مالك مسلماني / Jun 29, 2008

مُحَمَّد يتعرض للسحر

تروي لنا المصادر الإِسْلامِية حادثة لافتة جرت مع مُحَمَّد، فتقول إنّ يهودَ تآمروا على سحر مُحَمَّد، وفعلاً أُصيب بأوجاعٍ شديدة، فنزل عليه جِبْرِيلُ حاملاً معه المُعَوِّذَتيْن ـ أيْ سُورَتي الْفَلَقِ والنَّاسِ ـ، ثم أدّى جِبْرِيلُ طقس تعويذ مُحَمَّد بهاتين السُّورَتَيْن، وإذْ بمُحَمَّد يخرج إلى أصحابه معافىً.[1] وتتابع هذه المراجع القصة، فتقول إنّه بعد أن جاء جِبْرِيلُ بالسُّورَتَيْن ورقّى مُحَمَّداً بهما، أضاف تَعْوِيْذةً، نصّها: «باسم اللّه أَرْقيك، من كلِّ شيءٍ يُؤذيك، ومن كلِّ عينٍ ونفسِ حاسدٍ يَشفيك».

لكن حالة مرض مُحَمَّد تُشرح بمزيد من التفاصيل في الرّوايات الإِسْلامِية، التي تخبرنا عن المدى الكبير الذي بلغه شدة الوهن، وتضيف أنه في أحد أيام مرضه، أتاه ملكان ليلاً، فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليْه، فدار حوار بين الملكيْن قال فيه أحدهما إنَّ علّة مُحَمَّد ترجع لسحر قام به لَبيد بن الأَعْصَمِ، وإنّ السِّحْر موجود في بئر معين. وحينما انبلج الصبح بعث مُحَمَّد عمار بن ياسر في مجموعة فيها علي بن أبي طالب لإخراج السِّحْر، فوجدوا «وتراً فيه إحدى عشرة عقدة»، فجاءت هاتان السُّورتان، فصار كلما قرأ مُحَمَّد آية من المُعَوِّذَتيْن انحلت عقدةً.[2] وأما الملكان اللذان جاءا مُحَمَّداً يَعُودانه ودلا على مَخبأ السِّحْر فهما جِبْرِيل وميكائيل.[3] ومن سياق القصة يظهر أنّ الملكيْن حضرا بينما كان مُحَمَّد نائماً، ويفهم من ذلك أن حضور الملكين لم يكن عياناً بل كان حلماً راود مُحَمَّد.

          أما كيف تمكن هذا اليهودي أو المجموعة اليهودية من سحر مُحَمَّد، فإننا نقرأ إيضاحات للقصة، تتحدث عن غلام يهودي كان يخدم مُحَمَّداً، فنجح أصحاب المؤامرة بتوظيف الغلام لخدمة الهدف، فأخذ الفتى مُشاطة [الشَّعر الذي يَسْقُط من الرّأْسِ واللحيةِ عند التَّسْريح بالمشط] مُحَمَّد، وعدة أسنان من مشطه، فأعطاها للمتآمرين، فسحروه بها. ثم وضع لَبيد بن الأَعْصَم السِّحْر في بئرٍ. ولقد أنهك السِّحْرُ مُحَمَّداً إلى حد خطير، وتصف الرواية حاله:

«وانتثر شعر رأسه ولبث ستة أشهر يرى أنّه يأتي نساءَه ولا يأتيهن. وجعل يذوب ولا يدري ما عراه. فبينما هو نائم ذات يوم إذْ أتاه ملكان فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليْه [... فلما استيقظ مُحَمَّد، قال]: ‹يا عائشة! ما شعرت أن اللّه أخبرني بدائي›، ثم بعث عَليّاً والزّبير وعمّار بن ياسر فنزحوا ماءَ تلك البئر كأَنَّه نُقاعةُ حِنّاءٍ [نُقاعَةُ: الماءُ الذي يُنْقَعُ فيه]، ثم رفعوا الصّخرة وأخرجوا الجُفَّ [الجُفُّ وعاء من جُلود الإبل]، فإذا فيه مُشاطة رأسه وأسنان مشطه، وإذا فيه وتر معقود فيه إحدى عشر عقدة، مغروزة بالإبر، فأنزلَ اللّهُ سُورَتيْ المُعَوِّذَتيْن، فجعل كلما قرأ آيةً انّحلت عقدة، ووجد رسولُ اللّهِ خفةً حِتَّى انّحلت العقدة الأخيرة، فقام كأنّما نشط من عقال، وجعل جِبْرِيل يقول: ‹بسم اللّه أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن حاسد وعين، اللّه يشفيك›. فقالوا: ‹يا رسول اللّه! أوَلا نؤم الخبيث فنقتله؟› فقال: ‹أما أنا فقد شفاني اللّهُ، وأكره أنْ أثير على النَّاس شراً›».[4]

 

منذ هذه اللحظة، اكتسبت السُّورَتان أهميةً كبيرةً؛ فوصفهما مُحَمَّد بأنّهما من أحبّ السّور إلى اللّهِ،[5] وصارتا بالنسبة له وسيلة حماية ضد الشرور الخفية المصدر. إضافةً لذلك، اعتمدهما رقية لمرضه، إذْ تحدثنا عائشة عن أنّ مُحَمَّداً «كان إذا اشتَكَى قرَأ على نفسِه المُعَوِّذَتيْن، وتفَل أو نفَث»؛[6] وقد كان مُحَمَّدٌ «ينفث على نفْسه في المرض الذي مات فيه بالمُعَوِّذات».[7] كما كان يستخدمهما لمعالجة أمراض الآخرين، ففي الخبر أنّ ثابت بن قيسٍ اشتكى مرضاً، فأتاه مُحَمَّد، «فرَقّاه بالمُعَوِّذاتِ ونفَث عليه وقال: ‹اللهم ربَّ النّاس! اكشِفِ البأس عن ثابت بنِ قيسِ بن شماس›. ثم أخذ تراباً من واديهم فألقاهِ في ماءٍ فسَقاه».[8]

وقد طلب مُحَمَّد من أتباعه التّعوّذ بهما وبسُورة الإخلاص.[9] وحثّهم على قراءة المُعَوِّذَتيْن بعد كلِّ صلاة.[10] لا بل إِنَّه توسع في مسألة توظيف السُّورَتَيْن، بحيث خرجتا عن نطاق التعوّذ من عواقب الأمراض، فرُوي أنه بينما كان مُحَمَّد يسير بين منطقتي الجُجْفَةِ والأبواءِ، هبت عليه وأصحابه ريحٌ وأظلمت السّماء، فشرع مُحَمَّد يتعوذّ بهاتين السُّورَتَيْن.[11] كما أنه استخدم السُّورَتَيْن للسيطرة على الدّواب، فجاء في الروايات أنّ مُحَمَّداً ركب بغلةً فحادَت به فحبسها، وأمرَ رجلاً أنْ يقرأ عليها ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ[12]﴾. وتخبرنا رواية ثانية أنّ البغلة كانت هدية النَّجاشي لمُحَمَّدٍ، وأنّ مُحَمَّداً طلب من الزّبير تلاوة: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾.[13]

ولدينا حكاية أقلّ شهرةً تقص علينا أنّ مُحَمَّداً احتاج لدفع شر قوى سحرية في مَكَّة قبل الهجرة. تقول هذه الحكاية، إنّ خطراً حاق بمُحَمَّد، كان سببَ نزولِ السُّورَتَيْن، ذلك إن قريشاً ندبت شخصاً عُرف بينهم بعينه ليصيب مُحَمَّداً، فجاءت المُعَوِّذَتان ليتعوّذ بهما.[14] ويُفهم من هذه الرواية أن مُحَمَّداً كان يخشى على نفسه العين، وأن السُّورَتَيْن جاءتا لحمايته.

لم يقتصر ارتباط النّصين بمسألتيْ تعرض مُحَمَّد لسهام السِّحْر وخشيته على نفسه من العين فحسب؛ بل كان للسٌّورَتيْن دور في التعاطي مع مخاطر حركة النُّجُوم، إذْ يربط المفسرون بين آية ﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ[15]﴾ وبين كوكب الثُّريَّا، ويقولون إنَّ «الغَاسق» الذي حذرت الآية من شره هو الثُّريَّا. ومُحَمَّد يعبر عن علاقة الآية مع النُّجُوم صراحةً، ففي حديث عن عائشة إن مُحَمَّداً أشارَ إلى القمرِ وقال: «يا عائشة! تَعَوَّذي باللّهِ من شَرِّ هذا الغاسق إذا وقبَ». وفي صيغة أخرى، أنّ مُحَمَّداً نَظَرَ إلى القمر، فقال: «يا عائشَةٌ! استعيذِي باللّهِ من شرّ هذا فإنّ هذا الغاسق إذا وَقب».[16]

ومن الواضح أنّ مُحَمَّداً استند في تحذيره لعائشة إلى اعتقاد كان شائعاً لدى عرب الجزيرة العربية، يرى أنَّ وقوع وارتفاع الأَسْقَام والطَّواعِين ترتبط بحركة الثُّريَّا.[17] ولا غرابة أنْ يشير مُحَمَّد إلى القمر تحديداً، إذْ حسب علم النُّجُوم فإن للقمر 28 منزلاً، منها الثُّريَّا.[18] وتدخل حركة الثُّريَّا في نطاق علم الأنواء، وهو العلم الذي «يقابل علم الظّواهر الجّويّة عندنا، مما يتعلق بالمطر والرياح، ولكنّهم كانوا ينسبون الظّواهر الجّويّة إلى طلوع الكواكب أو غروبها، ولذلك كان علم الأنواء فرعاً من علم النُّجُوم».[19] وحينما نعلم أنَّ أهالي الجزيرة العربية كانوا يؤمنون بتأثير النُّجُوم في أعمال البشر وهو اعتقاد جاء من الكلدان،[20] فلا بدّ أن يتبين لنا لماذا قرن مُحَمَّد آيته بالقمر.

إذاً، السُّورتان جاءتا حسب المصادر الإِسْلامِية من أجل ردّ سحر أو عين عن مُحَمَّد قام به أعداؤه القرشيون أو يهود، وهذا السِّحْر جعل مُحَمَّداً يختبر مشقات كبيرة وأذهله عن نفسه، إذْ تقول عائشة في إحدى الروايات عن هذا الموضوع: «سُحرَ النَّبيُّ حِتَّى إنّه ليخيل إليه أنّه فعلَ الشّيء وما فعل».[21] أو حسب ما أوردنا أعلاه: «وانتثر شعر رأسه ويرى أنّه يأتي نساءَه ولا يأتيهن، وجعل يذوب ولا يدري ما عراه». وينقل المؤرخون أنّ هذه المعاناة استمرت سنة.[22]

          لمّا انسلخت سنة على مؤسس الإسلام وهو يعاني وطئة الخيالات والكف عن النساء، رأى أنّه من الضروري معالجة أسباب هذه الأعراض. وحسب ما كان سائداً في زمنه، وتجسيداً لاعتقاده بوجود القوى الشريرة، كان عليه أن يجابه القوى المجهولة لمرضه، وكانت الأسباب المحتملة لأزماته المرضية:

          أ. السِّحْر: فأتى بالآيات المضادة للسِّحْرِ، وتصرّح الرّوايات أنَّ عدد آيات السُّورَتَيْن إحدى عشر آية بعدد العقد التي عقدها لَبيد بن الأَعْصَم وبناته لتنفيذ سحرهم.[23] وقد ذكرت الرّوايات أنّ الفتى اليهودي الذي كان قائماً على خدمة مُحَمَّد اشترك بالمؤامرة، لكن هذه الأخبار لا تعلل لنا سبب استخدام مُحَمَّد لفتى يهودي، وهو على عداء مع يهود يثرب. وكان بوسعه أن يستخدم فتيان المسلمين، أنصاراً أو مهاجرين. ثم إِنَّ المصادر لا تذكر لنا اسم الفتى. ولهذا نجزم أنّ الفتى اليهودي نسيج خيال الرواة، وأنّ ذكره ورد في المصادر التاريخية ترميماً للثغرة الرّوائيّة في قصة السِّحْرِ. فعندما قبل المؤرخون المسلمون قصة وقوع السِّحْر على مؤسس الإسلام، فإنّهم صنعوا شخصية الفتى، لأنّه لا بد للسَّحَرَة من بعض المتعلقات بالمَسْحُورِ لتنفيذ خطتهم، ولما كان لا يمكن لأهل بيت مُحَمَّدٍ أنْ يتواطأوا مع أعدئه، وكما أن أصحابه «منزهون» عن الخيانة، فإنّ الرواة اختلقوا شخصيّة الفتى ترقيعاً ـ ولو رديئاً ـ لنسج أسطورة السِّحْر.

في هذا السِّياق نُلاحظ أنَّ مُحَمَّداً كان يقرأ على نفسه في مرضه المُعَوِّذَتيْن ويَنْفُثُ، وإذا نظرنا في المعاجم، فإننا نجد أنَّ مفردة «النَّفْث» تُشرح بأنها شِبه النّفخ وأَقلُّ من التَّفْل. وتربط المعاجم عملية النَّفْثُ بالسِّحْر، فتقول «إن النَّفْث يجري على عُقدٍ تُعْقَدُ في خيوطٍ، ونحوها؛ على اسمِ المَسْحُورِ» فيحلّ الأذى بالشخص المستهدف بالسِّحْر.[24] بمعنى أن النَّفْثَ جزء من طقس السِّحْر، وقد كان مُحَمَّدٌ يقوم بعملية «النَّفْث»، كإجراء للتصدي للسحر بإحدى أدواته.

          ب. النُّجُوم: إنَّ الربط الذي تقول عنه المصادر بشأن الاعتقاد الشائع في الجزيرة العربية عن أنّ «الغاسِقَ» يعني نجم الثُّريَّا وما يتصل بحركته من الأمراض والطواعين، يبرهن أن مُحَمَّداً كان خاضعاً للمعتقدات الخرافيّة في عصره، فبقي يحمل أفكاراً تتعلق بقوة النُّجُوم، والتزم بالإيمان الموجود لدى عرب زمانه عن تأثير النُّجُوم، ذي المصدر الكلداني. ويلقى إيمان مُحَمَّد بقوة النُّجُوم تأكيداً بحديث عائشة عن إشارة مُحَمَّد إلى القمر وقوله: «يا عائشة! تَعَوَّذي باللّهِ من شَرِّ هذا الغَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ».

          والإيمان بقوة النُّجُوم تجسّد بقسم واردٍ في الْقُرْآن بنجم الثُّريَّا، يقول: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى[25]﴾.[26] ويكرر الْقُرْآن القسم بالنُّجُوم، ويعتبر القسمَ بها جليل الشأن: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم! وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ[27]﴾ وفي تفسير الجّلالين نقرأ: «﴿وَإِنَّهُ﴾ القَسم بها ﴿لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم».

          ج. الحَسَدُ/ العين: وتنتهي سُورَةُ الفَلقِ بالتعوذ ﴿مِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾، ومن هنا يبدو أنَّ الشكوك كانت ترواد مُحَمَّداً بأنّ ما أصابه قد لا يكون سحراً، بل قوى مؤذية أخرى منشَؤُها الحسد. مع أنّه كان عليه أنْ يسقط مسألة الحسد من حساباته وفق ما صرح: ﴿وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ[28]﴾، لكنه لم يتمكن من ذلك لأنّ تفكيره كان مشبعاً بالفكرة، وبرهان ذلك ما كان معروفاً عن أنّه كانَ «يَتَعوَّذ من عينِ الجانِّ ومن عينِ الإنسِ، فلما نزَلت المُعَوِّذَتيْن أخذهما وترك ما سوى ذلك».[29]

          ثلاثة احتمالات وضعها مُحَمَّدٌ استناداً للنّظرات السّائدة في عصره، فعكس في هاتين السُّورَتَيْن تلك الآراء. من هنا لا بدّ من الموافقة على ملاحظة نلدكه في تعليقه على السُّورَتَيْن بأنّه استناداً للسيرة، فإن مُحَمَّداً بقي يشاطر أبناء الجزيرة رؤيتهم للعالم،[30] فأخذ منهم هذه الاعتقاد، والإيمان بقوة التّعاويذ. «والتّعاويذ هي الأشياء التي يتعلّق بها الفرد... إنّها تلك الأشياء الشّخصيّة التي تعطي بعض النّاس راحةً خاصةً، على الرّغم من أنّ معظمنا لا يشعر، في الواقع، بمتعة من هذه الأشياء. وأمثلة ذلك اللعب، والحيوانات المصنوعة من أنسجة محشوة والتي يحملها معهم الأطفال أينما ذهبوا، والطّلاسم والأحجية التي يحملها كثيرٌ من الكبار... وقد ينشأ عند مرضى الخواف تعلّق تعويذي بأحد الأشياء التي تخفف من خوفهم. فبعض الأشخاص يرتاحون إذا حملوا معهم زجاجة بها نشادر للاستعانة به في حالة الشّعور بالإغماء. ويشعر آخرون بالرّاحة بوجود كمية من العقاقير المهدئة في جيوبهم، حيث إنّ وجودها يشعرهم بالاطمئنان بدون أنْ يتعاطوها بالفعل».[31]

          وقد انتقل الإيمان بهذه القوى المجهولة إلى المسلمين، فصار المسلمون يشاركون عرب قبل الإسلام الاعتقاد بالقوى الخفية، ذلك أن كثيراً من المسلمين يحفظون عن ظهر قلب هاتين السُّورَتَيْن وغالباً ما يتلونهما مع سورة الإخلاص (112) اقتداءً بمحمد لدفع أخطار هذه القوى. علاوة على ذلك يحمل كثير من المسلمين رجالاً ونساءً هذه السور كحجب وتمائم.

 

النقاش الإِسْلامِي بخصوص المُعَوِّذَتيْن

في الأخبار المتصلة بتدوين المصاحف، نجد مَن رفض اعتبار السُّورَتَيْن جزءاً من الْقُرْآن، إِذْ نقلت لنا الرّوايات أنَّ عبدَ اللّهِ بنَ مسعود لم يدوّن في مصحفه هاتيْن السُّورَتَيْن، وكان يؤكد على أنهما ليستا من النص الْقُرْآني، ويحكى «أنه كان يَحُكُّ المُعَوِّذَتيْن من المصحف، ويقول: ‹لا تَخلِطُوا الْقُرْآن بما ليس منه، إنهما ليستا من كتاب اللَّهِ، إنما أُمِر النبيُّ أن يُتَعَوَّذَ بهما›».[32] وكان يرى أنهما نصّا رقية فحسب، فكان يقول: «إنما أُمِر رسول اللّه أنْ يتعوّذ بهما، ولم يُؤمر بأنّهما من الْقُرْآن».[33] ويفسر ابن قتيبة عدم تدوين ابن مسعود في مصحفه للمُعَوِّذَتيْن، أنه كان يسمع مُحَمَّداً يُعوّذ الحَسن والحُسين، فاعتبرهما بمنزلة عبارة: «أُعيذُكما بكلماتِ اللّه التامَّةِ، من كلّ شيطانٍ وهامَّة، ومن كلِّ عين لامّة».[34]

بينما قدّم آخرون تبريراً ثانياً لموقف ابن مسعود، فقالوا إنّه لم يكتب هاتيْن السُّوْرَتيْن، لأنّه كان يرى أنّهما لن تتعرضا للنسيان كونهما محفوظتين في ذاكرة المسلمين، وهذا أيضاً ما دفعه لإسقاط سُورَة الفاتحة (1) من مصحفه. ويفنّد القرطبي في تفسيره هذه المنافحة، بالقول إنَّ ابن مسعود كتب في مصحفه سُورَةَ الْكَوْثَرِ (108)، وسُورَةَ النّصر (110)، وسُورَةَ الإخلاص (112)، وهي سور مثل المُعَوِّذَتين قصراً، لا بل إنّ حفظ تلك السور القصار التي دونها ابن مسعود أكثر سهولةً، وبالتالي فهنّ في أمان من النسيان. ثم يضيف القرطبي القول بأنه لو قبل جدلاً بأن إسقاط ابن مسعود في مصحفة لسُورَة الفاتحة مسوّغ وفق حجة أنها محفوظة في الذاكرة لأن تلاوتها شرطٌ لأداء الصلاة، وهي تُقرأ في مطلع كل ركعة، فهذا الأمر لا ينطبق على المُعَوِّذَتيْن.[35]

          إضافة إلى ابن مسعود الذي رفض اعتبار هاتيْن السُّورَتَيْن نصاً قرآنياً، بل مجرد تعاويذ لدفع شرور القوى الخفية، فإنّ المعتزلة رفضوا الحيثيّة التي قيل إنّها سبب التّنزيل، فقد أنكر المعتزلة صحة أنْ يكون مُحَمَّد قد سُحِرَ، وتساءلوا كيف يمكن تصديق صحة خبر تعرض مُحَمَّد للسحر والْقُرْآن يقول: ﴿وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ[36]﴾، ﴿وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى[37]﴾، ولأنّ إجازة مسألة السِّحْر على مُحَمَّد يقدح في نبوته، لا سيما أنّ أعداءه القرشيين اتهموه بأنّه مَّسْحُورٌ،[38] وبالتالي لو وقع مُحَمَّد تحت تأثير السِّحْر، لكان «الكفار» صادقين فيما اتهموه به.[39]

هذا النّقد المعتزلي لقصة نزول السّحر بمُحَمَّد، المتأسِّس على نظرة تبجيلية لمؤسس الإسلام، غاب عنه تقديم تعليل لسبب مجيء السُّورَتَيْن. ومن جهة أخرى، يتجنب المعتزلة حقيقة أنَّ طقوس الرّقى وقراءة التعاويذ دفعاً لخطر السِّحْر والشيطان والعين والنُّجُوم، أمور تقدح بالنّبوّة أيضاً.

لدينا قراءة قرآنية معتزلية قدمها المعتزلي عمرو بن عبيد: تقول: «مِن شَرٍّ مَا خَلَقَ» بالتنوين بدلاً من ﴿شَرِّ﴾ بالكسر. والقراءة قائمة على فكرة أنّ اللّه لم يخلق الشرّ. وهنا تصبح «مَا خَلَقَ» ما: نافيّة.[40] والغاية من هذه القراءة تنزيه اللّه عن خلق الشرّ؛ بيد أنَّها قراءة مرفوضة من جانب جميع الفرق الإِسْلامِية، أولاً، لأنّ هذه الفرق تعتبر اللّهَ خالقاً للخير والشر معاً؛ وثانياً، إنّها قبلت سبب التّنزيل: السِّحْر والعين والنُّجُوم.

 

مكيتان أم مدنيتان؟

اختلاف الرّوايات حول السّبب الذي استدعى إعلان السُّورَتَيْن ـ الخطر في مَكَّة ومرض مُحَمَّدٍ في المدينة ـ، أوقع المفسرين في خلاف بخصوص تحقيب النَّصيْن؛ ففريق يقول بمكية المُعَوِّذَتيْن، وآخر مع مدنية السُّورَتَيْن. وقد حقَّب ابنُ عاشور السُّورَتَيْن في الفترة المكية، إذْ يرقّمها العشرين تنزلاً: بعد سُورَةِ الْفِيلِ (105) وقبل سُورَةِ النَّاسِ (114)؛ في حين يقول مؤلف تفسير حدائق الرّوح إنَّ سُورَةَ النَّاسِ جاءت بعد سُورَةِ الْفَلَقِ،[41] ويؤرّخ مجيئهما في السّنة السّابعة هجريّة، بما يتزامن مع التواريخ التي ذكرت قصة تعرَّض مُحَمَّدٍ للسِّحْر.[42]

الخلاف بين المكيّ والمدنيّ لا يعود إلى اختلاف الرّوايات بشأن سبب تنزّل السُّورَتَيْن فحسب، بل يتصل بلغة المُعَوِّذَتيْن نفسيهما؛ فبناء هاتيْن السُّورَتَيْن يتناسب مع صيغ سور المرحلة الأولى من الدّعوة المحمديّة في مكة، وتتميز سور هذه المرحلة بالقصر، وهو سمة النّصين قيد البحث. ونلدكه، الذي خطّ علم الدراسات الْقُرْآنية الحديثة، يقف أمامهما محتاراً، غير قادر على الجزم بصددهما، وهو يلاحظ أنّ «موير الذي ينسب عادة لكل سورة مكاناً محدداً، لا يجرؤ على أنْ يبدي رأيه فيهما».[43]

ونجد وجهة نظرٍ، قال بها المستشرق ﭭﺎيل (Weil) تعتبر أنَّ السُّورَتَيْن تعاويذ قديمة استحضرها محمد. ولكن نلدكه لا يوافق على هذا الرأي كليّاً، بل يعتقد أنَّ مُحمداً أخذ نموذجاً قديماً، وأسبغ عليه صبغة إِسْلامِية. ويقول إنَّ الآيات الثلاث الأخيرة من سُورَة النَّاسِ وثنية الطابع، لكن مُحَمَّداً أدخل عليها بعداً إِسْلامِياً عندما تقدّم بطلب العون من الإله الواحد.[44]

أما ويري، (Wherry) فبعد أنْ يستعرض رأي نلدكه، يعلن موافقته على نظرة ﭭﺎيل القائلة إنَّ مُحَمَّداً اقتبس السُّورَتَيْن من التّعاويذ التي كانت سائدة بين عرب الجزيرة العربية؛ إلاَّ إنَّه يحقّب المُعَوِّذَتيْن في الفترة المكية، فمن وجهة نظره، أنَّ خشية مُحَمَّد من أنْ يُوجه إليه تهمة تعاطي السِّحْر سيمنعه من الاقتباس من التّعاويذ الوثنية في سنوات دعوته المتأخرة في المدينة.[45]

من جهتنا، سنقترح الصّيغة التّالية:

إنْ نظرنا إلى البناء اللغويّ لهاتين السُّورَتَيْن، فلا بدّ لنا من الإقرار أنّهما تعودان للمرحلة المكية المبكرة. وعلى الأغلب تستند السُّورتان إلى صيغ كانت سائدة في الجزيرة العربية، ولعلّ هذا هو سبب رفض ابن مسعود للاعتراف بهاتين السُّورَتَيْن قرآناً. وفي مَكَّة كان مُحَمَّدٌ يتعرّض لضغوطات نفسيّة كبيرة ناشئة عن رفض القرشيين له، إضافةً لذلك، لا بدّ أنه تناهى لسمعه أنّ بعضاً من أبناء بلده كان يسعى لإيقافه عن نشاطه الدّعوي باستخدام القوى السِّحْرية، كما تقول رواياتٌ إنّ قريشاً طلبت من شخص معروف بقدرته على الإصابة بالعين توجيه ضربة عين لمحمدٍ. فاضطر مُحَمَّدٌ إلى مواجهة القوى السِّحْرية للقرشيين، وبالتحديد التصدي لإصابة العين بتنزيل المُعَوِّذَتيْن. وهذا يعني أنَّ السُّورَتَيْن جاءتا في مَكَّة لمواجهة الأخطار التي كان يتوجسها مؤسس الإسلام، وللدفاع عنه ضد القوى المجهولة التي قد يستخدمها القرشيون. ثم إنَّ السُّورَتَيْن خرجتا من التداول لسنوات، ولكن بعد مرض مؤسس الإِسلام في المدينة «حتى إنّه ليخيل إليه أنّه فعل الشّيءَ وما فعلَ»، فإنّه أعاد إعلانهما لمعالجة الوضع الجديد، وبذلك صارت السُّورَتَان جزءاً من المقدس الإسلامي.

ولولا هذا التقطع، لكُتبت المُعَوِّذَتان في نصٍّ واحدٍ، لكن من المرجح أنّ محرري الْقُرْآن كانوا يدركون أنهما تعودان لحقبة قديمة وأنهما تُليتا بشكل منفصل ولأسباب مختلفة، فقرروا كتابتهما منفصلتيْن، لكن متعاقبتين. ويعتقد نلدكه أنَّ تدوينهما في آخر الْقُرْآن نابع من إيمان خرافي، وأنّ هذا الإيمان الخرافي هو ما يجعل المسلمين يبدءون تلاوة الْقُرْآن بالتعوّذ استناداً للأمر الْقُرْآني (سُورَةُ النَّحْلِ: 16/ 98).[46]

 

على هامش سُورَةِ الْفَلَقِ

يقدم البيضاوي شرحاً معادياً للمرأة على الآية ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ [آية 4]، فيقول بأنّ الآية تعني: «من شرِّ النّفوس السّواحر أو النّساء السّواحر، فيكون معنى الآية من شرّ جنس النّساء اللاّتي شأنهنّ أنْ ينفثن في عزائم الرّجال المعقودة على أمورٍ بكلماتٍ لطيفة أو محاولات خفيّة فيغلبن عليهم ويحوّلنهم عن آرآئهم وعزائمهم التي صمّموا على إمضائها بأنواع المكر والحيلة فإنّ كيدهنّ عظيم... فإنّ النّساءَ بميل طباع الرّجال إليهنّ يتصرّفن فيهم ويحوّلنهم من رأيٍ إلى رأيٍ ومن عزيمة إلى أخرى فأمرَ اللّهُ تعالى رسولَه بالتعوّذ من شرهنّ».[47]

لكن التأويل الأكثر طرافةً نجده بالقول إنّ المقصود بعبارة ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ﴾ [آية 5] هم اليهود، لأنهم رفضوا الإيمان بالإسلام حسداً.[48]

 

المعوّذَتان

سُورَةُ الفَلقِ (113)

1. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ 2. مِن شَرِّ مَا خَلَقَ 3. وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ 4. وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ 5. وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ.

سُورَةُ النَّاس (114)

1. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ 2. مَلِكِ النَّاسِ 3. إِلَهِ النَّاسِ 4. مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ 5. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ 6. مِنَ الْجِنَّةِ والنَّاسِ.

 

ــــــــــــــــــــــ

[1] أسباب النزول للسيوطي، ص 313.

[2] الدر المنثور: 15/ 795؛ قارن: الدر المنثور: 15/ 802، 803.

[3] الدر المنثور: 15/ 794 ـ 795.

[4] تفسير القرطبي: 22/ 570 ـ 571؛ النيسابوري، 410؛ البيضاوي: 4/ 619؛ الدر المنثور: 15/ 793 ـ 794. [بعض الروايات تورد اسم علي فحسب، الدر المنثور: 15/ 792؛ وهامش الشيخ زاده على تفسير البيضاوي: 4/ 619].

[5] الدر المنثور: 15/ 789؛ قارن مختلف التفاسير، ومثلاً ابن كثير: 14/ 518 ـ 521.

[6] الدر المنثور: 15/ 791.

[7] تفسير التحرير والتنوير: 30/ 626. نلاحظ هنا صيغة الجمع: المُعَوِّذات. وربما كان يقرأ أيضاً رقى أخرى، مثل: «أُعيذُكما بكلماتِ اللّه التامَّةِ، من كلّ شيطانٍ وهامَّة، ومن كلِّ عين لامّة».

[8] الدر المنثور: 15/ 789 ـ 790.

[9] تفسير القرطبي: 22/ 569.

[10] الدر المنثور: 15/ 788.

[11] تفسير القرطبي: 22/ 568 ـ 569؛ الدر المنثور: 15/ 786 ـ 787.

[12] سورة الفلق: 113/ 1 ـ 2.

[13] الدر المنثور: 15/ 790 ـ 791.

[14] تفسير التحرير والتنوير: 30/ 624.

[15] سورة الفلق: 113/ 3.

[16] الثعلبي: 5/ 640؛ الزمخشري: 6/ 465؛ الطبري: 24/ 748.

[17] الطبري: 24/ 747 ـ 748. قارن مادة الغَسَق في القاموس المحيط.

[18] تاريخ التمدن: 3/ 14.

[19] تاريخ التمدن: 3/ 15.

[20] تاريخ التمدن: 3/ 17.

[21] النيسابوري، 411.

[22] تفسير القرطبي: 22/ 570. ويقول محقق الكتاب إن المرض دام ستة أشهر وفق حديث صحيح الإسناد.

[23] المحرر الوجيز: 5/ 538 ـ 539.

[24] الثعلبي: 5/ 641؛ تفسير التحرير والتنوير: 30/ 648. قارن مادة نفث في لسان العرب.

[25] سورة النجم: / 1.

[26] لسان العرب، مادة: نجم. قارن الجلالين.

[27] سورة الواقعة: / 75 ـ 76.

[28] المائدة: /67.

[29] الدر المنثور: 15/ 787؛ قارن: ابن كثير: 14/ 522.

[30] تاريخ الْقُرْآن، ص 97.

[31] التّعايُش مَعَ الخَوف ـ فهْمُ القَلقِ وَمكَافحَتُه، إيزاك م. مَاركس، ترجمة د. محمد عثمان نجَاتي.

[32] الدر المنثور: 15/ 784.

[33] تفسير التحرير والتنوير: 30/ 624 ـ 625.

[34] تفسير القرطبي: 22/ 567؛ قارن ابن كثير: 14/ 516 ـ 517.

[35] تفسير القرطبي: 22/ 567 ـ 568.

[36] سورة المائدة: 5/ 67.

[37] سورة طه: 20/ 69. قارن: ﴿وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ﴾ (يونس: 10/77).

[38] ورد اتهام القرشيون لمحمد بأنه مَّسْحُورٌ في ﴿يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾ (الإسراء: 17/47)، ﴿َقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾ (الفرقان: 25/ 8).

[39] البيضاوي: 4/ 619.

[40] المحرر الوجيز: 5/ 538؛ معجم القراءات: 10/ 645 ـ 646.

[41] ومع ذلك دونت قبلها.

[42] حدائق الروح: 15/ 470.

[43] تاريخ الْقُرْآن، ص 97.

[44] تاريخ الْقُرْآن، 98.

[45] Wherry, Vol 4, p 397.

[46] تاريخ الْقُرْآن، 98.

[47] البيضاوي: 4/ 620. ترد لدى الزمخشري ملاحظات مشابهة، انظر: الزمخشري: 6/ 465 ـ 466.

[48] الطبري: 24/ 752.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط