هشام محمد / May 31, 2007

يحرص كثير من المتدينين على دس أنوفهم الطويلة في أدق التفاصيل، وصغائر الأمور، وتوافه الشؤون.  يتدخل أكثرهم في ماذا تأكل، وماذا تشرب، وماذا تلبس، وماذا تسمع، وماذا تشاهد، وماذا تقرأ، وماذا تكتب، وماذا.. وماذا.. وماذا..

يختلط عند أكثرهم الفتيا في مسائل حيض المرأة وحلق اللحية والتبرك ببول الرسول ورضاعة الكبير وبالخوض في قضايا جوهرية وكبرى تتجاوز تخوم العقل السلفي كالعلاقات الدولية والعولمة والهندسة الوراثية والمنتجات المالية. 

حتى الأسماء التي نمنحها البشر ونصبغها على الأشياء، دائماً ما يتدخلون ليقولوا لنا أي الأسماء حلالاً وأيها حراماً.  حتى الكلمات وهي تنساب بعفوية من الفم أو وهي تسيل على خد الورق صارت طريقاً محفوفةً بالشوك، تكاد كلمة واحدة تلقي بصاحبها في جهنم سبعين خريفاً، هكذا يقولون.  أذكر أستاذاً جامعياً كان يقرأ نصاً في كتاب اقتصادي من تأليفه فوقع على كلمة "يخلق" فكأنما وقفت الكلمة كحجر في حلقه.  نظر إلينا معتذراً: ما كان من الواجب أن أضع هذه الكلمة هنا فالله وحده دون سواه من ينفرد بالخلق وليس البشر" (!)

لا لوم على هذا المسكين، فالزمن كان في أوائل التسعينات الميلادية، حيث كان التيار الصحوي يقتلع في طريقه وبعنف ما تبقى من عقل في هذا المجتمع.  صدقوني.. كلمة واحدة تجعل حياتك في مهب الريح.  من المؤكد أن أحداً لم يسمع أو يتذكر ما حل بمعلق رياضي سعودي قبل حوالي عشرين عاماً.  وصف المعلق الموهبة الكروية مارادونا بأنه "معبود الجماهير". كلمة واحدة يبدو أنها نسفت جهودات محمد بن عبدالوهاب الحثيثة وأتباعه المخلصين في غسل جزيرة العرب مما علق بها من عبادة الأوثان!  صدر حكمٌ بإيقافه عن التعليق لمدة ستة أشهر.  وقيل أن رأسه كانت ستتدحرج ثمناً لزلة لسان، ولكن الله ستر!

سمعت منذ سنوات بأمر عجيب.  لا أعلم حقاً ما إذا كان صدقاً أم كذباً.  غير أني لن استغرب وقوعه فيما لو كان صدقاً.  قيل أن هناك بعض الأسماء التي سيمنع منحها للمواليد الجدد لوجود بعض المحاذير الدينية حسبما تفتق له العقل السلفي.  سمعت أن اسم "إيمان" لا يحظى بقبول ديني.  لماذا؟ ربما لأن بلوغ منتهى الإيمان صعب المنال، خاصة لو تعلق الأمر بأنثى ناقصة عقل ودين!!  سمعت أيضاً أن اسم "خالد" ينطوي على مخالفة للعقيدة.  كيف؟ الخلود هو لله، أما البشر إلى زوال، ولا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام.

أسلمة اللغة مثل أسلمة العلوم والفنون والآداب، كلها مساعي محكوم عليها بالفشل المسبق، وكلها أشبه بمن يحرث الماء عبثاً.  مشكلة المتأسلمين أنهم يعتقدون أن النور والحضارة والتاريخ انبثقت مع ولادة الإسلام، وأن ما قبل الدعوة المحمدية كان العالم حينها سادراً في بحور الجهل والظلام.  لو كان المتأسلمون يملكون شيئاً من التواضع وقدراً من التواصل مع أفكار وحضارات الشعوب القديمة لعلموا أن كثيراً من العادات والمعتقدات التي يؤمن بها مسلمو اليوم وكثيراً من المفردات المستخدمة في لغتنا المكتوبة والمحكية قد تشكلت في رحم أزمنة غابرة حيث سادت فيها عبادة الأوثان قبل أن تشرق عبادة الله في قلب المسلم.  لست مختصاً باللغويات، ولكن هناك قدراً وافراً من أسماء الأفراد والمواقع والأشياء تحمل نقوشاً وثنية، شِئنا أم أبينا.  دعوني التقط (بعضاً) من المفردات التي خرجت بها من قراءة كتاب (المعتقدات الأمورية) للباحث العراقي الدكتور خزعل الماجدي لترى أن هناك تماساً ثقافياً لا يمكن إلغاءه دون أن نلغي أنفسنا من الوجود كله.  تأمل معي تلك التقاطعات اللغوية لتدرك أن لغة (أهل الجنة) مشبعة بكلمات مشتقة من عهود وثنية.

 

تاريخ: يبدو أنها مشتقة من عبادة الإله السامي القديم (يرخ) أو (أرخ)، وهو إله قمري، عبده الأموريون (العموريون).  انزاح هذا الإله إلى جزيرة العرب وعبده العرب حيث كان القمر مصدراً لقياس الزمن بالنسبة للبدو.  ولعلك تلاحظ أن القمر إلى يومنا هذا مازال معتمداً في التقويم الهجري.

 

جبيل: في الأصل جبيل كان إله النار عند العموريين والكنعانيين.  ومن الملاحظ أن هناك بعض التطابق بين أسماء المواقع على امتداد الشريط الساحلي للخليج العربي والشريط الساحلي اللبناني، وهو ما يدعم جزئياً النظرية القائلة بأن الشعب العموري كان يسكن الخليج قبل أن يهاجر إلى بلاد الشام.  ومما هو جدير بالذكر أن هناك تماثلاً بين أسماء المدن هنا وهناك مثل الجبيل (السعودية / لبنان) وصور (عمان / لبنان).

 

سارية: السارية عبارة عن عمود منتصب من الخشب أو الحجر، وترمز لعبادة الإلهة مارتوم (اشراتو) زوجة الإله القومي (مارتو) عند العموريين.  أما كيف تقوم العلاقة بين السارية والإلهة اشراتو، فالسين في كلمة (سارية) تقابل الشين في كلمة (اشراتو) والتاء المربوطة في الكلمة الأولى تقابل المقطع (تو) في الكلمة الأخيرة.    

 

إم: إم هي الإلهة الأم عند العموريين، وهي إلهة الريح والعاصفة الكبرى، وهو ما يتطابق مع البيئة الصحراوية التي اتخذها العموريون سكنى لهم.  وإذا كانت إم هي الإلهة القديمة عند العموريين فقد كانت تسمى مامي (نمو) عند السومريين، غير أنها اتخذت خاصية مائية على اعتبار أن الماء هو بذرة الحياة.  ويبدو أن هناك تشابهاً بين الطفل والإنسان الوثني، فكلمة ماما أول ما ينطق بها لسان الطفل وهي كذلك أول كلمة سماها الإنسان معبوده.  نفس الإلهة الأم الكبرى كانت تسمى تيامة عند البابليين، ولعلك تلاحظ التشابه هنا بين اسم تيامة البابلية وبين تهامة وهي المنطقة الواقعة إلى شرق البحر الأحمر.  وهنا يعتقد الباحث سيد القمني في كتابه القيم (الأسطورة والتراث) أن اسم الشريط الساحلي قد اشتق من اسم الإلهة المائية الكبرى تيامة حيث كان الماء مصدر الحياة والموت في كلٍّ من العراق ومنطقة تهامة.

 

عزيزو ومنعم: عزيزو (أو العزيز) أو (العزى) ومنعم (أو مناة) يشكلان مع إله الحب والجمال والحرب (عشتار) ورمزها كوكب الزهرة ثالوثاً كوكبياً، أو لنقل أن عزيزو ومنعم هما وجهان لعشتار.  عزيزو هو الإله الذي يتقدم الشمس عند مشرقها، أو ما يسمى بنجمة الصباح أو نجمة الغسق، ويسمى عند المصريين ايزيس وعند العرب بالعزى.  أما منعم فهو بدوره نجمة المساء أو ما يقابل غروب الشمس، ويمسى عند المصريين نفتيس وعند العرب مناة.     

 

مر: هو اسم لإله السماء عند العموريين ويناظره (أر) إلهة الأرض عندهم، وكلا الاثنين قد ولد من الإلهة القديمة الأم (إم) من دون مضاجعة جنسية.  ويرى الباحث خزعل الماجدي أن كلمة إمرء في اللغة العربية والتي تدل على الرجل قد نحتت من إله السماء مر.  الأنثى بدورها تسمى امرأة، ويتضح أنها قد اشتقت من اسم الرجل، تماماً كما اشتقت حواء من ضلع آدم في الميثولوجيا التوراتية.

 

القائمة أطول من أن تتسع لها صدر مقالة صغيرة، فكلما أمسكت أصابعك بكلمة، وقلبتها بين يديك، فسوف تجد أنها تحمل بصمات بعضها وثني، وبعضها يهودي، وبعضها مسيحي.  كلمات كثيرة وكثيرة مثل يم، سعد، رياض، رضا، مكة، صلاة، زكاة، طوبى، وغيرها من الكلمات جاءت من روافد بعيدة لتصب في الإسلام.  ماذا يجب أن نفعل هنا؟  هل نحرم تداولها؟  هل نبتكر مفردات جديدة من عندياتنا ونحن الذين لا نبتكر إلا الموت والفناء؟  ماذا عسانا أن نفعل مثلاً بكلمة (بعل) الواردة في القرآن والتي تستخدم لوصف الزوج المتسيد وهي المأخوذة في الأصل من الإله الكنعاني القوي بعل؟  هل نملك القدرة على شطب كل الكلمات ذات الجذور الوثنية ما لم نقم بشطب الدين من أساسه؟  متى يستيقظ المتأسلمون من سكرتهم؟ 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط