توطئة
للإنصاف فالنظام التعليمي السعودي يتلاقى مع نظم التعليم العربية في نقاط شتى ويفترق عنها في نقاط أخرى. توصف البرامج التعليمية في العالم العربي إجمالاً بافتقادها إلى روح العصر، وتخلفها عن اللحاق بقطار الثورة المعلوماتية، والتعاطي مع منتجاتها من كمبيوتر وإنترنت، ومن تسلط للفكر الماضوي المعادي للحداثة والمرأة والأديان والمذاهب الأخرى، ومن هيمنة للبرامج القروسطية القائمة على الحشو والتلقين والتسليم. قد يبدو هذا الوصف فيه قدر من المبالغة، ولكننا لا نجافي الصواب كثيراً عندما نعزو أرقام البطالة المتزايدة العام تلو العام – وخاصة في السعودية- إلى عدم تكافؤ مدخلات سوق العمل مع مخرجات التعليم العقيمة. فالخريج الجامعي يعاني من ضعف بيّن في اللغة الإنجليزية ومن تواضع قدراته في التعامل مع الحاسب الآلي مما يقلل من فرصته في الحصول على الوظيفة المناسبة والتي غالباً ما تذهب للأجنبي الوافد. من جهة أخرى، لا يوفر التعليم للطالب العربي المناهج التي تحفز على التفكير والمناقشة والبحث والتحليل بقدر ما يعلمه تقديس الماضي التليد، وكراهية الآخر، ومعاداة الفلسفة، وامتهان المرأة، مع التأكيد بالطبع على تفاوت الإشكالية من قطر عربي لآخر.
وفي رأيي، فإن أهم العلامات الفارقة في بنية النظام السعودي مقارنة بنظم التعليم الأخرى تتجسد فيما يلي:
1 ـ الفصل الاعتسافي بين تعليم الإناث والذكور، وهو ما ينسجم مع النظرة الدونية للمؤسسة الدينية تجاه المرأة، وقلقها المرضي من تأثير التعليم غير الخاضع لإشراف رجال الدين المباشر في كسر الهيمنة الوهابية على المرأة.
2 ـ طغيان المناهج الدينة على نحو غير معقول منذ المرحلة الأولى الابتدائية إلى المستوى الجامعي. وبخلاف التكثيف الديني، فإن التكرار وتدوير المعلومات يمثل سمة بارزة في تلك المقررات، وهو ما يعكس بصدق الطابع النقلي للفكر الحنبلي والذي تشكل الوهابية امتدادا وتأصيلا له. ناهيك عن ما تحتويه بطون تلك المناهج من اعتناء شديد بالجوانب الطقوسية للدين، ومعاداة للاتجاهات العقلية والفلسفية، والمشاحنة مع الآخر من أصحاب المذاهب والأديان المختلفة، وإدعاء مفرط بامتلاك الحقيقة، وتوسيع دوائر الحرام والمكروه، وتضييق دوائر الحلال والإباحة.
3 ـ أسلمة المناهج غير الدينية بدءاً من إقحام كلمة "مشيئة الله" لضبط إيقاع العلوم الطبيعية المنفلت كما في نظرية الخطين المتوازيين والتوقعات الجوية، ومروراً بحرمان الطالب من التعرف على وتذوق نماذج شعرية مغايرة لشعراء الحداثة من أمثال مختارات لعلي الدميني وقاسم حداد ومحمود درويش وأدونيس، وأخيراً بخلق مناهج مستقلة ذات نزعة إسلامية مثل الاقتصاد الإسلامي، والإدارة في الإسلام.
مقومات التعليم الوهابي
1 ـ احتقار كل الأديان المخالفة للإسلام والحكم على أصحابها بالنار. ففي الدرس الثالث عشر من كتاب التوحيد المدرسي (وزارة التعليم – الرياض) يعلم التلاميذ الصغار ما يلي: الأديان التي يتبعها الناس كثيرة، لكن الدين الحق هو دين الإسلام، أما الأديان الأخرى فهي باطلة.. .. والعالم كله من أنس وجن يجب أن يدخل في الإسلام ويترك أديانه الباطلة وإلا فإن مصيره النار. تناصب المناهج التعليمية لليهودية والمسيحية العداء الأزلي، وتختزل العلاقات التاريخية والمركبة بين الأديان "السماوية" الثلاثة في إطار تصارعي سيتوج يوماً بانتصار المسلمين الحتمي. ولا أنفي أني في يوم مضى كنت كلما تأملت بحزن أوضاعنا المزرية وهزائمنا المتكررة، وجدت الحضن الدافئ في حديث ينسب لـ "النبي" طالما تكرر على مسامعنا وتحرقنا لوقوعه، وهذا نصه: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر يا مسلم... يا عبد الله... هذا يهودي خلفي، فتعالى فاقتله، إلا الفرقد فإنه من شجر اليهود." وعموما هذا ليس بمستغرب من الوهابية التي تتغذى فكرياً من طروحات ابن تيميه الراديكالية والتي كانت في جوهرها انعكاساً لصراع العالم الإسلامي آنذاك مع موجات الحملات الصليبية وغزوات القبائل التترية. وبالرغم من تغير الوقائع السياسية إلا أن الوهابية مازالت تقتات فقه القرن السابع الهجري وتردد بلا وعي جملة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المعادية (لفئة) من اليهود والنصارى ضمن سياق زمني معين، وكأنها بذلك (= الوهابية) تتطلع إلى توجيه دفة واقع جديد ينسجم مع قراءتها المبتسرة لآيات وأحاديث فقدت مبرراتها التاريخية.
2 ـ معادة الطوائف الإسلامية الأخرى لدرجة تصل إلى حد التكفير بالرغم من وجود أعداد كبيرة من الشيعة في المنطقة الشرقية، والإسماعيلية في نجران والمدينة المنورة، الأمر الذي يخلق لدى تلك الشرائح شعور حقيقي بالعزلة والاضطهاد حتى لو كانت تعيش تحت سقف وطن واحد ما دامت أنها لا تكن الولاء الوهابي. وبالطبع فإن الوهابية تستمد نظرتها التكفيرية للشيعة بكل أطيافها وتنويعاتها من فتاوى ابن تيميه والتي يقول في إحداها "من شك في كفرهم (= الشيعة) فقد كفر". وربما لفق الوهابيون قصصا مستهجنه تكرس حقارة الشيعي وكراهيته للسني، مثل الإدعاء أن الشيعي يتبول في الطعام الذي يقدمه لعدوه السني ابتغاء الأجر، وأن المذهب الشيعي يحفز على قتل السني للظفر بالجنة، وأنهم يمارسون الزنا الجماعي في ليلة عاشوراء. وهي – للأسف الشديد - أكاذيب شقت طريقها إلى عقول الناس في السعودية وساهمت بدور كبير في خلق روح عدائية لهم وضَعفت من درجة التفاعل الاجتماعي معهم.
3 ـ غرس الكراهية في نفوس الطلاب تجاه الفلسفة والفلاسفة من خلال رفع شعارات فارغة تجرم حب الفلسفة كقولهم "من تفلسف فقد تزندق"، وهي حرب تستهدف العقل بالدرجة الأولى من أجل إبطال مفعوله في التفكير والنقد والمساءلة، بغية تحويل الإنسان إلى مجرد حيوان ديني تسيطر عليه الخرافات والغيبيات. وليس أدل من ذلك، التغييب المتعمد لتراث المعتزلة ونتاجاتهم العقلية والسكوت عن منجزات كبار الفلاسفة العرب والمسلمين أمثال ابن رشد والفارابي والكندي وابن سينا، مقابل احتفاء بطرح الإمام أبي حامد الغزالي لموقفه السلبي من العقل والفلسفة. أذكر ضمن هذا السياق مدرس التاريخ في الثانوية عندما كان يتحدث بإجلال عن دور الغزالي في (فضح) الفلاسفة والرد على ترهاتهم. أحد الأصدقاء نقل لي أن أحد مدرسي الدين كان يؤرخ لسقوط الحضارة الإسلامية بدءاً من انشغال الخليفة المأمون المولع بالفلسفة بتبني حركة ترجمة كتب الفلاسفة والعناية بها.
4 ـ تشويه متعمد لمفاهيم القومية والوطنية والعلمانية والديموقراطية لعدم اتساقها مع الخط السلفي المتشدد، ووصمها بالشر والدعوة إلى الكفر البواح والتخلي عن المنهج السماوي المتكامل واستبدالها بقوانين وضعيه صنعها الإنسان. فالقومية مرفوضة تماماً لأنها فكرة وافدة من الغرب الكافر، ولأنها تجعل الولاءات القومية فوق الرابطة الدينية التي بني عليها الإسلام، ولأنها تحيي عصبيات عرقية جاهلية حاربها الإسلام، ولأنها لا تحتكم إلى كتاب الله (ألا يشبه ذلك نفس شعار الخوارج عندما حاجوا علي بن أبي طالب؟). وينسحب الأمر أيضاً على مفهوم الوطنية وحب الوطن. واستشهد هنا بما كتبه ناصر الصرامي في موقع إيلاف الإلكتروني في الثاني من شهر آب من عام 2003 عن مدرس الثقافة الإسلامية الذي أوكلت له مهمة تدريس مادة جديدة أسمها التربية الوطنية. ظل المدرس – كما يعلق الكاتب - عدة أسابيع حائراً لا يعرف ماذا يقول عن الوطن الذي كان يتحرج من ذكر اسمه الرسمي الكامل (المملكة العربية السعودية). وفي يوم فاجأهم بقوله أن حب الوطن يتعارض مع صميم عقيدة الولاء والبراء قبل أن يحكي لتلامذته عن أمجاد الخلافة الإسلامية التي ترقى فوق مستوى الانتماءات الوطنية الصغيرة.
5 ـ تبني مواقف متخلفة من المرأة بغرض تحطيم شخصيتها وإقصائها من ميادين الحياة وحصر دورها في الإنجاب وتربية الأولاد وإشباع احتياجات زوجها. ولا أفهم كيف يتأتى لها حسن تربية أولادها وقد جردت من حقوقها وعدت عوره يجب سترها استنادا للآية القرآنية المنزلة بحق زوجات النبي فقط: وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب...الآية (الأحزاب: 53) وفتنة يجب عدم اختلائها برجل أجنبي إلا بوجود محرم استنادا لحديث عن النبي: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم عليها، فإن ثالثهما الشيطان. لا تكتفي المناهج التعليمية بتعليم الذكور والإناث عظم أمر الحجاب وقدسيته الوهمية وفداحة التفريط به، بل أنها تحفل بقدر كبير من المرويات عن النبي محمد، تحط من مكانة المرأة، وتظهرها دوماً في موقف هزيل، بل وتفرض عليها حصاراً مخيفاً. فمن جملة ما يعلم التلاميذ أن معظم أهل النار هم من النساء، وأن الملائكة تلعن المرأة التي تصوم تطوعاً دون موافقة زوجها، وأنه لولا أنه لا يعبد إلا الله لكان من الأولى للزوجة أن تسجد لزوجها، وأنه خاب قوم ولوا أمرهم امرأة، والمرأة ناقصة عقل ودين، وشاوروا النساء وخالفوهن.. الخ.
6 ـ تحريم الغناء والموسيقى تحت ذريعة أنها تنبت النفاق في القلب، وأن سامع الغناء يعذبه الله يوم القيامة بصب رصاص مذاب في أذنيه جزاء ما أقترف من ذنب. ولعل التجني على الغناء وتحريمه إطلاقا هو ما دفع المغفور له الشيخ محمد الغزالي إلى تأليف كتابه المحرم دخوله الحدود السعودية والموسوم بالسنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث (دار الشروق – 1991) حيث فند الغزالي كل الأحاديث الموضوعة التي يتمترس وراءها المتشددون من الوهابية في تحريم الموسيقى والغناء، فلولا فسحة الموسيقى لضاق بنا العيش. كما تتخذ الوهابية موقفاً متشدداً من ضروب الفن الأخرى كالرسم والنحت والتصوير لأن فيها تشبه بقدرة الله من جهة ولأن الوهابية مازالت مسكونة بمخاوف لا مبرر لها من ارتداد الناس لعبادة التماثيل والافتتان بها. ومن جملة الأحاديث التي تروجها الوهابية في كتبها ما يروى عن "النبي" أنه قال: أن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة اللذين يصورون هذه الصور.
علاقة الوهابية بالتعليم
إن الرصد التاريخي لتحولات الواقع التعليمي في السعودية يجب ألا يعزل مطلقاً عن سياق العلاقة بين الكتلة الدينية والعائلة المالكة، أو ما يمكن تسميته بازدواجية السلطة، وهو مدخل يكاد يتطابق مع التبويب التاريخي الذي اقترحه الدكتور أنور عبد الله في كتابه العلماء والعرش (مؤسسة روافد، 1995) في تحليله الرصين لأبعاد دور المؤسسة الدينية في "توهيب" التعليم عبر ثلاثة مراحل زمنية متتابعة، سأوردها بإيجاز على النحو التالي:
المرحلة الأولى ( 1927 – 1953 )
انقضى ربع قرن دون أن يتوج بميلاد مدرسة ثانوية واحدة. وكانت كل المحاولات الفردية لتحديث التعليم تصطدم دوماً بتصلب رجال الدين، اللذين بلغ بهم الأمر إلى فرض قناعاتهم الوهابية بالقوة حتى لو كانت أبسط النظريات العلمية ترفضها جملة وتفصيلاً. فعلى سبيل المثال، تحرم الوهابية مادة الرسم لأنها تتشبه بقدرة الخالق، وتحرم تدريس الجغرافيا لأنها تؤمن بكروية الأرض، وتحرم تدريس اللغة الإنجليزية لأنها لغة الكفار (أحد أهم مسوغات تدريس اللغة الإنجليزية للالتفاف على الحظر الوهابي في الوقت الحاضر هي اتقاء غدر الكافر وكذلك دعوته للإسلام).
المرحلة الثانية ( 1953 – 1975 )
فرضت حاجة الدولة لتطوير كادرها الوظيفي، ومكافحة الأمية المتفشية بين أفراد الشعب السعودي، وتطلع الطبقات الشعبية في الحصول على تعليم عصري إلى استحداث جهاز وزارة المعارف التي سعت بهدوء إلى إدراج عدد من المقررات العلمية دون التفريط بالطبع بقدسية المناهج الدينية. كما تكشف أرقام المخصصات المالية المدفوعة لوزارة المعارف عن نية حقيقة من قبل الحكومة للنهوض بالمستوى التعليمي رغم محاولات الوهابيين الدءوبة لاجتذاب الطلاب إلى المعاهد الدينية عن طريق المغريات المالية والوظيفية.
المرحلة الثالثة (1976 - .....)
شهدت تلك المرحلة صعوداً لافتاً للتيار الديني، استطاع من خلاله كسر ثنائية التعليم التي تحققت في المرحلة السابقة. وقد يعزى النكوص التعليمي وفقدان المكاسب المحققة إلى تنامي المد الأصولي على خلفية الانكسارات السياسية للتيارات القومية في الوطن العربي، واحتضان السعودية للكوادر الأخوانية الحركية المبعدة من مصر وسوريا، ومشاركتها بفعالية في صياغة الأطر التعليمية والتربوية للبلاد، دون أن نغفل تقاطع المصالح بين التيار الديني والعائلة الحاكمة، فالأول يحتاج إلى الأموال النفطية لتمويل مشروعاته وبرامجه الدينية (الجامعات والمعاهد الدينية كنموذج)، والأخير بحاجة إلى صيغة دينية تشرعن وجوده وبقاءه إلى جانب توظيفها في معاركه مع التيارات السياسية القومية.
ماذا بعد؟
اعتقد أن قرار ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود الشجاع بإلحاق الرئاسة العامة للبنات في عام 2002 - كانت دائماً تحت رئاسة رجل دين وهابي – بوزارة المعارف والتي تطورت في مرحلة لاحقة لتسمى بوزارة التعليم والتربية بمثابة إسدال للستار على المرحلة الثالثة، وتدشين لبداية مرحلة تعليمية جديدة أكثر تمرداً على الأغلال الوهابية، وأكثر انفتاحاً على متطلبات الألفية الثالثة. وبالتأكيد فإن الحملة الحكومية لغربلة النظام التعليمي، والتي تساندها توجهات ليبرالية داخلية دون أن ننسى الدور الأمريكي، قد أثار مخاوف الكتلة الدينية وخاصة التيار الصحوي المتشدد والمتنامي منذ أواخر السبعينيات، والذي يعول على المدرسة في صناعة كوادر بشرية مهيأة للتفاعل مع مشروعاته المستقبلية. من المؤكد أن الأيام القادمة سوف تشهد مزيداً من التصعيد من قبل المتدينين مع التزايد النسبي والبطيء لعمليات التحديث والإزالة المستمرة للتشوهات الوهابية، ولكن على ما يبدو أن الحكومة السعودية قد عزمت هذه المرة على المضي بهدوء لتقويم مناهج التعليم وتجفيف منابع الإرهاب والكراهية التي خرج من رحمها بن لادن ومن لف لفه.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط