إبراهيم عرفات / Feb 21, 2011

يبدأ التبشير بعبارة "الله يحبك". يسوع يحبك. المسيح يحبك. ولعل أصغر آية في الإنجيل هي "الله محبة" ولكنها، على صغرها، فهي دستور المسيحية والعقيدة الأساسية في المسيحية.

 

يتساءل المسلم: ما هذا الكلام والذي يبدو وكأنه "فيلم عربي" أو ربما "فيلم هندي" موضوعه الحب؟ أليس الله يحب الكل ونحن نحب بعضنا بعضًا؟ فأي امتيازٍ لكم يا نصارى في ذلك؟ إنَّ الله يحب الناس وهذا ما يقوله الإسلام أيضًا. هكذا يتصور المسلم، وهكذا يعتقد.

 

ونحن بدورنا نسأل المسلم: هل حقًا يحب الله جميع الناس؟ وبدون شرط؟ وهل يحبهم حتى وإن رفضوه؟ هل يحبهم حتى وإنْ كفروا به؟ يجيب المسلم من القرآن أن الله يحب قومًا يحبونه:

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (المائدة:54).

 

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (آل عمران ٣١).

 

ما يتكلم عنه القرآن في الآيتين السابقتين كمثال عن "محبة الله" في الإسلام لهو جميل ولكنه يبين أن المحبة هنا مشروطة. في آية المائدة أعلاه، سوف يأتي الله بقوم يحبهم وهم بالتالي يحبونه؛ وهذا نكاية في المرتدين. كما هو واضحٌ هنا فالحب ليس هنا خطوة فعلية يخطوها الله دون شروط بل هو حب مشروط. القرآن يقول "يحبهم ويحبونه". ولنفرض إنهم لا "يحبونه"؟ أليس من حقهم أن يقولوا لله لا؟ ألا يعرض نفسه عليهم وهم يقولون نعم أو لا؟ ماذا يعمل الله حينئذ؟ هل يغتاظ وينتقم منها بتعذيبهم في النار سبعين خريفًا؟

 

وماذا عن آية آل عمران أعلاه؟ إنها تقول إنهم يتبعون الله لأنهم يحبونه وبالتالي هو "يحببهم". هنا الحب جاء استجابةً، رد فعل من الله، وليس أبدًا مبادرة أولية يتخذها الله. كما نرى في كلتا الحالتين أعلاه، الحب من الله في القرآن يأتي كرد فعل على من يحبونه وليس مبادرة يأخذها الله من جانبه وبصرف النظر عن رد فعل الإنسان سواء قام بالترحيب بالله أو رفضه تمام الرفض.

 

في الإنجيل الوضع مختلف تمامًا؛ حيث عندما نقول إن الله يحب الناس فالمقصود هو أنه يحبهم هكذا ودون شرط يتشارط به عليهم (يوحنا ٣:  ١٦ ). إنه حب غير مشروط. هذا حبٌ لا يأتي كرد فعل من جانب الله على من أحبه أو من كفر به بل هو يحبهم سواء أحبوه أم لا. موقفهم الشخصي لا يؤثر على حبه بل هو يحبهم حتى وإنْ كفروا به كفرانا مبينا. تراه يبدأ بالحب ويمد يده للإنسان طالبًا منه أن يدخل معه في "عهد حبٍ" لا عهد خوف. عبادة الله في الإسلام مؤسسة على الخوف، الترغيب والترهيب. أما في الإنجيل فربي لا يحتاج لترهيبي بل لأن ربي يحبني فهو يطرق باب قلبي برفق قائلا: افتح لي كي أدخل إليك وأتعشى معك وأنت معي (رؤيا ٣: ٢٠). قلت إن إله الإنجيل يطرق باب قلبي برفق ولا يدخل عنوة كما هو الحال في إله الإسلام حيث يُخضع الناس له لو اقتضى الأمر لاستخدام الإكراه "طوعًا أو كرهًا".

 

في الإنجيل، الله يحبني وأنا في غياهب الكفر والضلال والخطايا تثقل كاهلي من أعلى رأسي لأخمص قدمي وحبه لا يتبدل تجاهي سواء آمنت أو كفرت بل حبه دائمًا في ازدياد. وكلما زادت خطاياي كلما تفاضلت نعمته وزادت محبته. قال كتاب الله على لسان الطوباوي بولس: ولكن الله بيّن محبته لنا لانه ونحن بعد خطاة مات المسيح لاجلنا (رسالة رومية ٥: ٨). حب الله قد بدأ تجاهي وأنا لا أزال في وسخ خطاياي وليس لأني تبت إليه فيكون رد فعله الحب. كلا!

 

نسأل إله الإنجيل: لماذا تحبنا؟ هل لأنك تريد حصة المؤمنين في جنتك لتتفاخر بهم يوم القيامة وتغيظ بذلك الكفار؟ ألم تقم أنت بتقسيم الناس لمؤمنين وكفار؟ ألست أنت السبب فيما نحن فيه من شحناء وإحن وفتن طائفية؟

 

يبتسم الله بقلبه الكبير ويقول لي: أحبك يا إبراهيم هكذا. قلت لك هذا في إنجيلي في يوحنا ٣: ١٦: "لأنه هكذا أحب الله العالم". أحبك بدون سبب أي "كدة" و"لله في لله" و"هيك" و"من غير ليه"، كما تقولون بمفرداتكم العامية. هل رأيت يا إبراهيم أم تضم طفلها في حنان جارف إلى صدرها؟ هل سألت نفسك: لماذا تفعل ذلك؟ لا تملك سوى أن تفعل هذا. لا تعرف أن تفعل غير هذا. أفعل هذا لأن هذا هو طبعي وطبعي الحب يا إبراهيم. دستورك كمسيحي هو من كلمتين "ورد غطاهم": الله محبة. جملة قصيرة من مبتدأ وخبر. الخبر يعطي وصف وتعريف بطبيعة المبتدأ. أنا يا إبراهيم يا بنيّ هو المبتدأ في كل شيء ولذلك تقرأ في إنجيلك إني أنا "الألفا والأوميغا"، الألف والياء. ومبتدأي يا إبراهيم مع التاريخ البشير يوم بدأته هو مبتدأ الحب؛ وللمبتدأ لابد من خبر، وخبري هو "الحب". أنا المبتدأ وأنا هو الخبر يا إبراهيم. الحب هو طبعي وتلك هي طبيعتي. طبيعتي هي طبيعة الحب. بالحب خلقتك يا إبراهيم وبالحب أوجدتك وعندما سقطت خاطئًا بالحب افتديتك وضممتك إلى صدري غير حاسب عليك أي شيء من الخطايا أو العيوب.

 

كان بودي أن أجامل الناس جميعًا ويتسع صدري لكل عقائدهم من مسلمين وبوذيين ولكن الله محبة هي آية مسيحية صرفة تصف إله الإنجيل حصرًا وقصرًا. فكرة الله محبة غير موجودة في القرآن ولا تمت للروح الإسلامية بأية صلة لأن الله يحب في الإسلام ولكنه حب مشروط كما قلنا. الناس يفجرون الكنائس لافتقارهم إلى المحبة، وفاقد الشيء لا يعطيه. من دخلت محبة الله قلبه لا يقوم بتقسيم الناس تقسيمًا طائفيا فيقول هذا مسلم وذاك ملحد إلخ بل من دخلت محبة الله قلبه يكون لسان حاله مثل الآب السماوي والذي يشرق بشمسه يوميًا على جميع الخلائق من دون أن يسأل عن دين هذا أو ذاك بل هو عطاء موصول للجميع.

 

إله الإنجيل لا يعرف الفتن الطائفية ولا يمكن أن نتجاسر في أن نطلب منه أن يحترس في مسألة الفتنة الطائفية لأن هذا ليس واردًا من الأساس في حساباته كأب للخليقة كلها حيث دعانا المسيح إليه موضحًا "لكي تكونوا ابناء ابيكم الذي في السموات.فانه يشرق شمسه على الاشرار والصالحين ويمطر على الابرار والظالمين." (إنجيل متى ٥: ٤٥). هذه هي المحبة المسيحية، وإله الإنجيل يحب الجميع، وبحسب الإنجيل، يضم المسلمين والمسيحيين إلى صدره الحنوان على حد سواء لأنهم ببساطة ذريته (أعمال ١٧: ٢٨).

 

عندما يقول لك المسيحي إن الله يحبك فهذا الكلام معناه أنك مقبول تمام القبول من الله بما أنت فيه وعلى ما أنت عليه الآن. قبوله ليس مشروطًا بما يجب أن تكون عليه لأن الواقع في حياتي يقول إني لست أبدًا على ما يجب أن أكون عليه بل حياتي كلها منعطفات وتعاريج؛ ومن ثم جاء القبول لي بما أن عليه الآن في الوقت الحاضر. لست واحدًا من عبيد الرحمن بل أنا وأنتَ وأنتِ.. ابن له ويشغله أمرنا بصورة شخصية ومن ثم قال في كتابه: "هوذا على كفي نقشتك" (إشعيا ٤٩: ١٦). الجميل هو أن ربنا لا ينظر إلى يديه إلا ورأني؛ وعندها يراني كما أنا وعلى طبيعتي. قال القديس أغسطينوس: إن الصديق هو شخص يعرف كل شيء عنك ومع ذلك يقبلك. كلنا نحلم بأن نقابل صديق أو حبيب نظهر فيه أمامه أو أمامها ونحن في تمام عفويتنا دون أن يسجل أحد لنا الأخطاء ويرصدها علينا. أكثر شيء يعجبني في صديقي جورج بباوي أني أتكلم أمامه في عفوية تامة وهو أيضا كذلك. قد ننفعل. قد نقول ما نقول ولكن لا أحد يحاسبنا وكأنه شرطي علينا يقول لنا قل هذا ولا تقل ذاك. الصداقة هنا تعني الحرية، والحب يعني الحرية كذلك. وإنْ كان هذا هو الحال بين الناس الضعاف فما بالك بإله الإنجيل والذي هو الحب كله والحرية كلها ولا يترصد بأحد في حين إله القرآن يقف للناس بالمرصاد والقرآن يقول: "إن ربك لبالمرصاد" (الفجر آية ١٤). عندما كنت في الصف الثاني الإعدادي كنت قد حفظت سورة ق كاملة وأرعبني ما فيها من ما نسبه القرآن عن الله: "يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ" (سورة ق آية ٣٠). الله في الإسلام عنده تعطش سادي للتعذيب كما ترون! وعلى العكس من ذلك، فإنَّ إله الإنجيل ينظر لعيوبنا ويبتسم لأنه لا شيء في طبيعتنا الترابية يفاجئه أو غريب عليه لأنه ببساطة يعرف جبلتنا الترابية (مزمور ١٠٣: ١٤).

 

والمسيح، إنسان من لحم ودم مثلنا، هو نموذجنا الحيّ. عاش المسيح حياته في كنف الآب فكان الآب يملأ كل حياته. ولذا ففي كل أمور حياته  كانت نظرته إلى الله على أنه أب لا مراقب أو "غفير واقف على راسه بالمرصاد" (برجاء مراجعة متى ٦: ٢٥- ٣١). إنه أب يحب ويرعى الاحتياجات رعاية أبوية حانية لا مثيل لها.  بل لأنه إله المحبة في الإنجيل فحبه لي يعني أنه يسترني ويستر عيوبي وهذا الستر هو تحديدًا ما تعنيه كلمة كفارة العبرانية في الكتاب المقدس. يكفّر عن سيئاتي כפר أي يسترها، والمسيح، ذبيحة الحب الإلهي، يكفّر عن سيئاتي ويسترها. وصف الإنجيل هذا الستر بالحب فقال: "المحبة تستر كثرة من الخطايا" (١ بطرس ٤: ٨). كلما نظر ربي لي انشرح صدره وفرح بي وقال لي ولغيري ممن تجاوبوا مع حبه الأزلي: "كلك جميل يا حبيبتي؛ ليس فيك عيبة" (نشيد الأناشيد ٤: ٧). وأين هذا من ذهنية الملكين واحد على كتفي اليمين والثاني على كتفي الشمال، هذا يسجل الحسنات وذاك يسجل السيئات، كما هو في الإسلام؟ ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد. هذا لسان حال القرآن أمام زلاتي وهفواتي. أين هذا من إله يسترني بكفارته ولا يسجل علي الذنوب والخطايا؟ سبب انغماسنا في الذنوب والخطايا هو الشعور الدائم بالخجل وذهنية العار. سجن مقيت فيه الشعور بالذنب يكبل الإنسان. الإنسان منا بحاجة للقبول والحب والحرية حتى ما ينتعش ويبدع ويصنع العجائب في حياته هنا على الأرض.

 

لكي يتحقق الإيمان بالله "الذي يحبني" فلابد أولاً من أن يتحقق "لقاء شخصي" معه وليس مجرد "اعتناق عقيدة" بها رصف لأفكار دينية عقائدية مجرّدة كالتوحيد والصلاة والزكاة إلخ. جردة العقائد الدينية هذه لا تكفل حدوث لقاء شخصي بيني وبين الإله الذي أعبده وأحبه وإلا فأنا أهوي دون أن أدري في فخ الدوغمائية الدينية. والمسيح ما دعا الناس لاتباعه واعتناق عقيدة بل هو قال "من أراد أن يكون لي تلميذًا" وأيضًا قال "من أراد أن يتبعني". لكل فيلسوف مشهور أتباع وتلاميذ، فهؤلاء تلاميذ سقراط وأولئك تلاميذ أرسطو وهؤلاء تلاميذ أفلاطون وهلم جرًا. لكن ما ينفرد به المسيح في وجود أتباع له هو أن التبعية لا تقوم على أساس العقيدة أو التعليم الذي يروِّج له أو مجموعة الأفكار وإنما التبعية للمسيح هنا قائمة على أساس الشخص "شخص المسيح". فالمسيح لا يمثل عقيدة يعلمها أو دينًا يذود عنه بل العقيدة هي تفسير لشخصه وفي شخصه هو نفهم كل ما تنطوي عليه المسيحية. البداية هي شخص المسيح وموقفي من هذا الشخص وليست أبدًا ديانة نعتنقها أو لا نعتنقها كما يظن كثير من المسلمين. وعليه، فقصة تنصيري من الإسلام يمكن اختصارها تجاوزًا في عبارة واحدة: المسيح قال لي "اتبعني" وأمام حبه تجاوبت أنا إبراهيم عرفات وتبعته. وما يتبع ذلك فهي تفاصيل ودقائق تخصه وتخصني مع مسيحي، ولكن الجوهري والأساسي هو أنه يناديني وأنا أتبعه مستجيبًا لحبه. في المسيح، ألتقي بإله شخصي ولست متعبدًا لقوة ميتافيزيقية مجردة في الكون. هذا الإله الشخصي ناداه المسيح بصفة "الأب" وقد شجعنا نحن كذلك أن نناديه بصفة "الأب" مثلما ناداه. يا ربُ، أبي أنتَ. يا ربُ، أنت آبا، أبويا الحنون ولا مثيل لك. أنت إلهي الشخصي الحي. أقبل حبك. أنت لي وأنا لك. أنت يا ربُ قد بادئتني بالحب واقتحمت عليّ فراغي وعزلتي وأوحيت لي عن ذاتك بذاتك عندما نطقت في المسيح "نطق الله" فكان هذا أعلى ما يصل إليه وحيك الإلهي.

 

نعم، هذه المحبة الإلهية ليست جردة عقائد بل هي كالماء الساخن في ليالي الشتاء القارسة البرودة والذي ينزع عني قشعريرة البرد. الله يعلم مدى حاجتي للشمس لتسري بأشعتها في أوصالي فأشعر بالدفء كمن يحتضنني. وتلك هي أشعة المحبة الإلهية كذلك. إنها ليست قناعات إيمانية كما يظنوا بل هي أكبر من كل هذا بل هي مسيح قال لي عنه عمي اسحق (ذاك القبطي العجوز وياله من قديس!!): "اجمد فيه وهو هايجمد فيك". نحن نمسك بكل قوانا و"نجمد" بشخص وليس بمجموعة أفكار دينية. ويظل عمي إسحق ساكنًا بذكرى مطوّبة للأبد في أحشاء نفسي هاتفًا في أذني ورابتًا على يدي كل حين: "اجمد فيه وهو هايجمد فيك". كنت هذه أجمل عظة مسيحية سمعتها في تاريخ حياتي منذ أن آمنت بالمسيحية في عام ١٩٨٧ وعلى مدار الأربعة وعشرين سنة التي عشتها في المسيحية منذ ذلك الوقت. عمي اسحق، كم أفتقدك بدموع!

 

هل فعلا تشعر بدفء الله يملأ كيانك بسبب عناقه لك؟ هل حضنك الله؟ هل عانقت ربك؟ هل فعلا لمست حبه وهل تلامس هذا الحب مع أعماق باطنك أم أن "حب الله" مجرد معلومة صوفية جميلة تنتشي بالحديث الديني عنها؟ عندما أتلامس مع حب الله في باطني أقدر أن أهتف في داخلي بفرح: "الرب راعيّ فلا يعوزني شيء." "إن أبي وأمي قد تركاني والرب يضمني إليه." هو يملأني ويكفيني ويغنيني.

 

أي حبيب هو ربي فليس مثله من حبيبٍ

يملأني يفيض في كياني ومع حبه لا أخشاه أو الرقيب!

 

كثيرًا ما نحض الناس على أن يحبوا الله ويخلصوا له وأن يفعلوا هذا ولا يفعلوا ذاك حتى يصبحوا في عداد الأتقياء. ولكن في الإنجيل، يأتي الأمر معكوسًا إذ هنا الله هو الذي يحب الإنسان وهو الذي يبدأ بالحب دون انتظار شيء من الإنسان أو يحبه في مقابل شيء. لا يريد الله من الإنسان أي مقابل. الله يحب لأنه لا يسعه سوى أن يحب تماما مثل الشمس التي لا يسعها سوى أن تشرق على الجميع وتدفئهم ودون مقابل. منذ مهد التاريخ وحتى زماننا هذا الآن، يبدأ الله بالحب. الله ينحني على الإنسان ويقبله قُبلة الحب، قُبلة النعمة. يقول الإنجيل: "في هذا هي المحبة: ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا" (١ يوحنا ٤: ١٠) ثم يوضح الأمر بأكثر تحديد بآية لاحقة: " نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا" (١ يوحنا ٤: ١٩). قد نُعجب بشخص ما ونستلطفه فنحبه بنسبة ٩٠ في المائة ثم يفتر حماسنا مع الوقت تجاه هذا الشخص لأي سبب من الأسباب ونحبه بنسبة ٥٠ في المائة (نحبه نُص نُص، كما نقول بالعامية). مع الله الأمر يختلف تماما. عندما يحبني الله فهذا ليس مجرد "استلطاف" بل حبه ثابت ولا يتزعزع ولا يتأثر بأي عوامل خارجية. إنَّ حبه غير متوقف على شخصيتي أو على تصرفاتي ولكن على طبيعته المحبة والتي تتصف بالديمومة والرسوخ والثبات ولذلك وصف الكتاب المقدس الله على أنه "صخر" إشارةً في هذا إلى الثبات وعدم التقلب أو التغير بحكم الظروف. الله في الإنجيل يحب الإنسان مائة بالمئة وهو في عمق خطاياه ويحبه بنسبة مائة في المائة وهو أقدس الأبرار كذلك. محبة الله للإنسان لا تخضع للمزاجية أو تتوقف على صلاح الإنسان أو ضلاله.

 

عندما يحبني الله فهو يحبني بكل كيانه ويتجه نحوي أنا بكل كيانه وينحني علي ويضمني إليه إذ تحن أحشائه إليّ أنا (إرميا ٣١: ١٨- ٢٠).

عندما يحبني الله فهو لا ينظر إلي من علياء سمائه بل ينزل تماما إلى مستواي. يكلمني في إنسانيته، نعم إنسانية إلهي التي أتلامس معها في المسيح أيقونة الله الآب.  وفي تلامسي مع إنسانيته الإلهية أكتسب من الله ما له، ما يخصه، وبهذا تصل إنسانيتي لأعلى درجة ممكنة من الرقي الإنساني. إنه يشركني في حياته الإلهية ويقضي على العزلة في حياتي. هل تحلم بأن تكون إنسان حضاري؟ نقول عن فلان ما أحلاه فكله إنسانية وإنسانيته لا مثيل لها. من أدراك؛ فلربما كانت هذه الإنسانية الراقية التي يتحلى بها هي نتيجة أنه قد استقبل الحب الإلهي بتمامه في كيانه؟ إنه التلامس بين الله الحبيب والإنسان المحبوب. صرت أُحَب وهدف حبه. كوني أستقبل حب مقداره هذا في كياني، هل تغيرت؟ هل أحب نفسي وأقبلها مثلما يفعل ربي معي أم أني جلاد لذاتي كثير النقد والسلبية المريرة؟

 

اسمح لنفسك بأن تُحَب؛ واعط نفسك مجالاً أن تُحـَب. استقبل الحب. عند الله، كونك تُحـَب أهم لديه بكثير من أنك تُحِب وتفعل كذا وكذا كي ترضيه إذ لست واحدًا من عبيد الله كما هو في الإسلام. لابد لحبه أن يكون له تأثير عميق في نفسي أولاً فيشكلني ويصوغني ثم بعد ذلك فقط ينتقل مني هذا الحب بشكل عفوي للآخرين. لا نريد لحبنا لله أو الآخرين أن يتم بشكل ميكانيكي آلي في صورة أوامر ونواهي؛ فما هذه هي المسيحية أبدًا. يفيض الحب مني للآخرين بعد أن يفيض حب الله بالكامل دافقًا في قلبي. كيف أقدم الحب للآخرين وأنا لم أستقبله من مصدره الأصلي وهو الله؟

 

لا تنشغل بخطاياك الكثيرة فيكون هنا تركيزك على الضعف والعيوب في حياتك وإنما لتنشغل بالأحرى بقوة الله والتي هي قادرة أن تنتشلك من وهدة الضعف الإنساني. انشغل بمحبة الله لا ضعفك. كن على يقين أن محبته لك تستر كثرة من الخطايا. ليكن تركيزك على حبه هو لا على ضعفك أنت. تأمل كم أنت محبوبًا من الله حبًا لا يقف عندي أي حد أو شرط ولا يكن تركيزك أبدًا على الضعف أو النقائص أو العيوب في حياتك. وحده الحب سيقتادك لتغيير الاتجاه أو ما قد نسميه بالتوبة. الحسرة وجلد الذات لا يقودانك إلى التوبة بل إلى كراهية ذاتك والسلبية والاكتئاب ثم تنزلق دون أن تشعر في خطايا أكبر وتتفاقم المشكلة. الحرمان من الحب سيجعلنا ميالين للانتقاد والمرارة وصغر النفس والإعابة في الآخرين. الحب بخلاف ذلك يجعل النفس كبيرة وتلتمس العفو والأعذار لجميع الناس في شفقة وحنان إلى مالا نهاية. تلك هي ما نسميه بحياة النعمة المسيحية.

 

من أكثر ما يجذبني إلى المسيحية هو أني أبصر الله وهو يتطلع في وجهي ويقول لي: أنت إبراهيم عرفات وأحبك كما أنت بكل ما فيك من عيوب ونقائص تخجل منها أمامي. أحبك يا إبراهيم كفرد بذاتك لا كـ "عبد" يُضاف إلى قطيع اسمه "الأمة". أنت الفرد هو ما يهمني ولك كل حبيّ بالكامل. أنت فرد ومن ثم فأنت فريد متفرد بذاتك تماما مثل بصمات اليد والتي لا تشبه البصمة الواحدة منها الأخرى. بحبك لي يا رب جعلتني شخصية محبوبة إذ وضعت صفاتك فيّ. كان لابد أن أن أُحَب أنا أولاً قبل أن أحب الآخرين. بفيضان حبك في قلبي يفيض الجمال في نفسي إذ أن أي جمال في الوجود يعود إليك وحدك لأنك الأصل والمنبع لكل شيء. وكما يُلاشي النور الظلام فهكذا الله يُلاشي بجماله أي قُبح من نفسي. لننشغل بالجمال لا بالقبح. وبالجمال سوف يخلص العالم من كل ما فيه من قبح كما يقول دستوفسكي. عندما أستقبل حب الله ويتغلغل في نفسي فهو يطهرني من أدران نفسي؛ إذ لا يتم التغيير بمجموعة من العقائد الدينية البراقة أو الصارمة وإنما وحده الحب يطهِّر نفسي والصرامة تنشيء كائنات معقدة نفسيًا. كل المطلوب هو أن أستقبل هذا الحب الأول أي الله الذي هو حب في المسيح وعندها تحدث أعظم ثورة في تاريخ حياتي: ثورة الحب. حب المسيح سوف يثور في نفسي ويقلبها رأسًا على عقب ولن أكن كما كنت من قبل لأني سوف أصبح محبوبًا وأستشعر هذا الحب في قلبي وعقلي وعواطفي ومن ثم تكون لي شخصية محبوبة ينجذب إليها الناس. الحب واحد من الأساس ويتفاوت في دفقه بدرجات مختلفة ولكنه سواء كان حب جنسي أو حب أفلاطوني أو حب أخوي فمصدره الإله الخالق ويأتي منه مباشرة إذ لا سبيل لنا لتجزئة الحب بل الحب في أصله واحد. نعم، الله يحب الإنسان في الإسلام ولكنه حب متوقف على مدى صلاح العابد بينما في المسيحية الله يحبني وأنا خاطيء. في الإسلام، الله يحب حب مشروط ولكن في المسيحية الله يحب حب بلا شروط إذ هو يحبنا ونحن بعد خطاة ولا نزال خطاة مع فارق أننا نال الرضى منه بالتصالح معه والانسجام مع إرادته  فتكون طريقه هي طريقنا وسبيله هي سبيلنا فننعم بصحبته في دربه.

 

 

تسرني مراسلتكم على بريدي الآتي:

 

timothyinchrist@gmail.com

 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط