من أكثر الشرور التي تصيب عقل الإنسان بالجمود والتكلس خضوعه المطلق لثقافة التلقين الديني..
أعترف أني حينما كنتُ في الثالثة عشرة من عمري كنتُ أخضع كلياًً للمؤثرات الثقافية التي كان يساهم في تشكليها البيت والمدرسة والمسجد وأحد المراكز الدينية، وأتلقاها على إنها مسلمات مطلقة غير قابلة للنقاش أو النقد، وكانت معظم تلك المؤثرات ثقافة تلقينية تعتمد على أشرطة الكاسيت والمحاضرات الدينية ذات الصبغة الإرشادية التوجيهية..
وأعترفُ أني لم أكترث أبداً للانتماء لذلك الدين بالمعني الشكلي والتعبدي الصرف حيثُ كنتُ أجد في الانتماء للدين الذي كانت تتداوله المجاميع الدينية من حولي عملا ً تنظيمياً فقط يشغل جل وقتي ولكني في المقابل لم أستطع أن أبدي اعتراضاً على المفاهيم الدينية في تلك الفترة بحكم أني لم أكن أستوعب مقدار الضرر الذي كان يلحق بي من جراء إيماني الساذج بتلك المعتقدات الدينية، وفي ذات الوقت لم أكن مهيئاً للتفكير في جدوى ما كانت تطرحه تلك المجاميع من ثقافات دينية توجيهية ووعظية متعددة..
وأعترف إننا لم نستطع أن نخرج من دائرة الثقافة الدينية أبداً لأننا كنا نعتقد أن الدين هو محور حياتنا وكل شيء يتعلق بنا مرتبط بالدين إلى درجة أنني كنتُ أجد أن الدين يقتحم حياتنا حتى في أدق التفاصيل وكنا نعتقد أن مخالفة أيٍّ من المفاهيم الدينية المتداولة هو مخالفة لتعاليم السماء، وكانت المواعظ التوجيهية عادةً ما تركز على هذا المفهوم الفج وترى في ثقافة الآخر مجرد ترف لا لزوم لها على الاطلاق..
فكنا نعتقد أن (الله) يتمثل لنا في عمامة رجل الدين وفي جبته وفي محراب المسجد وفي محاضرة دينية وفي أشرطة الكاسيت وفي كل ما له علاقة بالتوجيه الديني وبالثقافة الدينية..
ولذلك كان علينا أن نؤمن بأن الدين هو (الله) وأن ما نحاول أن نفكر فيه أو ننتقده هو عصيان وانحراف وخروج عن طاعة الله، حتى إننا كنا نعتقد أن مَن يقرأ شيئاً لا علاقة له بالدين، كنا نتهمه باللهو ومضيعة الوقت في غير طاعة الله وقد يتعرض للانحراف السلوكي والأخلاقي؛ وقد نلتُ شخصيا ً قدرا ً كافياً من اتهامات الانحراف في وقتٍ لاحق من حياتي بسبب انفتاحي على القراءات البعيدة عن التعاطي مع الشأن الديني..!!
قد يستغرب البعض من مقدار التزمت الديني الذي كنا نتسربل فيه طوال الوقت ولكن هذه هي الحقيقة التي لابد أن نعترف بها لكي نحمي أولادنا اليوم ومستقبلا ً من الدين الذي يتداوله الناس بغباء وجهل وتزمت وانغلاق..
ولازلتُ أعتقد أن الثقافات الدينية المتزمتة والمدججة بالتلقين تروج لمفهوم أن (الله) هو الدين الذي يتداوله الناس هنا وهناك، ومن ثمَّ عليهم أن يؤمنوا به على أنه الحقيقة المطلقة غير قابلة للنقد أو التشكيك..!!
وقد لفتت نظري إحدى الصديقات الكاتبات التنويريات في رسالة الكترونية، إلى إننا نحن الذين عانينا من هذا النوع من الدين في مرحلة من مراحل حياتنا السابقة، قد نجد بعض الصعوبة في الانسلاخ من سيطرة الرواسب الدينية التي كبلت عقولنا بالمطلق، وعطلت لدينا قدرة التفكير الحر ولا نزال نعاني من وطأتها الشديدة. وذكرت أن الأشخاص الدينيين الذين نجدهم اليوم يبدون بعض الانفتاح على الحداثة الفكرية والسياسية هم في عقلهم الباطني لا يريدون أن يؤمنوا بهذه الحداثة أو أنهم في النهاية ينحدرون إلى رواسبهم الدينية المتزمتة..
ولخصت لي رسالتها بضرورة أن نربي أولادنا على الفكر الحر البعيد عن المؤثرات الثقافية الكهنوتية، ونبتعد بهم عن ثقافة التلقين التي هي الأصل في الثقافة الدينية حتى نحمي عقولهم من التشويه والتزمت والتشدد والوهن والانغلاق والتعفن..
لذلك أؤمن شخصياً بعد تجربة فعلية أيام مراهقتي الدينية (الثورية)، أنه من الضروري أن أبعد ابني وابنتي من التعرض لثقافة التلقين الديني وأدعهم يبنون عقولهم بأنفسهم بعيداً عن كل المؤثرات الثقافية التي من شأنها أن تعطل عندهم حاسة التفكير والنقد والمساءلة، وقد يكون (بوذا) محقا ً في حكمته حينما قال:
(كل منا يعرف كل شيء، ولكننا بحاجة فقط إلى أن نفتح أذهاننا لكي نتمكن بالتالي من الاستماع الى حكمنا الخاصة)..
وقد تقبع في أعماق عقولنا حقائق عظيمة عن كل شيء، والمسألة لا تحتاج سوى أن نسمع جيداً لهمسات الروح الصافية، ونفتح أذهاننا بعمق ووضوح وشفافية وتركيز على كل ما يدور حولنا، ونرى الأشياء على إنها نسبية وليست مطلقة..
ثقافة التلقين الدينية تستغل جيداً حاجة الإنسان الدائمة إلى روح متوهجة منيرة ترشده إلى حقائق الكون العظيمة، فتتعمد تلك الثقافة على ايهام الفرد أن الروح الساطعة المنيرة إنما تتجسد في الدين فقط، أو بالأحرى دينهم الذي يتداولونه ولا شيء آخر، بينما في حقيقة الأمر أن كلّ إنسان له الحق الكامل في أن يبحث عن (الله) والدين بطريقته الخاصة التي لادخل لأحدٍ بها؛ ولذلك، يسعى الفكر الديني الذي يعتمد على ثقافة التلقين إلى التركيز على أن الله فقط يتمثل في طقوسهم ويحبسونه بين جدران مسجدهم ويصادرون حق الناس في قدرتهم الذاتية على البحث عن الله خارج جدران اعتقاداتهم ومفاهيمهم الدينية، وصوروا الله على أنه سوف يعاقبنا ويرمي بنا في نار جهنم إذا نحن تخلينا عن طريقتهم في فهم الدين أو رفضنا طريقتهم في اكتشاف الحقائق والأنوار، ويتجاهلون تماماً أن في داخل قلب كل إنسان طاقة عظيمة تتدفق بالروح الساطعة من خلالها يصل إلى الله وإلى استجلاء إنسانيته التواقة للخير والحب والسلام والتصالح مع الحياة..
وتتجه ثقافة التلقين الديني إلى قمع الأسئلة التي تتعلق بالحياة والكون وثقافات الآخرين وقيم الأديان عبر نفي العقل وابعاده كلياً عن محاور البحث والتفكير والتفكيك، لأن العقول والقلوب التي تضبط ايقاعها على الذهنية المنفتحة المتوهجة بحس الاكتشاف وحدها القادرة على تجلي الحقائق ومعرفة عمق الأشياء..
علينا أن نؤمن بأن الحياة اليوم قد تجاوزت ثقافات التلقين الدينية الجامدة وأخذت تعرج بنا سفوح التفكير والبحث العلمي، وأن الحقيقة يجب أن تتسامى فوق الأشخاص وفوق المفاهيم التلقينية الراكدة العاجزة عن استثارة العقول، وأن التفكير الحر والمحايد وغير المنحاز الذي يعتمد على أسس المنهج العلمي والعقلي هو الطريق نحو معرفة حقيقة الأشياء وعمقها الموضوعي وأنوارها الداخلية وروحها الساطعة. ومن أهم ما دعت إليه فلسفة التنوير هو التركيز على قيم الفرد البعيدة عن التعصبات الدينية أو العرقية، وعدم التأثر بفكر الجماعة، والتميز عنهم بالتفكير المستقل واعتماد العقلية العلمية الحرة في دراسة كل ما حولنا، وفهم التنوع البشري للوصول إلى المشترك الإنساني الذي هو هدف البشرية السامي..
وتعتمد ثقافة التلقين الديني التركيز المكثف والدائم على المسبقات الذهنية الدوغمائية، التي تمنع العقل من استثمار طاقة الخلق والتجدد والبحث النقدي والبحث الفكري عن ثقافات الغير وفهم انجازاتهم في حقول المعرفة الإنسانية؛ وبالتالي نشأ عندنا ممن يسفهون انجازات الآخرين الفكرية والمعرفية وينعتونها بالانحراف عبر خطابات دينية غارقة بثقافة الشعارات والثقافة التقليدية الجامدة غير القادرة على انتاج الحراك الثقافي الحي المتجدد..
والنرجسية الثقافية على حد تعبير المفكر علي حرب التي تعتقد بصفاء جذورها الخالص، وتؤمن بأنها يجب أن تبقى بعيدة عن التداخل مع ثقافات الآخرين بحكم حمولاتها الأيديولوجية ذات القداسة السماوية، هي التي تركز عليها الثقافة التلقينية الدينية، لأنها تجعل الفرد يعتقد بأن ثقافته منزهة عن الخطأ ومنزلة من السماء، وهي الأفضل على الاطلاق. ولذلك، حينما بدأ عالم اليوم يتجه نحو الاهتمام بالثقافة الكونية التي ترتكز على مفاهيم حقوق الإنسان والمجتمع المدني والحريات والحداثة الفكرية والسياسية التي تعولمت وأصبحت المدى الذي يتسع لفضاء الأفكار المتنوعة وفضاء الهويات على اختلافها، أخذت مجاميع الفكر الديني تدافع عن ثوابتها الدينية بشراسة خوفاً عليها من الدخول في عالم المتغيرات والتحولات الفكرية الدائمة..
خلاصة القول، أجد أن الثقافة التلقينية الدينية، تريد من الفرد أن يلغي عقله تماماً ولا تمنحه فرصة التفكير والنقد وحق الحياة وحق التمتع بالتداول الحي والتداخل الواعي مع ثقافات الآخرين وانجازاتهم المعرفية والعلمية؛ وتريد أيضا ً من الفرد أن يغرق في تهويماته الثقافية الرافضة لاستخدام المنطقية العقلانية، وتريد أيضاً من الفرد أن يتقوقع داخل أفق ديني ضيق ويرفض الأفق الكوني ويحاربه لتعزيز ثوابته الماضوية وأفكاره المشبعة حد التخمة بالمسبقات الذهنية الدينية الدوغمائية، وربما تنطبق عليهم مقولة نيتشه: لا يعجبنا الجيد حينما لا نكون في مستواه..!!!
محمود كرم، كاتب كويتي tloo1@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط