ماري حسكور / Jan 18, 2006

دأب الانسان منذ أقدم العصور على محاولة فهم وتفسير الظواهر الطبيعية التي تحيط به. وباطراد نموه العقلي يجد نفسه وجها لوجه أمام اللغز المهيب والسؤال المحير:

ـ ألا كيف نشأ هذا الوجود بكل ماترى منه العين من أجرام وأفلاك وفضاءات متناهية في العظم؟

ولم يلبث  العقل الاول طويلا حتى اهتدى عن طريق الدين الى جواب وجد فيه طمأنينته فقال بوجود الخالق، وعزا الى هذا الخالق كل ما عجز عقله عن تبيانه.

أما الفلاسفة الماديون فأنكروا وجود الخالق خارج الوجود لأن في وجوده المنفصل عن الوجود وجود اخر قد يتكرر مثله الى ما لانهاية، وهذا مما لايقبله العقل. وراحوا يبحثون في داخله عن الذرات الاولى المكونة له من اجتماعها ببعضها على نسق معلوم حتى انتهت الى هذا التشكيل العجيب. 

وأحدث النظريات الفلكية في هذا السياق نظرية الانفجار الكوني الاول المعروفة اليوم، وتبدو منطقية ومعللة ولكنها لاتعطي الجواب عن السؤال البسيط:

ـ ومن أين جاءت الذرة الاولى التي أدى انفجارها الى تكوين الوجود؟

إلاّ أن يكون القول لديهم بأزلية المادة الأولى على رأي فلاسفة اليونان والمسلمين غير المسلمين.

وحينئذ يخرج العقل من دوامة الحيرة الى فضاء البحث في معنى الأزل.

وسواء صحت هذه الاجابات أم لم تصح، فان المشكلة لدينا هي  في المغزى الحقيقي لوجود الوجود وبالتالي في مغزى وجود الانسان الذي هو جزء متناه في الصغر من تكوينه ومتناه في الكبر من جهة كونه الشاهد الوحيد على وجود الوجود. فلولا وجود الانسان لما وقع الوجود تحت إدراك العقل والحس فعُلم أنه وجود موجود.

ولقد قيل الكثير في سبب وجود الانسان على الارض ولعل أقدم ماقيل في ذلك هو ماوصلنا من مدونات على الألواح الطينية التي تركها لنا السومريون مدفونة تحت الأنقاض في أرض مابين النهرين في إحدى أقدم الاساطير السومرية جاء:

في البدء لم يكن فوق الارض غيرُ الآلهة وكان على الآلهة أن تتكّلف المشقات لكي تستنبت من الارض قوتها وأسباب عيشها.. كانت تشق الاقنية وتنظفها عاما إثر عام، تلهث من الجهد خلف المحراث.. تضرب بمعاولها في الحقول الوعرة حتى تكلّ سواعدها. وحين يستحصد الزرع تنكبّ على الحصيد بمناجلها حتى تتصلب ظهورها وتأبى أن تستقيم إلا بعد عناء. 

هذا العمل الشاق أصبح مع مرورالسنين ثقيلا بغيضا إلى نفسها فراحت تبحث عن الخلاص. وإذا بالبحث يقودها إلى الإله إنكي.

وكان الإله إنكي الحكيم غارقا في نوم عميق حين جاءت إليه الآلهة تلتمس منه الحل. فلما صحا من رقاده اقترح عليها أن يخلق الانسان، ولم ينتظر طويلا أخذ طينا من أعماق المياه ثم عجنه وشكل منه صورة الانسان ثم نفخ فيه الروح من أنفاسه بقدر يضمن له العيش عمرا هو عمر الانسان.

وكمكافأة له على صنيعه فرض على الانسان أن يمدّ الآلهة بما تحتاج إليه من طعام وشراب وأقطعه أرض ما بين النهرين وأمره قائلا: حولها إلى فردوس.

فامتثل الانسان في التوّ لأمرالإله إنكي الحكيم وقام بما عُهد إليه من التكاليف التي تُبقي موائد الالهة عامرة بما لذّ لها وطاب.

يبدو للكثيرين أن هذا التفسير لخلق الإنسان ساذج لايخرج عن أن يكون من أساطير الأوّلين. ولكننا حين نعلم أنه ظلّ في جوهره راسخا في معتقدات الناس إلى هذا اليوم رغم مرور آلاف السنين على نشأته، يزول الاعتقاد بسذاجته.

فلو عدنا إلى التوراة وهي الأدنى إلى تراث السومريين مما تلاها من كتب العقائد، لوجدنا قصة خلق الإنسان فيها تقترب في إطارها العام من قصة الخلق السومرية بما يؤكد استمرار المعتقدات القديمة حرفياً أو بشيء من التعديل. ففي سفر التكوين نجد الإله يهوه يخلق الإنسان بالطريقة عينها التي خلقه بها الإله إنكي.

يوم صنع الرب الإله الأرض والسماوات، لا شجر البرية كان بعد في الأرض، ولا عشب البرية نبت بعد، فلا كان الرب الإله أمطر على الأرض، ولاكان إنسان يفلح الأرض، بل كان يصعد منها ماء يسقي وجه التربة كلّه. وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفساً حية. وغرس الربّ الإله جنة في عدن شرقا وأسكن هناك آدم الذي جبله.

ويلاحظ هنا أن التوراة لاتجيب بأسلوب مباشر عن السؤال المطروح: ـ لماذا خلق الله الإنسان؟ كما هو الحال في أسطورة الخلق السومرية وإنما تلمح إليه تلميحاً. إن جلّ ما تفيدنا به هو أن عملية خلق الكون ما استدعاها إلاّ استحسان الربّ لها. أمّا لماذا استحسن الله خلق الكون بما فيه فسؤال لن تجيب عليه التوراة التي ستتكرر فيها عبارة:

ونظر الله الى كل ما صنعه، فرأى أنه حسن جداً. وهي في الحقيقة عبارة يكتنفها الغموض وهي فضلاً عن ذلك لاتمدّنا بتعليل واضح مقنع لحدث يفوق الخيال والوصف ويعجز عنه الإدراك كحدث الخلق، فأن تكونَ الغاية من خلق الوجود مقصورة على الجمال كقيمة نهائية وحيدة أمر يدعو الى الشك والحيرة.

 

وما ذلك إلاّ لأن فكرة العبودية التي هي علة خلق الإنسان عند السومريين يتردد صداها في التوراة أيضاً، ولكن في همس وخفوت. وأكثر المواضع التي تشير إلى ذلك هي الآية  15 "وأخذ الرب الإله آدم وأسكنه في جنة عدن ليفلحها ويحرسها." من دون أن تأتي على ذكر التفاصيل نحو:

ـ لمن وجب على آدم أن يفلحها؟؟

ـ وممّن أو ممّا وجب عليه أن يحرسها؟.. وهكذا الى ما لا ينتهي من التفاصيل.

وإذا كانت أسطورة قايين وهابيل التي تزخر بالإيحاءات أول إشارة في التوراة إلى فكرة إرضاء العبد لسيده عن طريق تقديم العطايا له: "ومرت الأيام فقدم قايين من ثمر الأرض تقدمة للرب، وقدم هابيل أيضاً من أبكار غنمه ومن سمانها. فنظر الرب برضى إلى هابيل وتقدمته، أما إلى قايين وتقدمته فما نظر برضى."

فإن ما سوف يتلوها في الأسفار الأخرى سيجعل من التقدمات والأضاحي على اختلاف أنواعها تقليداً رمزياً مجرداً واجب الاتباع لمرضاة الإله الجديد الذي انتقل من عالم الحواس الى عالم المفاهيم المجردة الأفكار وقد جعل له النبي موسى فيما بعد شروطاً وقواعد محددة، وذلك  بعد أن فرّغه من محتواه الأسطوري القديم وغيّر طبيعته الماديّة  فتحوّل بهذا الى طقس ديني بحت، فما عاد أحد ينظر بعد الآن إلى الأضحية على أنها ضريبة الخلق تؤدّى لربّ جائع يعيش من كدّ عبيده. وهذا التحوّل الخطير في  مفهوم العبودية الذي يتحقق لأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني لم يتمكن رغم خطورته من وضع إجابة مرضية عن السؤال: لماذا خلق الله العالم والإنسان؟.

كان علينا أن ننتظر قروناً إلى أن يظهر المسيح لنفوز بتفسير جديد لوجود الإنسان على الأرض فإلى جانب التصور التوراتي القديم الذي لم  ينقضه، طرح المسيح فكرة المحبة لتشارك مع فكرة الجمال في صنع إنسان جديد يرتبط مع الله بعلاقة جديدة كانت تكريماً حقيقياً له رفعته من مرتبة العبودية الى مرتبة البنوّة، فأصبح الإنسان بذلك حراً يشارك الله في بعض صفاته وأخصّ هذه الصفات هي صفة التعقل التي يرى بعض لباحثين أن المسيحية استمدّتها من فلسفة أرسطو الذي كان أول من قال إن الله أو الخالق ليس شيئاً غير عقل بلاحدود، فيكون الإنسان وهو المخلوق الذي يتمتع بالعقل على هذا امتداداً للعقل الأول على الأرض.

وفي التكوين أن آدم وحواء أكلا من الشجرة المحرّمة رمز المعرفة التي هي من أولى صفات العقل. وهي عند أهل الدين معصية خطيئة وسقوط أدّت الى شقاء الإنسان بطرده من الفردوس. وفي تقديرنا فإن هذه الأسطورة هي امتداد للتصورات السابقة التي تخيلت الإنسان مخلوقا لإطعام الآلهة مع إضافة فكرة جديدة، وهي إن الإنسان عصى الله فأكل من شجرة المعرفة فأصبح عاقلا مثل الله شبيهاً به إلا في الخلود،الذي تدارك الله أمره، قبل أن يصل اليه هذا المخلوق الجاحد، فأمسى بعقله الجديد المنفتح غيرَ صالح للعبودية التي تفترض، لكي تكتمل بذاتها، شروطاً.. أهمّها غيابُ الوعي بها.

ويبدو بعدئذ  أنّ الله ندم على طرد الإنسان وأشفق عليه وأراد أن يوكلّه بمهمة جديدة.  فكان أن انبثقت من قله قوة خيّرة تجسدت في الإنسان يسوع لتحرر البشر من الخطيئة والعبودية التي اتخذت من الطقوس والشعائر أومن الملذات الحسيّة أو من الشرور والآثام أو من العنف والقتل  ديدناً وشعاراً لها، ولتدفعه إلى غاية جديدة هي المشاركة في الإبداع وفي العناية بنظام الكون.  وهاهي المنجزات التي يحققها الإنسان تؤكد بما لايقطع الشك صحة هذه  الفكرة.

وعجز الاسلام الذي جاء  بعد ذلك بقرون أن يضيف معنىً  جديداً إلى هذه الفكرة يضاهي به أقرب المعتقدات اليه في الزمان. لابل إنه عاد بها إلى بداياتها. ففي القرآن نقرأ: [وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.].

والعبادة هنا مزاولة الطقوس والشعائر مزاولة حرفية من دون مراجعة أو نقاش أو تغيير.

فظلّ الإنسان فيه على هذا التفسير للخلق عبداً  حقيقياً لله كما كان عليه في زمن السومريين. وما عليه إلا أن يقدم له الطعام والشراب بفروض معلومة وشعائر محدودة، حتى يحظى برضاه وينال منه جزاء شكورا.. جنة الخلد.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط