جوزيف بشارة
/
Sep 30, 2008
تنقسم الرسائل والردود التي أتلقاها بمناسبة كل مقال أخطه للدفاع عن الأقليات المسيحية المضطهدة في العالمين العربي والإسلامي إلى فئتين؛ الفئة الأولى محترمة تعتمد الحوار البناء وتتراوح لغتها بين تأييد المقالات والاختلاف معها مروراً بالنقد الذي قد يصل في كثير من الأحيان إلى الدعوة الهادئة إلى اعتناق الإسلام باعتباره، كما تقول الرسائل، الدين الحق الوحيد الذي صانه الله من أيدي العابثين، والفئة الثانية غير محترمة تعتمد لغة بذيئة وتتراوح لهجتها بين توزيع الشتائم والإهانات، والتهديد بالعذاب الدنيوي والأبدي مروراً بكيل الاتهامات لي شخصياً ولغيري من الكتاب المسيحيين بالخيانة والعمالة للدولة الـ"صهيونية"، بالعداء للإسلام والمسلمين.
وعلى الرغم من أنني لست أهتم كثيراً بالرسائل والتعليقات السخيفة التي تكشف عن عقليات مبرمجة على كراهية وعدم التسامح مع الآخر وعلى توزيع الاتهامات من دون وعي أو تفكير، وعلى الرغم من إيماني بعدم حاجتي للتأكيد على محبتي الشخصية المؤكدة ومحبة كل مؤمن حقيقي برسالة السيد المسيح الراسخة نحو المسلمين، إلا أنني رأيت اليوم الكتابة للتأكيد على أن دفاعنا نحن الكتاب المسيحيين عن مقدساتنا وعن إخوتنا في العقيدة لا يعني بحال من الأحوال أننا نكن أية مشاعر كراهية تجاه المسلمين أو أي طرف أخر.
لست أدري لماذا يعتقد البعض بأن دفاعنا، على سبيل المثال لا الحصر، عن دماء المسيحيين في العراق أو حقوق المسيحيين في لبنان أو المقدسات المسيحية في مصر يعني حقدنا على الإسلام وكراهيتنا للمسلمين. فكتابات الكتاب المسيحيين في هذه الصحيفة وغيرها من الصحف الورقية والإلكترونية متزنة في مجملها ولا تحمل أية ضغينة نحو المسلمين، وإنما تحمل آلام وأوجاع المسيحيين في العالمين العربي والإسلامي. ولا يغفى على عاقل أو متزن أن المشاكل التي تواجه المسيحيين في بلدان المسلمين كثيرة وحقيقية وغير مفتعلة. وأعتقد بأن من ينكر أن قضية التطهير العرقي في العراق هي مسألة خطيرة يجب النظر إليها بمزيد من الجدية والحزم، وبأن من ينكر أن هناك مساعي حثيثة لتغييب المسيحيين عن الساحة اللبنانية بغرض تحويل لبنان إلى دولة إسلامية نقية، وبأن من ينكر أن المسيحيين في مصر مضطهدون وعرضة للمخاطر ولا ينالون حقوقهم السياسية والمدنية والدينية التي تكفلها القوانين المحلية والدولية هو بحاجة شديدة لمن يوقظ ضميره وإحساساته الإنسانية.
دعونا نعقد مقارنة بسيطة بين موقف المسلمين من الدفاع عن الإسلام والمسلمين وموقفهم من دفاع المسيحيين عن المسيحية والمسيحيين. لم يحتمل المسلمون حول العالم رؤية أشقائهم المسلمين يعانون وطأة التطهير العرقي في البوسنة والهرسك أو في الشيشان، ولم يطق المسلمون حول العالم الاستماع للأخبار التي تناولت وجود رسوم كارتونية دانماركية تسخر من نبي الإسلام، ولم يقدر المسلمون على الصبر تجاه الغزو الأمريكي للعراق. فهب المسلمون للجهاد دفاعاً عن إخوتهم المسلمين في البوسنة وعن نبيهم في الدنمارك وعن السيادة الوطنية في العراق. لم يظن المسلمون للحظة بأن دفاعاتهم، وحتى الخاطئة منها أو المبالغ فيها، كانت غير مبررة، بل أكدوا في كثير من المواقف على اقتناعهم بحقهم في الدفاع عن عقيدتهم ونبيهم وأوطانهم بكل الصور ومختلف الأشكال.
ولكن الموقف يبدو مختلفاً حين يدافع المسيحيون في بلدان المسلمين عن حقوقهم. فالمسلمون، باستثناء قلة قليلة واعية ومتزنة، لا يقبلون الأصوات المسيحية المطالبة بالحقوق والمساواة، حتى أن الكثيرين منهم يغضبون بشدة حين يصيح مسيحي مطالباً بحماية المسيحيين في العراق من الإرهابيين وفتواهم التكفيرية، أو حين يطالب مسيحي بإيقاف المخططات التي تستهدف إفراغ لبنان من مسيحييه، أو حين يدعو مسيحي الدولة المصرية لإيقاف الهجوم على المقدسات المسيحية في وسائل الإعلام الرسمية. بل أن هناك مجموعة ليست بصغيرة من الإسلاميين الذين تعرضوا في صباهم وشبابهم لعمليات غسيل مخ لا تكف عن الصراخ بغرض تمييع الحقائق وإقناع المجتمعات التي تتواجد بها بمحاربة المسيحيين عبر الترويج بأن المسيحيين في البلاد العربية والإسلامية يتمتعون بحقوق لا يتمتع بها المسلمون أنفسهم.
المسيحيون يئنون ويدمون ولكنهم لا يكرهون أبداً الآخرين بمن فيهم المضطهد والظالم والمتطرف والإرهابي لأن التعاليم المسيحية تنادي بالمحبة ولا تدعو أبداً للكراهية والحقد. سيقوم الكثيرون بالادعاء مثلاً بأن الحربين في العراق وأفغانستان تشنهما قوى غربية مسيحية ضد المسلمين في البلدين. ولكن هذا الادعاء مفضوح أولاً لأن الغرب لم يعد مسيحياً متديناً، وثانياً لأن الغرب لم يشن الحربين لغرض ديني وثالثاً لأن الغرب لا يقوم بنشر المسيحية على حساب الإسلام في البلدين. وسيدعي البعض بأن المسيحيين يتعرضون للإسلام ورموزه في البلاد الغربية. وهذا الادعاء مردود عليه أيضاً لأن الغرب الذي تخلى طواعية عن المسيحية كما سبق القول لا يقدس التابوهات ويتعامل مع الأديان من دون استثناء على أنها أفكار قابلة للنقد.
لقد كان المسيحيون الصادقون وما يزالون وسيبقون نموذجاً رائعاً في محبتهم النقية غير المحدودة نحو الآخرين بمن فيهم المسلمين. وبمناسبة عيد الفطر الذي يحتفل به المسلمون اليوم فإنني أدعو كل المسيحيين في العالمين العربي والإسلامي لاغتنام الفرصة لإظهار حجم وعمق محبتهم نحو المسلمين عبر التوجه نحو جيرانهم وزملائهم وأصدقائهم المحتفلين بالعيد للتواصل معهم وتهنئتهم بانتهاء شهر الصوم. نعم للمسيحيين حقوق لن نكف أبداً عن المطالبة بها، ونعم للمسيحيين مطالب يجب مراعاتها واحترامها في إطار مباديء المواطنة وحقوق الإنسان، ونعم للمسيحيين آلام ومواجع تسببت بها سياسات خاطئة وأفكار متطرفة وأعمال إرهابية، ولكن ستبقى المحبة هي الوسيلة المسيحية الوحيدة لنيل الحقوق. وليثق جميع المسلمين بأن المسيحيين لا يكنون نحوهم أية مشاعر بغض أو كراهية، بل أننا نكن لهم كل مشاعر الود والمحبة. وكل عام وكل المسلمين الطيبين الخيرين بخير.
جوزيف بشارة
josephhbishara@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط