بسام درويش / Mar 22, 2002

أُعلن في سورية مؤخراً عن الحكم بالسجن خمس سنوات على مأمون الحمصي عضو "مجلس الشعب" بعد اتهامه "بمحاولة تغيير الدستور السوري بطرق غير شرعية". وكان الحمصي قد اعتقل في شهر أغسطس آب الماضي بعد إصداره بيانا دعا فيه السلطات السورية الى كبح جماح أجهزة الأمن والمخابرات ووضع حد للفساد. وقد أعلن محامو الحمصي في وقت سابق من الشهر الحالي أنهم قد تخلوا عن الدفاع عنه قائلين بأن السلطات السورية قد قررت نتيجة المحاكمة سلفا. أكّد المحامون إضافة إلى ذلك أن موكلهم قد خضع للتعذيب في سجنه. 

**************  

أربعون عاماً مرت على استيلاء حزب البعث على مقاليد الحكم في سورية ولا زال ثابتاً "لا تهزه الريح"، ويعود الفضل في ذلك لما تمتع ولا زال يتمتع به من قدرة على البطش وعلى الذهابِ إلى أبعد حد لضرب أي تحرك عسكري أو مدني ضدّه.

أربعون عاماً تمّ خلالها ترويض الجيش والشعب إلى درجةٍ أصبح تغيير النظام معها في سورية، عن طريق حركة انقلابية أو ثورة شعبية، أمراً يخاف أي عسكري أو مدني حتى من مجرد التفكير به.

أربعون عاماً والحكم في سورية يفتقر إلى الشرعية بدستوره وبكل مؤسساته وقوانينه.

أربعون عاماً ولم يكن هناك رئيس دولة أو رئيس وزراء أو قائد جيش يمكن له أن يدّعي بأنه وصل إلى حيث وصل بأسلوب شرعي.

أربعون عاماً بلغ فيها الفساد أعظم مراحله حيث شملت اللا شرعية كل مرفق من مرافق الحياة. عمداء الجامعة وأساتذتها وقضاة المحاكم ومدراء المؤسسات ومحررو الصحف وغيرهم.. لا أحد منهم يتمتع بالشرعية لأن أحداً منهم لم يصل إلى تبوّء منصبه عن جدارة. كفاءة هؤلاء الوحيدة هي مدى علاقتهم برجال الحكم غير الشرعيين.     

رغم ذلك، بعد أربعين سنة من اللا شرعية، يتجرّأ الحكم على اتهام مواطن بمحاولة "تغيير الدستور بطرق غير شرعية" لمجرد فتحِ فمه بكلمة انتقاد!.. والأسوأ من ذلك فهو أن يُوجَّه هذا الاتهام لنائبٍ في "مجلس الشعب" يُفترض أنه انتُخِبَ ليفتح فمه نيابة عن الشعب!..

 

أي دستور وأية شرعية يتحدث عنهما هذا الحكم؟..

حكمٌ غير شرعي، أنجبَ دستوراً غير شرعيٍّ، ولا زال يحكم بدون أية شرعية، ولكنه لا يستحيي من اتهام المواطنين بأنهم "يحاولون تغيير الدستور بطرق غير شرعية"!..

أهو الدستور الذي كان ولا زال يُعدّل ويُبَدَّل لخدمة مصالح الحكم، فإذا نص على السماح لرئيس الجمهورية "بترشيح" نفسه مرتين، يتم تعديله ليسمح له بالبقاء لفترة رئاسية ثالثة. وإذ انتهت الثالثة، يتم تعديله ليسمح له بأن يصبح رئيساً مدى الحياة؟.. (وبالمناسبة، أرضى حافظ الأسد بالفعل الدستور وأكّد على تمسكه به بعد تعديله فبقي رئيساً مدى الحياة!..)

أم هو الدستور الذي لم يكن هناك بأسٌ في تعديل السنّ القانونية التي ينص عليها ليسمح لابن الأسد الصغير أن يصبح رئيساً للبلاد.  

********** 

رغم عدم شرعية استلام الصغير للحكم، أمِلَ الشعب في سورية بالتغيير. وكان أمله بناء على وعود أطلقها هذا "الرئيس" الشاب وعلى بضع قرارات أصدرها بعد جلوسه على الكرسي ليؤكّد لهم بأنه وفيّ لوعوده.

لقد اعتقد الناس أن الأسد الشاب صادقٌ معهم ومع نفسه وراغبٌ في تحقيق إصلاحات اجتماعية. وربما كان لهم فيما اعتقدوا عذرٌ لولا أنه ليس إلا ضرباً من السذاجة أن يصدّق أحدٌ، بأن بشار الأسد، يملك حقاً أية قدرة على اتخاذ أي قرار ذات أهمية يتعلق بسياسة الحكم، الداخلية منها أو الخارجية.

بشار الأسد ليس حافظ الأسد!.. بشار الأسد وُضع على سدّة الرئاسة، لأن العصابة التي رافقت حكم أبيه وكانت الدعامة الرئيسية له على مدى ثلاثة عقود من الزمن، لم يكن بإمكانها اختيار أحد من أفرادها لتبوّء السلطة. تنصيب بشار لم يكن لإرضاء والده، فوالده قد مات ولا أحد في الحكم يُمكن أن يُقالَ بأنّ شاغله الأول هو إرضاء الوالد الميت. تنصيبه كان ترتيباً نسجه الوالد بدهاء عارفاً تمام المعرفة أن بطانته التي كانت تدعمه في حكمه لن يكون لها خيار آخر. لقد أيقن أفراد العصابة أنّ مخالفة ذلك الترتيب لا بدّ ستؤدي إلى إحدى النتائج التالية أو إلى كلها مجتمعة:

ـ خلق صراع بين أفراد العصابة أنفسهم ربما ينتهي بفنائهم كلهم.

ـ قيام تمرد شعبي تقوده التجمعات والحركات السياسية والدينية النائمة. وتمرُّدٌ كهذا سيكون إخماده أصعب من كل محاولات التمرد السابقة بسبب غياب الآمر الناهي الكبير الرهيب، وبسبب تضارب مصالح أفراد العصابة وتشتت قواهم.

-  حدوث تمرد عسكري تقوده الأجنحة القوية التي عمل حافظ الأسد خلال حياته كلها على إعدادها ليوم المحنة.  وتمرُّدٌ كهذا ربما أدّى إلى عودة رفعت الأسد إلى البلاد وهي عودة كان لا بدّ وأن تؤدي لو حصلت، إلى حرب طاحنة بين الأجنحة العسكرية تنتهي بحرب أهلية تحرق الأخضر واليابس.

وهكذا، فقد رأت العصابة الحاكمة أن أفضل حل هو تنفيذ ترتيب الرئيس الأب الراحل الذي لا يمكن لأحد أن ينكر دهاءه. فدهاؤه هو الذي ثبّت كرسي الحكم تحته لمدة  تقارب الثلاثة عقود، ودهاؤه هم الذي أبقى أفراد العصابة ينتفعون بخيرات البلد طوال تلك الفترة. ودهاؤه هو الذي ضمن الحكم لابنه من بعده حتى ولو كان واثقاً كل الثقة أن ابنه لن يكون كما كان هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة!.. حافظ الأسد لم يكن جاهلاً بهيكلية الحكم لأنه هو الذي أوجدها، ولأنه أوجدها، فقد عرف مصيرها وبالتالي عرف كيف يخطط لذلك المصير. لقد رحل قانعاً ســلفاً بمنصب فخري لابنه طالمـا حافظ ذلك المنصب على استمرارية السلالة الحاكمة. ولكن، ولضمان استمرارية المُلْك كان لا بدّ من ثمن، وهذا الثمن، لم يدفعه حافظ الأسد، بل كان الشعب كالعادة هو الدافع، وما مجريات الأحداث اليوم إلا دليلاً على ذلك. 

وهكذا، فقد تمت الصفقة بين الرئيس الراحل وأفراد العصابة على الأسس التالية:

ـ تهيئة طريق الرئاسة أمام بشار وذلك بتهيئة الجماهير على قبوله كشاب مثقف طبيب متخرجٍ من بريطانيا منفتحٍ متحمسٍ راغبٍ بإصلاحِ أوضاع البلد الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية والسياسية.

ـ إرجاء أية قرارات إطلاق سراح أي من المساجين السياسيين كان الأب يزمع على إصدارها أو أية قرارات اقتصادية أو متعلقة بالحريات إلى ما بعد تنصيب الابن. بذلك، يتم إرضاء الناس وقطع الطريق أمام الذين يفكرون بالتحرك.  

ـ يجري القضاء على بعض الوجوه الضعيفة من العصابة، لإيهام الشعب بأن العمل على إنهاء الفساد هو عمل جدي، بينما لا يكون ذلك في الحقيقة إلا لذر الرماد في العيون ولحصر السلطة في أيدي الأقوياء من أفراد العصابة.

ـ يكفل الأسد الشاب لأفراد العصابة الأقوياء عدم التعرض لمصالحهم. (حسب تعليمات الوالد) ومقابل ذلك يَرضَى أفراد العصابة بتقديم آيات الاحترام للشاب الأسد الذي عرفوه طفلاً صغيراً منذ أول أيام حكمهم.

ـ يستمر الحكم وتستمر العصابة في نهبها وفي التمتع بما نهبت دون أن يجرؤ أحد على المطالبة بفتح ملفاتها.

ـ تنجو البلاد من حمامات الدم التي كانت متوقعة بعد رحيل الأسد الأب.

 

ولكن، وإذ لا يخفى على عاقلٍ أن إصلاح الأوضاع في سورية لا يمكن أن يتم إلا بعد القضاء على الفساد والسرقات والرشوة، وأن إعادة الحريات السياسية والاقتصادية لا يتمّ إلا بالقضاء على العصابة الحاكمة، فإنه لا يجب أن يخفى على أحد أن تلك القرارات والوعود قد قُرِّرَ لها سلفاً أن تكون مؤقتة وذات عمر قصير، إذ ليس إلا جاهلاً غبياً هو الذي يعتقد بأن العصابة ستتخلّى عن حكمها بهذه السهولة. 

 

وهكذا، ما أن تأكد للعصابة متانة الأوضاع بانقضاء مرحلة الخطر حتى بدأ العد التراجعي وبسرعة قبل أن يتعوّد الشعب على فكرة الحريات: نزار نيوف يُعاد استدعاءه إلى المحكمة بعد إطلاق سراحه.. رياض الترك يلقى القبض عليه لأنه تكلم بعد السماح له بالكلام.. النائب مأمون الحمصي يُحكم عليه بالسجن خمس سنوات بتهمة "محاولة تغيير الدستور بطرق غير شرعية!".. ولن يكون غريباً إذ أعيد إلى السجون كل الذين أطلق سراحهم حتى لو لم يفتحوا أفواههم بكلمة ـ قبل أن يفتحوها وتكبر "الطامة"!..

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط