د. كامل النجار
/
Aug 03, 2008
هنالك مثل إنكليزي يقول: تستطيع أن تأخذ الحصان إلى الماء ولكن لا يمكنك أن تجبره على الشرب:
You can take a horse to the water but you cannot make him drink
وينطبق هذا المثل علي مسألة الإيمان بأي معتقد. فيمكن للشخص الذي يحمل سيفاً ويقود جيشاً عرمرماً أن يجبر الناس على اعتناق دينه الجديد، ظاهرياً، ولكن لا يمكنه أن يُدخل ذلك الإيمان إلى قلوبهم بدون إقناع. ومحمد بدأ بمحاولة إقناع قريش بدينه الجديد عندما كان في مكة، وجاء قرآنه بآيات مثل (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل 125). وبعد ثلاث عشرة سنة من الموعظة الحسنة لم يتبع محمد أكثر من حوالي مائة إلى مائة وخمسين رجلاً وامرأة، أغلبهم من الفقراء والغلمان. وعندما اقتنع محمد بفشل قرآنه في إقناع قريش، هاجر إلى المدينة وهجر الموعظة الحسنة ولجأ إلى التخويف، وانعكس هذا في القرآن المديني. فنجد الخوف والتهديد والوعيد أصبح العامل المكمل للسيف في نشر الدعوة، وخلا القرآن تماماً من آيات الحب والعواطف الإنسانية النبيلة الأخرى. فهناك مثلاً حوالي تسعة وأربعين موضعاً ذكر فيها القرآن كلمة "يحب" ولكن أغلبها كان حباً سالباً، أي "إن الله لا يحب". وهناك حوالي عشرة آيات فقط تقول إن الله "يحب". ولكن لأن القرآن كله تكرار، نجده يقول (إن الله يحب المحسنين) خمس مرات، و(الله يحب المتقين) ثلاث مرات، و (الله يحب المتطهرين) مرتين، والله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً واحداً. وهناك حوالي خمس وعشرين آية تقول إن الله "لا يحب" عدة فئات من الناس، منهم المفسدين، والمسرفين، والخائنين، وحتى الفرحين، فإن الله لا يحبهم.
ثم لجأ القرآن إلى تخويف الذين لا يؤمنون بدين محمد الجديد وبالغ في وصف العذاب الذي سوف يتعرضون له يوم القيامة، وذكر جهنم والنار والعذاب حوالي مائة وست وأربعين مرة، فقال:
ـ "هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قًطّعت لهم ثيابٌ من نار يُصّبُ من فوق رؤوسهم الحميم. يُصهرُ به مافي بطونهم والجلود. ولهم مقامع من حديد. كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍ أعيدوا فيها. وذوقوا عذاب الحريق" (الحج 19-22)
ـ "إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً" (النساء 56)
ـ "إن شجرة الزقوم. طعام الأثيم. كالمهل يغلي في البطون. كغلي الحميم. خذوه فأعتلوه إلى سواء الحجيم. ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم" (الدخان 43-48)
ـ "إنا اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا" (الكهف 29)
ـ "إنا اعتدنا للكافرين سلاسلاً وأغلالاً وسعيرا" (الإنسان 4)
والغريب أن فقهاء الإسلام يؤكدون على أن الخوف والتهديد يلعبان دوراً مهماً في إيمان المسلم. يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر: (من الأساليب الحكيمة لتعميق الإيمان باليوم الآخر، وترسيخ الاستعداد لاستقبال هذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح، تذكير الناس بأهوال هذا اليوم وبيان أحوالهم في هذا اليوم العصيب. ومن الآيات القرآنية التي صورت أهوال هذا اليوم تصويراً ترتجف له القلوب، قوله تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد {الحج 1-2}. وقد افتتح سبحانه هذه السورة الكريمة بهذا الافتتاح الذي تهتز له النفوس، لكي يزداد الناس إيماناً على إيمانهم، ويقيناً على يقينهم بأن يوم القيامة حق، وأن الثواب والعقاب فيه صدق. ولفظ الزلزلة كما يقول الإمام الألوسي، التحريك الشديد والازعاج العنيف، بطريق التكرير بحيث يزيل الأشياء من مقارها، ويخرجها عن مراكزها. وقال سبحانه: إن زلزلة الساعة شيء عظيم، بصيغة الإجمال والإبهام لهذا الشيء العظيم، لزيادة التهويل والتخويف.) (جريدة الأهرام: قضايا وآراء، 01/05/2003).
وكأن كل هذا الوصف لأهوال القيامة في القرآن لا يكفي، أضاف أهل الحديث أحاديثاً تزيد في رعب المسلم. ففي صحيح الإمام مسلم نجد (عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يافلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه.)
والقرآن نفسه يؤكد أنه يستعمل أسلوب التخويف مع الناس بدل الإقناع، فيقول:
إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (يونس 15)
وما نرسل الآيات إلا تخويفا ( الإسراء 59)
إنما المؤمنون الذين إذا ذكروا الله وجلت قلوبهم (الحج 35)
لئن اتخذت إلهاً غيري لاجعلنك من المسجونين (غافر 29)
نخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا (الإسراء 60)
والذين هم من عذاب ربهم مشفقون (المعارج 27)
إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا (الإنسان 10)
يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا (الإنسان 7)
هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً ( الرعد 12)
قم يحاول القرآن أن يلعب على العوافطف فيُذّكر المسلمين بأن هذا القرآن يُدخل في قلوب الناس وحتى في الجمادات، خشية الله والخوف من عذابه، فيقول:
وإن منها ما يهبط من خشية الله (البقرة 74) (يعني الحجارة)
إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون (المؤمنون 57)
يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشيةً (النساء 77)
والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة إنهم إلى ربهم راجعون (المؤمنون 60)
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله (الحشر 21)
وقد أكد صحابة محمد أن إيمانهم كان نتيجة الخوف وليس اقتناعاً، فعندما عيّن النبي عبد الله بن حذافة أميرأ على سرية، أمرهم عبد الله هذا أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا فلما أوقدوها أمرهم بالتقحم فيها، فقال لهم: ((ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟ وقال: (من أطاع أميري فقد أطاعني). فقالوا: ما آمنا بالله واتبعنا رسوله إلا لننجو من النار)) (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج5، سورة النساء، الآية 59).
ثم زاد أهل الحديث في تخويف الناس من يوم القيامة بأن اخترعوا أحاديث عذاب القبر والثعبان الأقرع الذي يعض الميت في قبره من يوم موته إلى يوم البعث، بالإضافة إلى أسئلة وعذاب منكر ونكير.
ولكل هذه الأسباب مجتمعة نجد أن إيمان الغالبية العظمى من المسلمين هو إيمان بقشور الإسلام وكيفية أداء الشعائر من صلاة وصيام وحج حتى ينجوا من النار فقط، وليس لتغيير سلوكهم الاجتماعي أو لغرس الفضيلة في أنفسهم أو في النشء. ويظهر هذا جلياً في المملكة العربية السعودية، الأرض التي نشأ بها الإسلام. فهناك نجد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي توظف حوالي خمسة آلاف "مطوع" ليسوقوا الناس غصباً إلى الصلاة كلما حان وقتها، وإجبارهم على أغلاق متاجرهم ومكاتبهم وتعطيل مصالح الناس. لا يحدث هذا بالإقناع والموعظةالحسنة، وإنما بالعصا. وهؤلاء المطوعون الذين يطوعون الناس بالعصا لا يتحاشون عن ضرب النساء بالدرة إذا انكسف شعر أو ساق إحداهن. ويضربون الذي يتجرأ ويختلي بامرأة غير محرمة في سيارته. ويضربون الشباب إذا شكوا أن أحدهم قد حاول معاكسة الفتيات في الأسواق التجارية. وباختصار يحق لهم الضرب حتى الموت لكل من شكوا فيه أو في سلوكه.
ومع كل هذه المآخذ يزعم الإسلاميون أن الله قد عُرف بالعقل وإن الإسلام هو دين العقل الذي يشجع بل يطلب من المسلمين التفكر في دينهم. وهؤلاء الإسلاميون يطلبون المستحيل من المسلمين العرب إذ أن غالبيتهم العظمى أميون لا يعرفون القراءة والكتابة ولا يقرؤون القرآن، وإن حفظ بعضهم القرآن عن ظهر قلب عن طريق التلقين، فهو لا يفهم معناه ولا فرق بينه وبين المسلم الهندي الذي يحفظ القرآن بلغته العربية ويرتله دون أن يفقه منه كلمة واحدة. وليت الأمر وقف عند عامة المسلمين، فحتى الفقهاء الذين فسروا القرآن ماكانوا يعرفون معنى جزء كبير من كلماته الغريبة فلجؤوا إلى التخمين.
ودعونا نرى تخميناتهم في هذا الشرح لبعض آيات سورة "المطففين":
(كلا إن الأبرار لفي سجين. وما أدراك ما سجين. كتاب مرقوم) (المطففين 7-9). أربعة كلمات فقط: سجين، والأبرار، وكتاب، ومرقوم. ودعونا نقرأ ما كتبه المفسرون الذين يعرفون كل شيء عن القرآن: (قال قوم من أهل العلم بالعربية "كلا" ردع وتنبيه، أي ليس ألأم مما هم عليه من تطفيف الكيل والميزان. فهي كلمة ردع وزجر. وقال الحسن: "كلا" بمعنى حقاً. وروى ناس عن ابن عباس أنه قال: إن أرواح الفجار وأعمالهم "لفي سجين". وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله: سجين صخرة تحت الأرض السابعة، تُقلب فيُجعل كتاب الفجار تحتها. وقال كعب: تحتها أرواح الكفار تحت خد إبليس. وعن كعب أيضاً قال: سجين صخرة سوداء تحت الأرض السابعة، مكتوب فيها اسم كل شيطن، تُلقى أنفس الكفار تحتها. وقال سعيد بن جبير: سجين تحت خد إبليس. وقال يحيي بن سلام: سجين حجر أسود تحت الأرض، تكتب فيه أرواح الكفار. وقال عطاء الخرساني: هي الأرض السابعة السفلى، وفيها إبليس وذريته. وعن ابن عباس قال: إن الكافر يحضره الموت، وتحضره رسل الله، فلا يستطيعون لبغض الله له وبغضهم إياه، أن يؤخروه ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته، فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه، ورفعوه إلى ملائكة العذاب فأروه ماشاء الله أن يروه من الشر، ثم هبطوا به إلى الأرض السابعة وهي سجين، هي آخر سلطان إبليس فأثبتوا فيها كتابه. وعن كعب الأحبار قال: إن روح الكافر إذا قُبضت يُصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يُهبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها، فتدخل في سبع أرضين حتى يُنتهى بها إلى سجين، وهو خد إبليس. قال مجاهد: عملهم تحت الأرض السابعة لا يصعد منه شيء. وروى أبو هريرة عن النبي (ص) قال: "سجين جب في جهنم وهو مفتوح." وقال في مكان آخر "إنه جب مغطى". وقال أنس: قال النبي: "سجين أسفل الأرض السابعة". وقال الزجاج: "لفي سجين" لفي حبس وضيق شديد. وقيل أصله "سجيل" فأبدلت اللام نوناً. وقال أسلم بن زيد: سجين في السماء الدنيا).
فماذا نفهم من هذا؟ هل سجين هي خد إبليس، أم صخرة تحت الأرض السابعة، أم حجر أسود فيه أسماء الشاطين، أم مكان تُحفظ فيه أرواح الكفار تحت الأرض، أم هي بئر في جهنم، أم مكان في السماء الدنيا؟ إنه الجهل المركّب مع ادعاء العلم والمعرفة.
===============
كامل النجار، kannajar@hotmail.com
نقلاً عن موقع الحوار المتمدن - العدد: 2341 - 2008 / 7 / 13
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط