفة أو العصابات الإرهابية أو حتى الحكومات الدكتاتورية على حد سواء لا تخجل من أن تمارسها. هناك أمور ومسائل وصراعات كثيرة تديرها الغوغائية في البلدان العربية، ولكن ما تنقله لنا وسائل الإعلام على مدار الساعة من أخبار مفجعة عن تناحرات ونزاعات وحروب أهلية في لبنان والعراق والسودان يعد أبرز حالات الغوغائية السياسية والطائفية والعنصرية وضوحاً في العالم العربي.
في لبنان الغوغائية السياسية أصبحت القاسم المشترك في حياة اللبنانيين، بعدما تصاعد نفوذ جماعة حزب الله بشكل كبير يدعو إلى القلق. الأوضاع الراهنة في لبنان تعد خير دليل على الغياب الكامل للموضوعية والاستفحال المتزايد للغوغائية التي أصبحت تسيطر على مقدرات هذا البلد. من المؤسف أن نسبة كبيرة من الشعب اللبناني تؤمن بالغوغائية التي يمارسها بعض القادة السياسيين وعلى رأسهم قادة جماعة حزب الله، فقد تبعت جموع كبيرة من اللبنانيين الجماعة، وذلك على الرغم من أنها (الجماعة) تُعْرَفُ ببراعتها في الكذب والخداع وليّ الحقائق، هذا فضلاً عن دورها المشبوه في العمل بدأب على تحقيق الأهداف السياسية والطائفية للأنظمة الحاكمة في دمشق وطهران. لا زلت مقتنعاً بشدة بأن جماعة حزب الله خاضت حرب تموز يوليو الماضي بدافع استرجاع التعاطف الشعبي الذي كانت فقدته تدريجياً لمصلحة قوى 14 آذار في السنتين الماضيتين.
لم يكن هناك دافع لبناني ملح يدعو الجماعة لمواجهة مع الآلة العسكرية الإسرائيلية بعدما انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان في العام 2000، ولكن قادة حزب الله نجحوا بشكل يدعوا إلى التعجب في إقناع مئات الألوف من اللبنانيين وملايين العرب والمسلمين، مثقفين وجهلة، بأن الحرب ضد إسرائيل كانت للدفاع عن تراب وسيادة لبنان. كما نجح السيد حسن نصرالله بصورة غريبة في الترويج، عبر الغوغائية السياسية، لنصر إلهي وهمي، رغم أن إسرائيل كانت تحتل مساحات كبيرة من الأراضي اللبنانية، وتستبيح بشكل كامل الفضاء اللبناني من الشمال إلى الجنوب، وتسيطر بصورة كاملة على المداخل والمخارج البحرية للبنان عنما اعلن السيد نصرالله النصر الإلهي. ولكن ها قد أثبتت الأوضاع السياسية الحالية في لبنان أن حرب تموز لم تكن إلا وسيلة لجذب الجماهير تمهيداً لانقلاب حزب الله على الشرعية اللبنانية، فالسيد نصرالله لم يكن ليتمكن من جمع مئات الألوف من اللبنانيين حوله لو لم يكن خاض مواجهة ضد إسرائيل التي أصبحت عداوتها مصدر توحيد العرب.
الحرب الطائفية في بلاد الرافدين التي لا تحمل بشائر خير للشعب العراقي تعد مثالاً عربياً على النفوذ المتصاعد للغوغائية الطائفية في البلدان العربية. لم يستغل العراقيون فرصة سقوط نظام الدكتاتور صدام حسين لإعلان الجمهورية العراقية الحرة الديمقراطية كما فعلت دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وافريقيا حين سقطت النظم الشمولية فيها. كانت هناك فرصة ذهبية أمام العراقيين لبدء صفحة جديدة مع الحضارة تضاف إلى كتاب الحضارة العراقية الضخم الذي توقفت صفحاته عند مجيء النظم الدكتاتورية إلى بغداد. ولكن العكس تماماً هو ما حدث ويحدث في العراق حالياً، فقد قامت الطائفتان السنية والشيعية، بتحريض ودعم من قوى متطرفة أو إقليمية، بالتناحر والتقاتل في ما بينهما، حتى أصبح سقف الحرب الأهلية الدائرة بينهما هو التفرد في الوجود، بما يعني التخلص من الطرف الآخر أو دفعه إلى مغادرة العراق.
لم تتوقف النتائج المدمرة للحرب الطائفية التي يزيد عدد ضحاياها عن الستمائة الف قتيل عند السنة والشيعة فقط، وإنما امتدت إلى كافة الطوئف والأقليات الأخرى وعلى رأسها الأقلية المسيحية. لقد مارست الطائفتان السنية والشيعية الغوغائية الطائفية في أوضح صورها في الحرب الدائرة بالعراق، حين أعلن السنة دولتهم الإسلامية النقية من الشيعة والمسيحيين، وحين انتقم الشيعة بضراوة من العنف السني. لم تعد تنفع الوسائل السلمية أو الأمنية أو حتى العسكرية لحل معضلة الغوغائية الطائفية في العراق. ولعل تقرير لجنة الدراسة الأمريكية الذي صدر مؤخراً يوضح بجلاء أن لا أحد ينتظر حلاً معجزياً مفاجئاً للحرب الدائرة في العراق، بعدما فقدت الحكومة العراقية والقوات الأمريكية السيطرة على زمام الأمور هناك. لذا تظل الحرب الغوغائية الطائفية تستعر في جسد هذا البلد دون أن يبدو في الأفق دليل على فجر جديد.
القتال في دارفور يبقى من الدلائل المهمة على الغوغائية العنصرية التي تضرب بعمق في العالم العربي. لقد نفت الحكومة السودانية التي يسيطر عليها السودانيون العرب حق الوجود عن بعض القبائل السودانية ذات الأصول الأفريقية والتي تقطن اقليم دارفور، فشنت عليها الحرب العنصرية بدافع اجتثاثها من السودان. كانت النتيجة أن دفع عشرات الألوف من ابناء هذه القبائل حياتهم ثمناً لغوغائية حكومة عمر البشير العنصرية. شاركت الحكومة بشكل أساسي في عمليات التطهير العرقي التي قامت بها حليفاتها ميليشيات جنجويد العربية ضد قبائل فور، ومساليت، وزغاوة الافريقية. يقول تقرير منظمة الهيومان واتش المعنية بحقوق الإنسان أن قوات الحكومة السودانية أشرفت بل وشاركت مشاركة مباشرة، في المذابح المرتكبة ضد الألوف من المدنيين، ومن بينهم نساء وأطفال، وكذا في عمليات إحراق القرى، وترحيل السكان، واغتصاب النساء وتدمير المخزونات والإمدادات الغذائية، وتعطيل المساعدات الأجنبية، وإعاقة عمل المنظمات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة.
لم تكن عملية التطهير العرقي التي تقوم بها ميليشيات الحكومة السودانية في دارفور والتي راح ضحيتها نحو أربعمائة ألف شخص هي العملية الأولى التي تمارسها نظم الحكم السودانية ضد القبائل الأفريقية، ولكنها ربما كانت الأهم في سلسلة طويلة من الحروب الغوغائية التي ينظمها الشمال العربي ضد القبائل الإفريقية في السودان، والتي كانت حرب الجنوب التي استمرت طوال العقود الاربعة الماضية إحدى حلقاتها المهمة أيضاً. لقد استخدمت نظم الحكم السودانية وسائل متعددة في إذلال السودانيين الأفارقة، منها على سبيل المثال لا الحصر حرمانهم من كافة حقوقهم المدنية والسياسية والاجتماعية المشروعة، هذا فضلاً عن محاولة فرض قوانين الشريعة الإسلامية على المدن والأقاليم التي تسكنها أغلبية من غير المسلمين.
النماذج الثلاثة في لبنان والعراق والسودان تعكس بوضوح محنة العقل العربي في مواجهة سياسة الغوغائية والغياب أو التغييب الكامل لثقافتي الحوار مع الآخر والاختلاف الحضاري. لم تعد الكلمة هي الفيصل في الخلافات العربية الداخلية، وإنما استبدلت الكلمة بالسيف والرصاص والمدافع والمتفجرات. ما تفعله جماعة حزب الله في لبنان، وما تمارسه الطوائف المتناحرة في العراق، وما تقوم به حكومة السودان ضد القبائل الأفريقية في دارفور هو تجسيد للغوغائية السياسية والطائفية والعنصرية في أقبح صورها. لذا لم يكن مستغرباً أن ينتفي الرجاء بانتصار لغة العقل والمنطق والحب على لغة التطرف والتعصب والكراهية في هذه الدول الثلاث وفي عالمنا العربي بصفة عامة. ولكن رغم ذلك المظهر السوداوي الكئيب الذي تبدو عليه أوضاع الشعوب العربية، ما زال من الممكن أن تظهر في الأفق بارقة أمل تبدد الظلام وتفتح الأبواب وتمحو الظلم والطائفية التعصب والتطرف والإرهاب؛ بارقة الأمل هذه تتمثل في تفعيل صوت العقل عبر انخراط الأطراف المتناحرة في حوار متمدن متحضر يسمو بالإنسان العربي فوق غوغائيته.
==============
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط