طوفان نوح نموذجاً
كنت وإلى الآن أشعر وأنا أقرأ في كتب التاريخ أن هناك تاريخان: أحدهما ملموس ومليء بجملة من الحضارات والزعامات والمعارك والمنجزات الثقافية والإنسانية، وتاريخ آخر سحري، ضبابي، مؤسس على صراع ثنائي بين قوى الخير والشر، بين الأنبياء والكفرة، بين الضعفاء والأقوياء. تتغير الشخصيات (إبراهيم/ النمرود، موسى/فرعون، صالح/ثمود، هود/عاد..) والأماكن (مصر، أور، مدين، فلسطين..). إلا أن عقدة الصراع تبقى كما هي بلا تغيير. يتجبر الملأ أو كبار القوم، ويعرضوا عن دعوة النبي المرسل، ويلجأون إلى الإيذاء المادي والمعنوي كلما زاد النبي إصراراً. حتى إذا مرت سنون طوال، ولم يلتحق بركب الدعوة التوحيدية إلا بعض من طبقة المعدمين، ويأس النبي من استقطاب مزيد من المؤمنين، سلط الله عذاباً لا يبقي ولا يذر جاعلاً أهل القرية أثراً بعد عين بعد أن ينجي نبيه ومن أمن معه.
لا ريب أن بعض من قرأ كتب التاريخ القديم، بخلاف قصص النبيين، قد تقافزت مثل تلك التساؤلات في رأسه: أين هؤلاء الأنبياء؟ ولماذا لم تحفظ لنا مدونات التاريخ بعضا من تلك السير؟ أيعقل أن يتآمر كل البشر على طمس دعوات الأنبياء ومعجزتهم الخارقة وما تلاه من انتقام السماء المدمر من المكذبين؟. ألم يتساءل عقلك ولو لمرة عن تاريخية مملكة سليمان العظيمة التي لا يشبهها شيء من حكايات ألف ليلة وليلة؟ ألم تتساءل عن اللقاء الأسطوري بين سليمان وبلقيس ملكة سبأ بالرغم من أن الأول عاش في القرن العاشر قبل الميلاد ومملكة سبأ لم تبرز إلا في القرن الرابع قبل الميلاد؟ ألم يفكر أحد يوماً لماذا سلط الله الطوفان ليغرق كل من على الأرض رغم أن نوح لم يدعُ إلا قومه؟. تتناسل الأسئلة كلما أوغلت في قراءة قصص النبيين والرسل، ولكن يبقى السؤال الأكبر: أين هم من مسرح التاريخ؟. لا تعني التساؤلات ـ كما قد (يتقصد) البعض تؤيلها ـ إنكاراً لأولئك الرسل والكفر بهم بقدر ما تفصح عن توجه عقلاني، وقلق دائم، ونهم معرفي لاستجلاء الحقائق ومد الجسور بين تاريخين يسيران على نحو متوازي.
هذا الفضول التاريخي الذي يتجاوز تخوم مؤلفات المؤرخين المسلمين، المليئة بالمرويات التوراتية، جعلني أتساءل عن دور الديانات الوثنية القديمة كالبابلية والكنعانية في تشكيل مناخات كثير من القصص التاريخية التي أوردتها التوراة. من الثابت تاريخياً أن التوراة قد كتبت عبر مسافة زمنية تبدأ في القرن العاشر قبل الميلاد وتنتهي في القرن الأول. فالأسفار الخمسة الأولى كتبت على مدار ثلاثة قرون ابتداءً من القرن العاشر قبل الميلاد، أما آخر الأسفار فقد حررت خلال القرن الأول قبل الميلاد. وبالطبع فالتوراة بمختلف أسفارها غذتها ثلاثة روافد دينية وثقافية متميزة. فهناك أولاً تأثير الديانة الأخناتونية (أول ديانة توحيدية) في مصر، وثانياً التأثير الكنعاني الواضح حتى في استعارة أسماء ووظائف وبطولات الآلهة الكنعانية أثناء تواجدهم في فلسطين، وأخيراً التأثير الرافديني خلال فترة السبي البابلي لهم في مد التوراة بقصص التكوين والخليقة والجنة وهبوط آدم منها.
لقد ظل التراث العبري، والذي يغطي فترة زمنية تقارب الألف عام، في حالة جيدة من الحفظ. أما مآثر الحضارات القديمة فقد تعرضت للضياع. لهذا فقد ظلت التوراة مصدر معظم المعلومات ذات الصلة ببدايات الكون وخلق البشر وما إلى ذلك. ليس هذا فحسب بل إنها اكتست بلون قدسي كونها وحي منزل من السماء على أنبياء بني إسرائيل. غير أن الاكتشافات الأركيولوجية التي بدأت منذ القرن التاسع عشر في بلاد الرافدين ومنطقة الشام قدمت نتائج مذهلة. فالألواح السومرية والبابلية والكنعانية، رغم حالتها المهترئة، نسفت قدسية وتاريخية العهد القديم، بل وأظهرت مدى اعتماد العبرانيين على جيرانهم من الأقوام السامية الأخرى في استعارة أساطيرهم وآلهتهم وتجييرها لمصلحة "يهوه" الإله اليهودي القومي.
وللتدليل على دور الأساطير القديمة في مد العبرانيين بالعناصر الأساسية للمرويات التوراتية ما نجده بوضوح لا يقبل الشك في أصل أسطورة الطوفان السومرية والبابلية. سأتناول في السطور القادمة ـ وبشيء من الإيجاز ـ ملامح كل من قصص الطوفان عند السومريين والبابليين والعبرانيين حسب ترتيبها التاريخي، على أن استعرض في المقالات اللاحقة نماذج أخرى تنطوي على تقاطع الأسطورة مع الدين.
النسخة السومرية:
يلزم التنويه في البداية إلى أن الألواح السومرية ـ ذات الصلة بالطوفان ـ والتي يعود الفضل في اكتشافها إلى الباحث الأمريكي أرنولد بوبيل وتحديداً في عام 1914 يغلب عليها التشوه والنقصان في كثير من مقاطعها. إلا أن الأجزاء السليمة تشف عن الخطوط العريضة لحكاية الطوفان. ملخص الحكاية أن مجلس الآلهة وعلى رأسهم إله الهواء "انليل" قرر إفناء البشر بإغراقهم بالماء للقضاء على شرورهم وآثامهم. لم يحظ هذا القرار برضى كل الآلهة كما يتضح من بكاء ونواح إلهة الحب والجمال "إنانا" والتي سميت فيما بعد عند البابليين بعشتار. أما إله الحكمة والمياه العذبة "انكي" والذي عرف بحبه وصداقته للإنسان فقد اتصل بالملك الصالح التقي "زيوسدرا" كاشفاً له عن عزم الآلهة على إهلاك البشر. وصف انكي للملك خطة تنقذ بذرة الحياة من الضياع الكلي، وذلك ببناء سفينة، اسمها "ماجور"، يشحن فيها الملك الفئة الصالحة من البشر وبعض الحيوانات. وعندما حانت ساعة الصفر، تفجرت ينابيع الأرض بقوة، وإنثال مطر السماء بعنف، ثم انطلقت السفينة تخوض وسط جبال الموج لمدة ستة أيام وستة ليال متواصلة. لا يذكر النص نتيجة التشوهات أين استقرت السفينة، وكيف اهتدى الملك الصالح إلى انحسار الماء عن جهات الأرض. إلا أنه يعود ليصف ما قام به زيوسدرا كتعبير عن امتنانه للآلهة، حينما خر ساجداً أمام إله الشمس "أوتو"، ثم ذبح ثوراً كقربان. تشم الآلهة رائحة القربان فتتجمع حول الذبيحة كالذباب. وعندما يقترب انليل من الطعام، يفاجأ ببقاء بعض البشر فيغضب، لكنه سرعان ما يتراجع أمام تقريع بعض الآلهة. وكأنما أراد انليل التكفير عن ذنبه بإسباغ الخلود على زيوسدرا بإسكانه في جنة السومريين ـ دلمون ـ أو أرض البحرين الحالية التي كانت أرض الخلود للآلهة فقط.
النسخة البابلية:
تعتبر حكاية الطوفان جزءاً من ملحمة "جلجامش" إحدى روائع الفكر البابلي القديم. ويعود الفضل في اكتشاف ملحمة جلجامش إلى عالم الآثار الإنجليزي جورج سميث في عام 1872. تتناول هذه الملحمة الرائعة مساعي الملك السومري الذائع الصيت جلجامش في البحث عن سر الخلود. يضطر الملك أن يقطع مسافات شاسعة بحثاً عن "اتراحيسس" أحد الناجين من الطوفان الكبير ليسأله عن كيفية الصمود في وجه الموت للأبد. لا يهم هنا الحديث عن قصة جلجامش ولكن ما يهم هو كيف تناولت تلك الملحمة وصف الطوفان. لا تختلف القصة هنا كثيراً عن سابقتها، فالإله انليل لا يقوى على النوم بعد أن تكاثر البشر وزاد ضجيجهم، فيقرر التخلص منهم حتى ينام في هدوء. يلعب "ايا" أو أنكي دور المنقذ، فيتصل سراً باتراحيسس الملك الصالح ليطلعه على قرار انليل المدمر. ينصح ايا الملك ببناء سفينة كبيرة، اسمها "ايليبو"، تتسع لبعض أهله وأصحاب الحرف وما استطاع إليه من الحيوانات والمتاع والحبوب. وفي الموعد المقرر، فتحت الآلهة المعنية بالمطر والسدود ومياه الأعماق الدفينة فوهات المياه، فاندفعت من فوق ومن أسفل مغرقة الأرض كلها في سبعة أيام وسبعة ليال. وفي نهاية المطاف، استقرت السفينة على قمة جبل "نصير" أي جبل الخلاص، وموقعه في جنوب نهر الزاب الأدنى، أحد روافد نهر دجلة. في نهاية اليوم السابع، أرسل اتراحيسس حمامة لاستطلاع الأرض، فعادت إليه عندما لم تجد موضعا. ثم بعث سنونو، فطار ثم عاد إليه عندما لم يجد موضعا. وفي المرة الثالثة، أطلق غرابا فطار ولم يرجع. فعرف أن الأرض قد عادت صالحة للسكنى من جديد. وكما فعل سلفه زيوسدرا، يقوم اتراحيسس بذبح قربان شكراً للآلهة التي تنشقت رائحة الذبيحة، فنزلت إلى الأرض. وعندما تقترب الآلهة من القربان، تتأسف عشتار على ما حل بالأرض، وتوجه اللوم لانليل الذي أظهر أسفه على فعلته. وكتعبير عن الشعور بالندم، يمنح انليل اتراحيسس وزوجته البركة والخلود.
النسخة التوراتية:
ظلت الرواية اليهودية ولزمن طويل الوثيقة التاريخية التي تحفظ أحداث الطوفان. غير أن الاكتشافات الأركيولوجية كشفت عن دور الحضارات العراقية في صياغة معظم الأفكار والشخصيات والأحداث التوراتية. لا يختلف الأمر هنا كثيراً عما سبق، ولكن أبرز التعديلات الجوهرية التي أدخلها اليهود على نص الطوفان تتجلى في إعطاء الإله القومي يهوه كل الأدوار التي تقاسمها من قبل الآلهة السومرية والبابلية. أما سبب الطوفان فتحيله النسخة التوراتية إلى تعاظم الشر بين الناس، وهو ما يتماهى بوضوح مع مبرراته السومرية. أما بطل الطوفان فقد سماه سفر التكوين "نوح" والذي اختاره يهوه من بين كل البشر لكونه رجلاً تقياً وصالحاً. لا يحتاج يهوه إلى الاتصال بنوح من وراء حجاب، بل قام بتبليغه مباشرة ببناء السفينة استعداداً للطوفان. تتفق التوراة مع الأساطير الرافدينية حول نقل البشر والحيوان والطعام إلى السفينة، إلا أن عدد الأفراد يتقلص إلى ثمانية فقط، وهم نوح وأولاده الثلاثة وزوجات أولاده. أما الحيوانات المنقولة فقد حمل نوح من نوع اثنين من ذكر وأنثى. استمر الطوفان التوراتي أربعين يوماً لتستقر بعدها سفينة نوح على جبل آراراط. وبعد أن استوت السفينة فوق الجبل، أطلق نوح غراباً ولم يعد، فعرف نوح أن الأرض قد عادت صالحة للسكنى. هبط نوح من على ظهر السفينة برفقة أهله، ثم أخذ من الطير ومن البهائم الطاهرة فذبحها. تنسم الرب يهوه في الأعالي رائحة القرابين، فتقبل تقدمة نوح وندم على فعلته، ثم قطع عهداً على نفسه بألا يعود لتدمير الأرض بطوفان مماثل.
المراجع الرئيسية
مغامرة العقل الأول. فراس السواح. دار علاء الدين. دمشق، سورية. الطبعة الثالثة عشرة. 2002.
موسوعة تاريخ الأديان. فراس السواح. دار علاء الدين. دمشق، سورية، الطبعة الأولى. 2004.
منعطف المخيلة البشرية. صموئيل هووك. ترجمة صبحي حديدي. اللاذقية، سورية. 2004.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط