جوزيف بشارة / Oct 18, 2008

في مجتمعاتنا التي ابتليت بالتخلف تهدر حقوق الإنسان وتختفي الحريات العامة وتستباح دماء الأقليات وتهدر كرامة الضعفاء وتزداد تعاسة الفقراء. وفي مجتمعاتنا التي انكسرت أمام التطرف الديني يغيب التسامح وتستفحل الكراهية وتنتفي الوحدة الوطنية وتقمع الأغلبية الأقليات الصغيرة التي لا حول لها ولا قوة. وفي مجتمعاتنا التي تغلغل فيها الإرهاب الأحمق يفقد الأبرياء أرواحهم ويسقطون شهداء لعقائدهم التي آمنوا وتمسكوا بها. وفي مجتمعاتنا التي غيب عقولها الجهل بات الحاضر عصيباً والمستقبل مظلماً وأصبحنا نذرف الدموع أنهاراً على الماضي الذي الأفضل حالاً والأكثر تسامحاً. هذا هو حال مجتمعاتنا المخزي، لا حقوق ولا حريات ولا احترام للأقليات ولا كرامة للضعفاء، ولعل الاضطهاد الذي تتعرض له الأقلية المسيحية في العراق والذي لم يسبق أن تعرضت له جماعة بسبب عقيدتها في العصر الحديث هو انعكاس دقيق للحال المتردي مجتمعاتنا.

 

لم يعان المسيحيون، العنصر التاريخي والأصيل في العراق، طيلة سنوات الحكم الدكتاتوري لحزب البعث، ولكن مأساتهم بدأت مع حالة الانفلات التي تسبب بها الأمريكيون والحكومة "الديمقراطية" الضعيفة التي فرضوها على مجتمع ما فتىء غراقاً في عالم القبلية والطائفية. والغريب أن أحداً لم يحرك ساكناً لمساعدة المسيحيين في محنتهم. فلا القوات الأمريكية المنتشرة بالعراق مستعدة لبذل الجهود لتوفير الحماية الأمنية اللازمة ربما خوفاً من اتهامها بمحاباة المسيحيين، ولا الحكومة العراقية جاهزة لتقديم أي من أنواع المساعدة، ولا الشعب العراقي المسلم راغب في عزل المتطرفين الذين يرتكبون الجريمة تلو الأخرى بحق المسيحيين.

 

لست أبالغ إذا قلت بأنه كان أجدى بالعراق أن يفخر بأقليته المسيحية بدلاً من أن يضطهدها ويجبرها على مغادرة البلاد. فمسيحيو العراق أخلصوا لوطنهم وقدموا له الغالي والنفيس على مدى الأزمان والعصور. ومسيحيو العراق لم يتنكروا يوماً لبلدهم الذي كانوا يشكلون فيه حجر الأساس. ومسيحيو العراق لم يتحالفوا أبداً مع كل من اتخذ من العراق عدواً. ومسيحيو العراق لم تتلطخ أياديهم بدماء أبناء الوطن كغيرهم، وحتى حين تعرضوا للاضطهاد المنظم والمنتظم من قبل جماعات الإرهاب الأحمق لم يحملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم في وجه الهجمات البربرية التي واجهوها وما زالوا يواجهونها. ومسيحيو العراق لم ينحازوا إلى طرف دون آخر في الحرب الأهلية التي يعرفها العراق في السنوات الخمس الماضية. ومسيحيو العراق لم يشتركوا أبداً في عملية تدمير وتفتيت العراق التي ترتكبها قوى محلية باعت العراق لمصلحة قوى إقليمية معروفة.

 

المسئولية المباشرة لعمليات التطهير العرقي ضد المسيحيين تتحملها جماعات إرهابية تدّعي أنها تتخذ من الإسلام ديناً ومن القرآن دستوراً ومن الرسول زعيماً، وهو الأمر الذي يجب على المسلمين مواجهته من دون مواربة أو هروب من المسئولية في هذه اللحظات المهمة في تاريخنا الإنساني. من المؤسف أن يعلن إرهابيون ارتكابهم أعمالهم غير الإنسانية باسم الله أو باسم الإسلام، ولذلك فإن مسئولية هائلة تقع على عاتق رجال الدين الإسلامي المعتدلين لتبرئة الله والإسلام من الهمجية والبربرية. لكن المحاولات الحالية المبذولة لإخلاء مسئولية الله والإسلام منقوصة وغير مؤثرة لأسباب كثيرة يأتي على رأسها أولاً: تصلب الجماعات المتطرفة وعدم رغبتها في الحوار، وهو ما يجب معالجته بالقوة والحزم، وثانياً: فشل المسلمين المعتدلين في التواصل مع المتطرفين، وهو ما يستدعي مراجعة الخطاب الإسلامي المعتدل في مواجهة التطرف، وثالثاً: وجود نصوص "مقدسة" يعتمدها المتطرفون كمرجع لارتكاب أعمالهم الإرهابية، وهو ما يتطلب مراجعة شاملة لأصول النصوص وتفسيراتها.

 

مسألة النصوص "المقدسة" التي يفسرها كل مسلم بطريقته الخاصة أصبحت من المسائل بالغة الأهمية في وقتنا الراهن، إذ أنها تلعب الدور الأكبر في انتشار الفكر المتطرف والأعمال الإرهابية في كل ركن من أركان العالم. وقد أكد على ذلك الإرهابيون الذين ارتكبوا مذبحة بالي بأندونيسيا قبل ستة أعوام في حوار أجرته معهم شبكة الأخبار الأمريكية "سي إن إن" قبل أيام قليلة. فحين واجه المحاور دان ريفيرز الإرهابي إمام سامودرا بالقول بأن المتطرفين يسيئون إلى الإسلام بارتكابهم أعمالاً إرهابية من دون سند قرآني، فاجأ الإرهابي سامودرا محاوره الغربي بأن اتهمه بعدم فهم أمور الإسلام وبأن اعتبره كافراً. وأشار الإرهابي إلى أنه يفهم صحيح الإسلام الذي ينتمي إليه، وأكد على أن القرآن يدعوه إلى قتل الكفار انتقاماً لدماء المسلمين التي تسفكها القوات الامريكية الكافرة بالاشتراك مع حليفتيها البريطانية والأسترالية.

 

القضية تفرض نفسها بإلحاح هنا لأن الإرهابيين يدّعون أنهم يستندون على نصوص من القرآن والسنة تحتم عليهم الجهاد في سبيل الله عبر التخلص من غير المسلمين وبخاصة المسيحيين الذين يعدون الهدف الأول للإرهابيين. من النصوص القرآنية التي يدّعي الإرهابيون استنادهم عليها ما ورد في سورة التوبة 5 "فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" وما ورد في سورة التوبة 14 "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ" وما ورد في سورة التوبة 29 "قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ." ومن المؤسف أن العلماء المسلمين المعتدلين يتجنبون تماماً مناقشة الإرهابيين وتفنيد دعاواهم، وهو الأمر الذي يفتح المجال أمام تفريخ المزيد من المتطرفين والإرهابيين.

 

من المؤكد أن للمسلمين العراقيين المعتدلين دور مهم في رفع المعاناة عن اخوتهم المسيحيين. وبعيداً عن الحماية الأمنية المفترضة التي يجب أن توفرها الحكومة العراقية وبعيداً عن التضامن الكامل الذي يفترض أن يظهره الشعب العراقي المسلم مع المسيحيين، وبعيداً عن بيانات الاستنكار والتنديد المشكورة ولكنها لا تحل قضية الإرهاب من جذورها، فلعل الدور الأبرز الذي يمكن أن يلعبه المسلمون المعتدلون يتركز في الإفصاح بصوت عال ومن دون خجل أو مواربة عن رؤاهم الإصلاحية وتفسيراتهم المعتدلة للنصوص الدينية التي تتناول أموراً مثيرة للجدل كالجهاد والقتال ضد غير المسلمين بما يتواءم مع العصر وبما يتلاءم مع الحريات العامة وبما يتفق مع مبادئ حقوق الإنسان. ولعل المسلمين يقتدون في ذلك الأمر بالمسيحيين الذين يرون أن الحروب والنزاعات الواردة بالعهد القديم من الكتاب المقدس هي جزء من تاريخ شعب بني إسرائيل، وعلى أنها غير قابلة للتطبيق بعيداً عن هذا السياق.

 

إن عمليات التشريد والتهجير والقتل الجماعي التي يتعرض لها المسيحيون من أبناء العراق في السنوات الأخيرة، والتي ارتفعت وتيرتها في الأيام الأخيرة في الموصل، تحتاج وقفة جريئة وحازمة وحاسمة منا جميعاً للحد من أثارها التدميرية على الوجود المسيحي في بلاد الرافدين. ولعله من المهم التأكيد على أن قضية الإرهاب ستظل تراوح مكانها وستبقى تلقي بظلالها الداكنة على وجه الإنسانية ما لم يظهر رجال دين معروفين بنفوذهم القوي كمفتي السعودية والمرشد الأعلى للثورة في إيران والشيخ القرضاوي في ثياب المعتدلين، وما لم ينقض هؤلاء الأسس التي يبني عليها الإرهابيون تفسيراتهم للنصوص الدينية التي توظف كسند شرعي للعمليات الإرهابية. لم يعد هناك وقت للصمت تجاه الجرائم التي ترتكب بحق المسيحيين في العراق، ولم تعد تجدي المحاولات غير الأمينة لتبرير ما يحدث من تطهير عرقي ومجازر، فالنزيف المسيحي ينبغي أن يتوقف فوراً، والعمليات البربرية التي ترتكب بحق المسيحيين العراقيين يجب على المسلمين المعتدلين جميعاً ومن دون استثناء العمل بجدية وبأمانة ومن دون تردد لإيقافها.

 

وأخيراً ليت المتطرفين المسلمين الذين يسعون لتطهير العراق من الوجود المسيحي يعون أن المسيحيين لا يكنون نحوهم أية ضغينة، وذلك طاعة وتنفيذاً لتعاليم المحبة التي بشر بها السيد المسيح. وليت المسلمين المعتدلين يعون أن المسيحيين العراقيين يستحقون بذل المزيد من الجهود لمساعدتهم في الأوقات الحالكة التي يتعرضون لها. وفي الختام ليت المسيحيين العراقيين الذين فقدوا ذويهم أو طردوا من منازلهم أو سلبت ممتلكاتهم أو احرقت كنائسهم يتذكرون قول السيد المسيح في بشارة يوحنا الأصحاح السادس عشر "سَتُطْرَدُونَ خَارِجَ الْمَجَامِعِ، بَلْ سَيَأْتِي وَقْتٌ يَظُنُّ فِيهِ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُؤَدِّي خِدْمَةً لِلهِ......... أَخْبَرْتُكُمْ بِهَذَا كُلِّهِ لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سَلاَمٌ. فَإِنَّكُمْ فِي الْعَالَمِ سَتُقَاسُونَ الضِّيقَ. وَلكِنْ تَشَجَّعُوا، فَأَنَا قَدِ انْتَصَرْتُ عَلَى الْعَالَمِ."

 

جوزيف بشارة

josephhbishara@hotmail.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط