محمود كرم / Sep 26, 2006

طوال سنوات ليست ببعيدة، كنتُ دائم التفكير في كيفية أن أكون نفسي، أن أشتغل على تجربة ذاتية خاصة، تعكس ذاتي الداخلية وتتماهى تلقائياً مع هواجسي وطريقة تفكيري ومع كل ما له علاقة بكوني إنساناً وجدَ نفسه في مواجهة مباشرة وغير مباشرة مع العالم الصغير والكبير من حوله..

 

وكنتُ في مرحلة من مراحل حياتي السابقة غير مكترثٍ في استيلاد تجربة شخصية خاصة تتعلق بذاتي، ربما لأني لم أنتبه إلى مدى أهمية أن أكون نفسي بقدر ما أن أكون متداخلاً ومتفاعلاً مع الآخرين ومع الأفكار من حولي، وربما لأني لم أكن أعلم أن الإنسان في الحياة بحاجة إلى اجتراح أنماط خاصة به تجعله يقف على حدود كل ما يتصل بطريقة تفكيره ومجالات تفاعله مع ما حوله من شخوص وأفكار وعوالم متعددة ومتغيرة..

 

وليس من باب الصدفة أني اكتشفتُ بعد مرحلة من عمري وبعد مخاضات ذهنية وفكرية قاسية، أن هناك راحة نفسية عميقة تتجلى في كون الإنسان أن يكون نفسه، وأن يكون منسجماًً مع ذاته ومعتمداً على تجاربه الخاصة وبانياً حقيقياً لها بمنأى عن المؤثرات الخارجية التي قد تُفرغ بطريقة أو بأخرى تجربته الخاصة من محتوياتها الغنية ومعانيها الخاصة والتي حافظ طويلاً على ثرائها الداخلي، وتجعلها بالتالي عاكسة وناطقة للسائد من التجارب والأفكار والمعرفيات الثقافية المتدوالة هنا وهناك، ولذلك أجد أن بناء التجربة الذاتية الخاصة أمر في غاية الإثارة على الصعيد الشخصي ويقذف بالإنسان في أتون التحدي اليومي مع ذاته ليكون في النهاية ذاته هو، وقد تكون مقولة (يفيجيني فونكروف) صادقة وصريحة في هذا المجال حيث يقول: ليس هناك من ألم مميت أكثر من الإستماتة لتكون نفسك..

 

ولذلك فإن الاشتغال على بناء التجربة الخاصة، وتحصينها ضد الانهيار والتداعي السريع يبقى هاجس الذين يسعون دائماً لكي يضمنوا نجاح تجاربهم الذاتية وتعزيزها بالمواصلة الحثيثة على النأي بها عن المؤثرات الخارجية المدمرة أو غير المفيدة، ولا يعني ذلك أن يكون الإنسان سلبياً وجامداً لا يجيد التواصل مع المحيط من حوله، بل المسألة في نظرهم تتبلور في أن لكل شخص وجوداً خاصاً به، ومن خلاله يحدد طريقته في رؤية ما حوله، فليس منطقياً في تفكيرهم من أن يكون الإنسان كائناً هلامياً وعائماً، لا وجود حقيقياً لذاته أو بتعبير آخر، أن يكون صدى لغيره لا يملك رؤية خاصة به، أو أن يكون كائناً لا يستشعر أهمية وجوده الخاص في تحديد مجمل رؤاه في الحياة، ويذهب أصحاب التجارب الذاتية الخاصة إلى التركيز على الاعتماد المكثف على تفعيل وجودهم الخاص من خلال رؤيتهم للأشياء من حولهم، وقد يدفعهم هذا التمكن الداخلي على الصعيد الذهني والتفكيري من تشكيل رؤاهم الخاصة حول كل ما يتعلق بأمور الحياة بشكل عام، وحتى حول المسائل الكونية الكبرى وعدم القبول المبدئي بالمرجعيات الفكرية المتداولة والمتوارثة بشأنها، وعادةً ما تتخلق أفكارهم وتصوراتهم في فضاءات ذهنية صافية مشحونة بترددات التيقظ الذهني وبعيدة عن التأثر بتموجات الثقافات الشفهية والمعلبة والتلقينية والمتوارثة..

 

وإذا ما أتفقنا حول نظرة (بوذا) للإنسان فإننا قد نصل معه إلى أن حياة الكائن البشري جملة من المتغيرات المستمرة التي تتداخل فيما بينها بسلسلة طويلة من التحولات النفسية والفكرية تكون بمثابة دورات حقيقية متكاملة في التجارب الذاتية، ولذلك يرى (بوذا) أن الإنسان دائم التغيير، وما كنا عليه في الصغر مثلاً لن نكون عليه حينما نكبر، وهذه الميزة تجعل الإنسان عموماً يقف أمام كل تجربة ليتحسس مدى عمقها في ذاته ووجدانه وطريقة حياته، وربما هذا الأمر يجعل الإنسان دائم الحركة في البحث عن وجوده الخاص وسط تعاقب تجاربه الشخصية، ومن خلالها ربما يستطيع أن يصل إلى تحديد ما كان عليه في السابق، وكيف يجب عليه أن يكون الآن..

 

ولن تكتمل التجربة الذاتية الخاصة لكل شخص في بلورة رؤاها وتدعيم منطلقاتها المعرفية وجوانبها الوجودية إلا حينما تستند على شيئين أساسيين، من خلالهما يستطيع الفرد أن يواصل بشكل جاد وصارم بناء تجربته الذاتية، ودفعها للتجدد المستمر والتواصل الجميل مع كل ما له علاقة مباشرة وغير مباشرة مع تجربته الشخصية الحياتية، وهذان الشيئان هما العقل والإحساس، وأعتقد شخصياً أن كليهما يسيران مع بعضهما البعص بصورة متداخلة ومتوازنة، ويشاركان بفاعلية في تدعيم التجربة بالحركة الدائبة والتفاعل الحقيقي مع متطلبات التغيير وتحولات الأفكار، ويرى الفيلسوف (ديكارت) من خلال فلسفته العقلانية أن هناك تأثيراً مباشراً للحس الذهني في استجلاء الأفكار من حولنا، ومن خلاله يمكننا أن نلتقط أية فكرة بعمق، والتوصل عبرها إلى جملة من الاستنتاجات المهمة، ويركز ديكارت على أن من أهم أساسيات الحس الذهني أن يكون نقياً وصافياً ويقظاً ومتحرراً من الموروثات الثقافية وهيمنتها التسلطية، ويتداخل هذا الحس في كل مراحل حياة الإنسان ويسمح له دائما في التقاط الأفكار النقية والتفاعل معها والتوصل من خلالها إلى افهامات معرفية متعددة واستنتاجات ثقافية مفيدة لتجربته الشخصية الذاتية، وبما أن ديكارت كان معروفاً بأنه من الفلاسفة الذين يريدون دائماً أن يصلوا إلى حقيقة الأشياء انطلاقاً من نقطة الصفر، ولذلك كان اعتماده الأساسي يقوم على الشك المنهجي، ومن خلال قناعته المبدئية بضرورة الشك، كان يريد أن يبني تجربته الفلسفية العقلانية التي يرى أنها من دون التفكير لن يصل إلى شيء، ومن خلال اعتماده على منهج الشك كان يتأكد من أنه يفكر بصورة سليمة وحرة، وحينما يتأكد من أنه يفكر كان يعتقد أنه يستجلي عمق الأشياء ويصبح قادراً على تبني منهج التفكير، وهذا ما جعله يقول ويتأكد منه تماماً: أنا أفكر إذن أنا موجود..

 

وأتذكر في هذا المجال حواراً شيقاً جمعني بالقاصة الكويتية (هبة بوخمسين) تطرقتْ من خلاله إلى واحدة من أعمق تجاربها الذاتية في حياتها، وكيف ساهمت تجربتها الشخصية في بناء نظرتها الخاصة للحياة، وكانت في غاية السعادة من تمكنها الشخصي من مواصلة التحليق في تخطي مراحل كبيرة في الاستمرار ببناء تجربتها الذاتية، وترى أن ما يحتاجه الشخص في البداية لكي يستمر في تجربته الذهنية والثقافية والحياتية الخاصة، التدريب القاسي على المواصلة بجدٍ وتأنٍ ومثابرة في المحافظة على التجربة ومحاولة الاستمرار في مراحلها المتعاقبة، وتشير في المقابل إلى الانتباه جيداً للمخاطر التي تحدق بالتجربة وتثنيها عن البناء الحقيقي، ومنها ما تتصل بمحاولة الآخرين التعمد بتخريب التجربة من خلال انتقادها والتشويش عليها، لأن الآخرين من طبيعتهم أنهم يريدون الآخر أن يكون مثلهم ويتماهى مع أفكارهم وتصوراتهم وعاداتهم وينفرون من الشخص الذي لا يتقبل فكرة أن يكون عاكساً لهم، ويريدون منه أن يكون مثلهم لكي يجد الاستحسان والقبول لديهم، وتقول (هبة) أن الآخرين من فرط انتقادهم للشخص المغاير لأفكارهم يسلبون منه حتى متعة التركيز في الخيال ويتقصدون بشتى الطرق جره إلى مداراتهم الثقافية السائدة، ويستهينون بمحاولة الفرد المستمرة في تجلي أعماق الأشياء من حوله من خلال التعمق في الخيال الذهني..

وتجد (هبة) أن أولئك الناس يسببون القلق الدائم، ويسلبون من الواحد راحته النفسية وصفاءه الذهني ونقاءه التفكيري، ويجعلونه يفكر فقط بما عليه أن يقول ويتفوه حينما يلتقيهم أو يحاورهم وكيف يجب أن يرد عليهم، وتلخص (هبة) الأمر، في أن الإنسان عندما يكون هذا همه وهاجسه مع الآخرين فأنه يكون بعيداً جداً عن بناء تجربته الذاتية..

================  

محمود كرم، كاتب كويتي ـ استوكهولم، السويد  tloo1@hotmail.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط