سلمان مصالحة / Dec 24, 2008

المقال التالي منقول عن موقع إيلاف وقد نشر في 13 سبتمبر 2007

http://www.elaph.com/

الأجيال العربيّة النّاشئة، وكما يبرز من خلال دراسات متعدّدة في العقود الأخيرة، تواجه مشكلة كبيرة في فهم المقروء. هذه المشكلة تزداد عواصةً مع تسارع تدفّق المعاني المُستَحدَثة على اللّغة العربيّة من جهة، ومع انعدام خزن هذه المعاني والدّلالات في معاجم دقيقة تكون مُتاحَةً لكلّ طالب علم.  وإذا كانت هذه هي حال الأجيال النّاشئة مع معرفة اللّغة العربيّة المعاصرة، مع فهمها ومع مساءلتها، فكم بالحريّ في كلّ ما يتعلّق بحال هذه الأجيال مع معرفة اللّغة التّراثيّة، ناهيك عن فهمها ومساءلتها.

تأخذ هذه المسألة بُعدًا آخر في حال كون النّصّ المراد فَهْمُه مُتّسمًا بالقداسة في عرف مَنْ يؤمن بقداسة النّصّ.  ففي حال كهذه تصبح مساءلة النّصّ مهمّة غير سهلة بالمرّة، نظرًا لذلك الجانب العاطفي الّذي يخيّم على ذهن القارئ المؤمن ناصبًا فوقه ستارًا من الرّهبة يحدّ من إمكانيّة سبر أغوار النّصّ.

سأقوم في هذه المقالة بقراءة اختباريّة تشكّل نموذجًا يُحْتَذَى لقراءات من هذا النّوع يمكن أن يقوم بها كلّ قارئ آخر إذا وجد في نفسه رغبة بذلك. ومن خلال هذه القراءة سأعرضُ بعض ما يمكن أن يتوصّل إليه الباحث عن الحقيقة من خلال قراءة لأحد أهمّ النّصوص المؤَسِّسَة للحضارة العربيّة الإسلاميّة على الإطلاق. والنّص الّذي أعنيه هو سورة الفاتحة في القرآن الكريم.

***
بادئ ذي بدء، ها هو نصّ السّورة في القرآن المتداول في العالمين العربي والإسلامي:

"بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمدُ لله ربّ العالمين، الرّحمن الرّحيم، مالك يوم الدّين، إيّاك تعبدُ وإيّاك نستعين، اهدنا الصّراطَ المستقيم، صراطَ الّذين أنعمتَ عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين".

وقبل الدّخول  في صلب الموضوع نقول، إنّ المشهور هو كون هذه السّورة قد نزلت بمكّة، غير أنّ ثمّة روايات أخرى تقول بأنّها نزلت في المدينة، كما أنّ هنالك روايات تقول إنها نزلت مرّتين، مرّة في مكّة ومرّة في المدينة. يذكر السيوطي: "وأخرج وكيع في تفسيره عن مجاهد قال: نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة. وأخرج أبو بكر بن الأنباري في المصاحف عن قتادة قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكة." (السيوطي، الدر المنثور).

فأمّا من حيث الأهميّة المعزوّة لهذا النّصّ، فهنالك إجماع بين فقهاء المسلمين على مدى أهميّة سورة الفاتحة، إذ أنّ المسلم يقوم بترديد هذه السّورة سبع عشر مرّة في اليوم على الأقلّ. ناهيك عن أنّ الصّلاة بدون ترديد سورة الفاتحة تُعتبر باطلة لاغية. إنّ كثرة الأسماء الّتي تُطلق على هذه السّورة خير شاهد على أهميّتها، ومن بين هذه الأسماء: أمّ الكتاب، وأمّ القرآن، والكافية، والشّافية، والحمد، والصّلاة، والشّكر وغيرها، غير أنّ الفاتحة هو الاسم الأشهر لهذه السّورة لانّ القرآن يفتتح بها.

لقد لخّص سيّد قطب نظرته تجاه سورة الفاتحة قائلاً: "إنّ في هذه السورة من كلّيات العقيدة الإسلامية، وكلّيات التصوّر الإسلامي، وكليات المشاعر والتوجيهات، ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة، وحكمة بطلان كُلّ صلاة لا تُذكر فيها"، (سيّد قطب، في ظلال القرآن).

إنّ هذا التّصوّر الّذي يعرضه سيّد قطب يستند إلى أحاديث وروايات قد أجمع عليها المسلمون على جميع مذاهبهم وعلى مرّ العصور.  فقد أخرج البخاري في صحيحه أنّ النّبي ص قال لأبي سعيد بن المعلَّى:"لأُعَلّمَنّك سورةً هي أعظمُ السور في القرآن: الحمد لله ربّ العالمين، هي السّبعُ المَثاني وَالقُرآنُ العظيم الذي أُوتيتُه".  كما روي عن أبي هريرة الحديث النّبوي: مَنْ صلّى صلاةً لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج..." (صحيح مسلم، سنن البيهقي، سنن أبي داود)، أو الحديث النّبوي الذي يقول: "لا صَلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (سنن التّرمذي).

إذن، وبالاستناد إلى ما روى لنا السّلف، ما من شكّ في أنّ هذه السّورة هي ذات مكانة خاصّة وجوهريّة في المنظور الإسلامي.  ولهذا السّبب أيضًا فإنّ قراءة متأنّية للسّورة وللقضايا الّتي قد تطرحها من شأنها أن تلقي أضواء كاشفة على جوانب خافية عن أبصار العامّة، كما من شأن قراءة كهذه أن تثير أسئلة تُفضي إلى إجابات قد يكون العامّة من المؤمنين بحاجة إليها من أجل توسيع رقعة معارفهم بمعتقداتهم هم. إنّ توسيع رقعة المعارف من شأنها أن تفكّ أسر المؤمنين من قيود العاطفة الّتي طالما شكّلت كابتًا لأفكارهم، كاتمًا لعقولهم، ومن شأن قراءة كهذه أن تفتح مصاريع جديدة على قراءات أخرى لمجمل النّصوص التّراثيّة ممّا يزيدها غنى ويزيد المؤمن بها معرفة تتّسع بها آفاقه.

***
والأسئلة الّتي تعلو من قراءة سورة الفاتحة يمكن تقسيمها إلى عدّة مجالات:

أوّلاً:نهائيّة النّصّ.

ثانيًا: المجال اللّغوي

ثالثًا: المجال المفاهيمي، أو تفسير النّصّ.

أوّلاً: نهائيّة النّصّ

هنالك إجماع بين علماء المسلمين، من سنّة وشيعة، على أنّ النّصّ القرآني، كما هو بين أيدينا، هو النّصّ الإلهي النّهائي الّذي أُنزل على محمّد عبر الملاك جبريل، وأنّ من يقول بغير ذلك فلا يُعبأ برأيه. ويستندون في ذلك إلى آيات قرآنيّة، مثل: "إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون" (سورة التوبة).

في هذا السّياق يورد السيّد علي الحسيني الميلاني رواية لتعزيز موقف انتفاء التّحريف عن القرآن: "وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يعلّم الناس القرآن...فكان كلّما نزل عليه الوحي حفظ الآية الكريمة أو السورة المباركة، وأمرَ الكُتّاب بكتابتها ثمّ أبلغها الناس، وأقرأها القرّاء واستحفظهم إيّاها...وهكذا كانت الآيات تحفظ بألفاظها ومعانيها." (الميلاني، التّحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشّريف، المقدّمة).  كما يورد الميلاني، نقلاً عن كتاب الوافية في الأصول، قول العلاّمة التّوني بخصوص النّصّ القرآني: "والمشهورُ أنّه محفوظٌ ومضبوطٌ كما أُنزل، لم يتبّدلْ ولم يتغيّر". ثمّ يضيف الميلاني: "ولو أردنا أن ننقل كلمات هؤلاء الأعاظم من علماء الشيعة في هذا المضمار لطال بنا المقام ، فمثلاً يقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: "وإنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه... وإنّه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم. ومن ذهبَ منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى موجود نقصٍ فيه أو تحريف فهو مخطئ يردّه نصّ الكتاب العظيم "إنّا نحنُ نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون"، (الميلاني، التّحقيق في نفي التّحريف).

ومن بين الآيات الّتي يوردونها لنفي التّحريف يذكرون الآية الّتي تنصّ على أنّ القرآن "لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه" (سورة فصّلت 42). وكما يذكر الطبري في تفسيره  لهذه الآية:" لا يستطيع ذو باطل بكيده تغييره بكيده، وتبديل شيء من معانيه عمّا هو به. أو كما يضيف القرطبي في تفسيره: "لا يستطيع أن يُغيّر ولا يزيد ولا ينقص".  وها هو ابن بابويه، من القرن الرّابع الهجري، يقول أيضًا في كتابه معاني الأخبار: "أجمعت الفرقُ على أنّ القرآن صحيحٌ لم يغيّر ولم يبدّل ولم يزد فيه ولم ينقص منه" (فتح الله المحمّدي، سلامة القرآن من التّحريف، ص 135).

إنّ هذه النّظرة القائلة بانتفاء التّحريف عن النّصّ القرآني تستند إلى رؤية النصّ القرآني على أنّه كلام الله المنزل، وهو على هذه الصيغة مثلما نزل على محمد.  هذه النّظرة بشأن نهائيّة النّصّ القرآني بوصفه كلام الله الّذي لم يدخله تحريف أو تغيير بأيّ حال هي النّظرة الّتي تحظى بإجماع علماء المسلمين، قديمًا وحديثًا.  لكنّ السّؤال الّذي لا نجد مناصًا من طرحه هو، هل تصمد هذه النّظرة أمام ما نقف عليه في تضاعيف النّصوص التّراثيّة الّتي حفظها لنا السّلف؟

***
وقبل الخوض في الكلام عن سورة الفاتحة، نشاهد أنّ ثمّة خلافًا حول عدد الآيات في هذه السّورة.  إذ أنّ البعض لا يعدّ البسملة جزءًا من هذه السّورة. أي، منذ البداية نرى أن ليس ثمّة إجماع على هذا الأمر المتعلّق بسورة لا يتعدّى عدد آياتها السّبع.  وهذه البسملة كما في سائر السّور تشكّل فاصلاً فارقًا بين سورة وأخرى، ليس إلاّ. وإذا انتقلنا إلى نصّ الفاتحة ذاته لوجدنا أيضًا أنّ ثمّة خلاف بشأن نهائيّة هذا النّصّ. فها هو البغوي يورد رواية تُظهر اختلافًا بخصوص النّصّ مُستندًا على قراءة عمر بن الخطّاب للفاتحة: "وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين" (تفسير البغوي للآية، وشبيه بهذه القراءة في سنن سعيد بن منصور، وفي كتاب المصاحف لابن داود)، أي أنّ عمر بن الخطاب يقرأ "من" بدل "الّذين"، كما تظهر في النّصّ المتداول بين المسلمين.  وفي رواية أخرى يظهر أنّه ليس عمر بن الخطاب فحسب كان يقرأ هذه القراءة، بل أيضًا عبدالله بن الزبير يقرأ الفاتحة قراءة شبيهة(السيوطي: الدّر المنثور، القاسم بن سلاّم: فضائل القرآن). وها هو المجلسي يورد رواية أخرى فيها تأكيد على هذه القراءة: "وقرأ رجل على أبي عبدالله عليه السلام سورة الحمد على ما في المصحف، فرد عليه وقال اقرأ: "صراط مَنْ أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين"، (المجلسي: بحار الأنوار).  وكذلك نرى في تفسير القمّي: "اهدنا الصراط المستقيم صراط من انعمت عليهم وغير المغضوب عليهم ولا الضالين".

كثيرة هي الأمثلة عن اختلاف القراءات في النّصّ القرآني، ولعلّ المثال الطرّيف التّالي يوضّح كيفيّة حصول هذه القراءات المختلفة، ما يدلّ في نهاية المطاف على أنّ النّصّ المشهور للقرآن قد تعرّض على مرّ السّنوات إلى عمليّة تحرير حتّى وصل إلى هذا الإجماع بخصوص النّصّ الّذي بين أيدينا.  فها هو السيوطي يورد رواية الطبري وابن الأنباري عن قراءة ابن عباس بخصوص الآية 31 من سورة الرعد "أفلم يتبيّن الذين آمنوا" فقيل له إنّها في لمصحف "أفلم ييأس"، فقال: أظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس" (أنظر: السيوطي، الدر المنثور، ج 4، ص 118. أنظر أيضًا: تفسير الطبري ج 18 ص 136؛ إبن حجر العسقلاني، فتح الباري ج 8 ص 475؛ أبو عبيد، فضائل القرآن، ج 2 ص 123 ح 624). فكم من الكتبة الّذين عملوا على تدوين هذه النّصوص قد غلب عليهم النّعاس على مرّ العقود والقرون بينما كانوا ينقلون هذه النّصوص ويدوّنونها؟

ثانيًا: المجال اللّغوي – عربيّ

يُجمع المسلمون على أنّ القرآن نزل بلغة عربيّة سليمة ومعجزة: "إناّ جعلناه قرآنًا عربيًّا" (سورة الزّخرف ٣)، أي، كما يقول الطّبري: "أنزلناه قرآنًا عربيًّا بلسان العرب، إذْ كُنتم أيّها المُنذَرون من رهط محمّد عربًا"، وذلك لكي تفهموا معانيه ومقاصده ومواعظه. "وَلَمْ يُنْزِلهُ بلسان العجم فيجعله أعجميًّا فتقولوا: نحن عرب، وهذا كلام أعجميّ لا نَفْقَه مَعَانِيه"، (تفسير الطبري للآية)، أو: "لأنّ كلّ نبيّ أنزل كتابه بلسان قومه"، (تفسير القرطبي للآية).  أمّا ابن كثير فيقول: "أنزلناه بلغة العرب فصيحًا واضحًا... تفهمونه وتتدبّرونه" (تفسير ابن كثير للآية). بل ويذهب البعض إلى أبعدَ من ذلك، حيث يقولون: لقد نزل القرآن عربيًّا لأنّ العربيّة هي لغة الملائكة: "لأنّ لسان أهل السّماء عربيّ"، كما رُوي عن مُقاتل (تفسير القرطبي للآية).

لكن، هل تصمد هذه الرؤيا أمام الواقع والحقائق الّتي تعلو من نصّ سورة الفاتحة؟ في الحقيقة بوسعنا أن نقول، إنّ سورة الفاتحة، وعلى قصرها، تحتوي على مصطلحات أعجميّة، وللتّحديد تحتوي على كلمتين ليستا عربيّتين بأيّ حال.

أوّلاً: كلمة صراط

فكلمة "صراط" الّتي تظهر في الفاتحة ليست عربيّة بأيّ حال. ومثلما عرّف القدماء ماهيّة الكلمة الأعجميّة، فقد ذكر أهل اللّغة أنّ الكلمة الأعجميّة تبقى أعجميّة حتّى وإن نُقلت إلى العربيّة، وهنالك طرق وقواعد مختلفة لمعرفة العجمة في اللّغة العربيّة، وقد وقف عليها السّيوطي في مؤلّفة "الاقتراح في أصول النّحو".  ومن بين هذه الطّرق: أن يُعرَف بالنّقل عن إمام من أئمّة العربيّة، أو أن يكون خارجًا عن أوزان الأسماء العربيّة، أو أن يكون أوّله نون ثمّ راء مثل كلمة "نرجس"، أو أن يكون آخره دال بعدها زاي، مثل كلمة "مهندز"، أو أن يجتمع فيه الجيم والصّاد مثل كلمة "صولجان"، أو الجيم والقاف، مثل "منجنيق"، أو الصّاد والطّاء مثل "صراط"، وغيره. أي أنّ اجتماع الصاد والطاء في كلمة "صراط" هو الدّليل على كون هذه الكلمة أعجميّة، وليست لسانًا عربيًّا مبينًا. وفي الحقيقة فإنّ أصل هذه الكلمة يعود إلى اللاتينيّة (strata)، أي الطريق المشقوقة المستقيمة، ومن اللغة اللاّتينية انتقلت الكلمة إلى العربيّة، فتصحّفت من "صطراطا"اللاتينية لتصبح صراط بالعربية.  وقد وقف المفسرون الأقدمون على ذلك أيضًا كما نقرأ لدى القرطبي والسيوطي: "الصراط: حكى النقاش وابن الجوزي أنه الطريق بلغة الروم." (القرطبي: تفسير الآية، السيوطي: الإتقان في علوم القرآن).

وهنالك الكثير من المفردات الأجنبيّة في النّصّ القرآني: "وقال أبو بكر الواسطي في كتابه الإرشاد في القراءات العشر: في القرآن من اللغات خمسون لغة... ومن غير العربية: الفرس والروم والنبط والحبشة والبربر والسريانية والعبرانية والقبط" (السّيوطي، الإتقان في علوم القرآن).  كما أنّ هنالك من يرى أنّ كلمة صراط هي تعريب لجينواد الفارسيّة الّتي تعني الجسر.

ثانيًا: كلمة رحمن

فلو ذهبنا إلى لسان العرب نتوخّى الوصول إلى أصل هذه الكلمة ومدلولها، فماذا نجد؟ "قال الزّجّاج: الرّحمن اسمٌ من أسماء اللّه عزّ وجلّ مذكورٌ في الكتب الأُوَل، ولم يكونوا يعرفونه من أسماء اللّه.  قال أبو الحسن: أراه يعني أصحاب الكُتب الأُوَل.  قال الأزهري: ولا يجوز أن يُقال رحمن إلاّ لله عزّ وجلّ. وحكى الأزهري عن أبي العبّاس في قوله -الرّحمن الرّحيم-: جمعَ بينهما لأنّ الرّحمن عبرانيّ والرّحيم عربيّ".  (لسان العرب: مادة رحم). وبمثل هذا الرأي يروي السيوطي عن المبرد وثعلب بشأن كلمة الرحمن: "ذهب المبرد وثعلب إلى أنّه عبراني وأصله بالخاء المعجمة" (السيوطي: الإتقان في علوم القرآن). أي أنّ كلمة رحمن ليست عربيّة وإنّما هي مأخوذة من الكتب الأول، أي من التوراة العبريّة، كما يذكر الأقدمون.

من هنا يتّضح أنّ  سورة الفاتحة، على قصرها، تحتوي على كلمتين لا يمكن أن نطلق عليهما "لسانًا عربيًّا مبينًا"، فواحدة لاتينيّة - أي أعجميّة، والعجمة ليست من البيان وليست من السّحر كما يقول العرب، والكلمة الأخرى من العبرانيّة. إنّ كلمة رحمن العبرانيّة هي بالحاء، أمّا السيوطي فينقل عن ثعلب والمبرد بأنّ أصلها عبراني بالخاء المعجمة، كما لو أنّ هؤلاء قد سمعوها بلكنة أوروبيّة أشكنازيّة، حيث يلفظ هؤلاء الحاء العبريّة خاء لصعوبة نطقها عليهم.

ثالثًا: المجال المفاهيمي

نصل الآن إلى نقطة فهم هذا النّصّ المؤسّس في العقيدة الإسلاميّة.

يُجمع علماء المسلمين على أنّ القرآن ذاته هو الأداة الأولى لتفسير ما التبس من نصوص فيه. فإذا التبس نصّ منه يُطلب تفسيره في نصّ آخر من نصوص القرآن، وما لم يُعثر على تفسير له في النّصوص القرآنيّة فإنّ السنّة النّبويّة هي الّتي تفسّر القرآن.  ولمّا كانت سورة الفاتحة هي ذات مكانة مركزيّة في العقيدة الإسلاميّة، كما روي عن الرّسول: "هي السّبع المثاني والقرآن العظيم الّذي أوتيته"، كما أخرج البخاري في الصّحيح، فإنّ تفسيرها يشكّل كاشفًا لبواطن هذه العقيدة. فإذا كان الصّراط يعني الطّريق البيّن الواضح، فما هو؟ روى البغوي: "الصراط المستقيم: قال ابن عباس وجابر: هو الإسلام وهو قول مقاتل، وقال ابن مسعود: هو القرآن وروي عن علي مرفوعا: -الصراط المستقيم كتاب الله-. وقال سعيد بن جبير: طريق الجنة ، وقال سهل بن عبد الله: طريق السنة والجماعة ، وقال بكر بن عبد الله المزني: طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو العالية والحسن: رسول الله وآله وصاحباه." (البغوي، معالم التنزيل).  بينما تباينت الآراء فيما يخصّ المنعم عليهم ، كما روى القرطبي: "واختلف الناس في المنعم عليهم، فقال الجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين." (القرطبي: تفسير، السيوطي:الدّر المنثور).

أمّا المغضوب عليهم والضّالّون فقد أجمع المفسرون على أنّ: "المغضوب عليهم - هم اليهود والضالون هم النصارى، لأن الله تعالى حكم على اليهود بالغضب...وحكم على النصارى بالضلال" (البغوي: معالم التنزيل، وكذلك في السيوطي: الدر المنثور، والقرطبي وابن كثير والطبري وسائر جماعة المفسّرين).

ولا يقتصر الأمر على المفسّرين القدماء والسّياقات التّاريخيّة القديمة، إذ أنّنا نرى حتّى الآن إجماعًا على هذا التّفسير، فحتّى كتب الأطفال الّتي تتطرّق للعقيدة مثل كتاب "تفسير القرآن الكريم" الّذي أعدّه سبعة من الأساتذة والعمداء في الأزهر وحظي بموافقة مجمع البحوث الإسلاميّة يذكر أنّ المغضوب عليهم "هم اليهود وأشباههم"، وأنّ الضّالّين "هم النّصارى وأشباههم".

ربّما كنّا الآن بحاجة إلى تفسير مصطلح "أشباههم" هذه الّتي ترد في تفسيرات أساتذة الأزهر لسورة الفاتحة.

وأخيرًا، إذا كانت السّورة جامعة لكلّيّات العقيدة الإسلاميّة كما ذكرنا، وأنّ صلاة المسلم لاغية بدونها، فما هو السّبيل المتبقّي أمام المسلم لحوار مع الحضارات الأخرى، في الوقت الّذي يعلّم فيه الأطفال منذ الصّغر على هذه النّظرة تجاه الآخر؟

والعقل وليّ التّوفيق!

salman.masalha@gmail.com

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط