نبيل فياض / Mar 14, 2004

زمان، قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، كنت أكتب في صحيفة لبنانيّة شهيرة للغاية الآن! وكان ما أكتب لا يخرج عن إطار لاهوت الطوائف السوريّة الصغيرة، إسلاميّة كانت أم غير إسلاميّة، وفلسفة الكينونة.

 

مرّة، وكان قد التحق بتلك الجريدة، التي لم يبق حزب أو تيار أو جماعة إلا وساهم يوماً في دعمها، شخص لعب دوراً إعلاميّاً بارزاً أثناء الاحتلال الإسرائيلي لبيروت، فكّرت بكتابة مقالة موثّقة للغاية عن موقف اليهود الأرثوذكس من المسيح وأمه! لا أنكر بالمناسبة أن فكرة المقالة كانت بالاشتراك مع بعض آباء الكسليك الذين لم يستطيعوا هضم أن تترجم كراهيّة السوريين في المنطقة الشرقيّة من بيروت إلى ولع بالإسرائيليين! كان من المهم جدّاً أن يحيط عوام المسيحيين بالحدّ الأدنى ممّا يقوله عتاولة الحاخامات عن يسوع [يشو: كما يسمّونه] وأمه!!! ورغم الجهد الهائل الذي بذلته للحصول على مادتي المعرفيّة، ضاع الملف بين رئيس التحرير وصحفيّة في الجريدة وأحد المصحّحين. ولأن ثقتي بأولئك الذين ادعوا يوماً أنهم حصن الوطنيّة الأصمد كانت غير محدودة، لم أحاول يوماً الاحتفاظ بنسخة عن البحث غير تلك التي بحوزة الجريدة. وزاد الطين بلّة سقوط الشرقيّة بأيدي السوريين، ورحيل العماد ميشيل عون إلى باريس، وفتح رئيس تلك اليوميّة خطّاً قويّاً مع القادمين الجدد، والذي كان من متطلباته الأساسيّة أن يقدّمنا إلى رجل أمن سوري، احتفظ باسمه لنفسي منعاً للإزعاج! وهكذا.. تركت الجريدة إلى غير رجعة.

 

في ذلك اليوم تحديداً، ذهبت برفقة الصديق الصحفي الأسطوري أنطوان شعبان، إلى بيت المعلّم سعيد عقل في منطقة فرن الشبّاك. رآني المعلّم الكبير متعباً فسألني طبعاً عن السبب. فأجبته بالتفاصيل المملّة! عندها أخبرني المعلّم قصة، وهدّدني بالويل والثبور وعواقب الأمور إن أنا نشرتها! ولأن العمر لا ينتظر، والحياة لا تستأهل الخوف، سأنشرها:

 

قال لي المعلّم الأستاذ سعيد عقل: هنالك أربعة أسواق ماريكّا في بيروت، أشرفها ماريكّا البرج: الأوّل سوق رجال الدين، والثاني سوق رجال السياسة، والثالث ـ وهو الأسوأ ـ سوق رجال الصحافة!!! وصديقك السابق، أي رئيس تحرير تلك الجريدة، "قهرمانة" السوق!

 

حاولت أن أفهم منه أكثر منظوره الماريكّاني هذا للصحافة اللبنانيّة ـ يمكن تطبيقه على كل الميديا الحديثة، موجهة كانت أم غير موجهة ـ التي يقال إنها الأفضل والأنزه والأكثر موضوعيّة في سويسرا الشرق؛ فقال: قبل زمن زارني صحفي من جريدة أجنبيّة، وأجرى معي لقاء صحفيّاً حول شخصيّة فلسطينيّة هامّة للغاية؛ فأظهرت له بالوثائق الدامغة ارتباط هذه الشخصيّة بأجهزة استخباريّة تعتبر من منظور تلك الشخصيّة على الأقل عدوّة! ووعدني الصفي أن ينشر اللقاء في يوم معيّن في جريدته الشهيرة للغاية. ـ لكن هذا لم يتم! ولمّا استدعيت الصحفي لسؤاله عن هذا الخلل؛ قال بوضوح تام: اتصلت الجريدة المحترمة بالشخصيّة الفلسطينيّة الهامة جدّاً وأطلعتها على مضمون اللقاء؛ وقالت: لقد كلّفنا اللقاء كذا!!! فدفعت الشخصيّة أضعاف الكلفة كي لا ينشر اللقاء!!! وأضاف المعلّم الأستاذ سعيد عقل: أعتقد أن صاحبك رئيس تحرير الجريدة اللبنانيّة الشهيرة تلك أوصل مقالتك إلى الإسرائيليين عن طريق فلان، والبقيّة عندك!!

 

بعدها أخرج المعلّم الأستاذ نسخة من جريدته الصغيرة "لبنان"، التي كان يكتبها باللغة اللبنانيّة والحرف اللاتيني؛ وقال: هل تعرف كم أخسر في سبيل إخراج هذه الدوريّة الصغيرة إلى النور؟ اسمع: إن جريدة صاحبك اليوميّة، بصفحاتها التي كانت تناهز الأربعين وقتها، بحاجة إلى ميزانيّة دولة كي تقف على رجليها بهذه القوّة؛ وأي حديث عن إمكانيّة الإعلانات في تغطية جزء لا بأس به من مصروف أية جريدة "كلام خرافة يا أم عمرو"..

 

ولأن النهار، جريدة غسّان تويني التي ورثها بديمقراطيّة باهرة ابنه جبران الذي ما انفك يهاجم أنظمة الحكم الوراثيّة في المنطقة، لا تختلف نوعيّاً عن أية جريدة في المنطقة غيرها، فقد تراكمت في درج ذكرياتي صفحات الألم وأنا أتابعها كلّ يوم عبر الانترنت، كونها ممنوعة (!!!) في سوريّا: يبدو أن فيروس الماريكّانيّة الذي اكتشفه سعيد عقل لم يترك عقلاً ولا جيباً إلا وأصابه ببعض التلّوث.

 

جبران تويني يكره سوريّا، دولة وتراثاً وحضارة وشعباً؛ ولأنه لا يستطيع كما فعل غيره وربما والده الارتماء في أحضان إسرائيل نكاية بسوريّا، فقد اختار المعارضة السوريّة ـ إن صحّت التسمية ـ حصان طروادة، لصب نار حقده على سوريّا.

 

قبل أن يتفلسف أحد، فأنا أشد معارضة للدولة السوريّة، بشكلها الحالي، من أية منظومة معارضة أخرى: لكني مع الوطن حتى النهاية. لست ضد أحد في الدولة السوريّة، لكني ضدّ منظومة فساد استشرى وأصوليّة إسلاميّة تأكل الأخضر واليابس وتشيع روح الطائفيّة البغيضة في أرجاء وطن الحضارة الأقدم؛ ضدّ حزب فيه من الحزبيين الانتهازيين أضعاف لا حصر لها مما فيه مما يمكن أن نسميه بعثيين؛ ضد احتكار العروبيين لهوية الوطن، ضد إمساك الشعوبيين المستوردين من بلاد الكرد والأفغان وإيران والشيشان [هذه الأخيرة هامّة جدّاً لوجود شيشاني متطرّف الآن في منصب هام للغاية] برقبة الوطن لغايات لا علاقة لها بمستقبل بلد الكلمة! مع ذلك، فالدولة، بشكلها الحالي القابل للتطوّر على الأقل، أفضل بما لا يقارن من معارضتنا الحكيمة. الدولة لا تستطيع لظروف موضوعيّة أن تسير في درب الأصوليّة الغبي إلى نقطة اللاعودة، في حين أن المعارضة السوريّة الحكيمة بدأت مسيرتها أصلاً من نقطة اللاعودة تلك بقبولها أن تكون لعبة تحرّك بالريموت كونترول من جماعات الإرهاب الديني، خاصّة الأخوان المسلمين. هذا يعني أنه ـ لا سمحت الآلهة ـ إذا أمسك هؤلاء المعارضون بزمام الأمور في سوريّا، فبدل الاعتقال الذي ننتظره كلّ يوم مع كلّ مقالة ندبّجها، سنساق كالأنعام إلى المسلخ الإسلامي الشهير.

 

إن أشهر منتدى معارض في سوريّا هو ذلك الذي يحمل اسم جمال الأتاسي!! وقد روى لي الصديق الدكتور محمّد شحرور، وكان يحاضر قبل زمن في هذا المنتدى "الديمقراطي"، أنه تفاجأ باعتراضات المعارضين  من الحضور المتحمّس للحريّة في دولة القمع عندما تجرّأ ـ أي الدكتور شحرور ـ على طرح مقولة بسيطة، وثقتها شخصيّاً بالتفصيل الممل، عن العلاقة بين صحيح البخاري والتلمود البابلي. كانت صدمة الدكتور شحرور كبيرة لأنه يفترض أن هؤلاء المعانين من قمع الرأي الآخر ينبغي أن يكونوا قدوة لغيرهم في التعامل الديمقراطي مع المخالفين. لكن ما فات الدكتور شحرور هو أن الدولة، كونها مضطرة لادعاء العلمانيّة، قوانينها وضعيّة يمكن مناقشتها؛ أما معارضتنا الإسلاميّة [لا تدعي ذلك علناً] ذات القوانين والتواريخ والعقائد والفقه والحكايا التي هبطت من فوق بلا كمّ ولا كيف،  فمناقشة أي من ركامها الفكري يمكن أن يطيح برأس المناقش الذي هو "زنديق يطعن في شرع الله"!!

 

في الأيام الماضية أتحفنا جبران تويني في صحيفته "النهار" بمقالات لكاتب معارض لم أسمع به من قبل ـ ربما لأني أتحاشى القراءة بالعربيّة منذ زمن طويل كي لا أصاب برهاب الآخر ـ كان جوهر كتاباته كلّها يصبّ في مستنقع الدفاع عن حركة الأخوان المسلمين والدعوة إلى مصالحة تاريخيّة بينها وبين السلطة!!! وهكذا، تنتهي مشاكل المنطقة؛ فيطعم الجياع  وتحلّ الديمقراطيّة ـ الإسلاميّة طبعاً ـ ويسود السلام ـ مقابل دار الحرب حتماً ـ وتعلو رايات الحريّة التي لا حدّ عليها غير حدود الله والمشايخ !!! [سمعت أن إحدى قرى طالبان كانت تعتبر أن تبوّل الرجل واقفاً اعتداء على حدّ من حدود الله]! كان أوقح ما كتب في تلك المقالات المشبوهة؛ قول هذا المفكّر، في معرض دفاعه عن حلب، إن المدينة جذريّة، بعكس دمشق البراغماتيّة، لأنها ظلّت نقيّة من الأغراب: ويقصد بذلك العلويين بلا شك!!!

 

العلويون في حلب أغراب: فماذا سنسمّي الموارنة في الرقّة؟ ماذا سنقول عن السريان، أصل سوريّا وفصلها، في طرطوس أو صيدا؟ ما هي التسمية التي تليق بالمرشديين في الميادين؟

هذا أنموذج من أولئك الذين يقدّمون أنفسهم، عبر التويني، للعالم بوصفهم معارضة سوريّة!!!

هذا أنموذج من أولئك الديمقراطيين الذين يطرحون أنفسهم باعتبارهم البديل الحضاري لنظام القمع المبرمج في سوريّا!!!

 

إذا كان مفكّروهم ـ أجلّكم ـ يحكون بلغة العلوي والسنّي والمسيحي؛ فماذا يمكن أن نتأمل من عوامهم؟

ليست مشكلتنا في هذا السنّي المتعصّب، المرتدي لقناع حضارة زائف يفشل في تغطيته لندب الطائفيّة المترامية تحت الأعين وفوق الأنف، فلا أحد يرتجي العنب من الشوك؛ لكن المصيبة كلّها في هذا التويني، الذي هو على استعداد للتحالف مع الشيطان لتنفيس عقده السوريّة المزمنة: أو عقد الذين يعمل لأجلهم!!

جبران التويني، وليسأل لاهوتي كنيسته ـ وهو الأرثوذكسي ـ صديقي الحميم الراهب اسبيرو جبّور عمّا يمكن أن يحيق به كمسيحي إذا لا سمح أي إله ومدّ هؤلاء الطائفيّون الصغار أيديهم إلى السلطة!!!

هل قرأ التويني يوماً كتاب أحكام أهل الذمّة المنشور في جامعة دمشق الحكيمة؟

 

هل سمع التويني عن وضع الأقباط في مصر، التي يتحكّم أمثال من يفتح لهم صفحات جريدته العظيمة بشارعها؟

نحن معارضة: معارضة ليبراليّة علمانيّة تدعو إلى وطن سوري متعدّد القوميّات والأديان والعقائد تحت راية الانتماء إلى سوريّا علمانيّة ليبراليّة حضاريّة؛

نحن معارضة: معارضة وطنيّة تأخذ أمثولة لها زنوبيا الآراميّة التي جمعت في بلاطها، ضمن كثر غيرهم، لونجبينوس الحمصي الوثني وبولس السميساطي المسيحي؛ في سبيل سوريّا؛

نحن معارضة تهدف إلى وضع  سوريّا في قلب المستقبل، بعد أن كانت روح ماضيه؛

أخيراً؛ وباختصار شديد:

إن ما يحصل في النهار منذ مدّة يرشح  زعيمها لأن يأخذ قصب السبق في سوق ماريكّا الصحافة: بلا منازع!!!

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط