هشام محمد / Dec 25, 2008

-1-

يخيل لي أن العقل العربي / الإسلامي مصاب منذ ألف واربعمائة عام ونيف بتشوهات بنيوية عميقة.  عقل تحكمه الانفعالات، وتدغدغه الغرائز.  عقل مولع لا بإضاءة الأسئلة الفلسفية، ولا بتتبع الحقائق بتجرد وموضوعية الباحث النهم، بقدر ما هو مولع بالانغماس في سجالات كلامية واجترار حوارات بيزنطية.  يطلبك أحدهم للحوار، لا لغرض تلاقح فكري بريء، ولا لاكتشاف نقاط التقارب والتباعد بينكما، بل لغرض التحقق من سلامة إيمانك من الخدوش العقائدية، وحصانة عقلك ضد الأفكار الأجنبية.  الحوار مع أي منهم أشبه بجلسات استتابة، يجبرك على الجلوس فيها كي يجلدك حتى يطرد الشيطان الرجيم المقيم في اعماقك، ويردك أيها الضال إلى الصواب، ويعيدك إلى تلك الحضيرة المملوءة بأبقار بشرية لا تكاد تميز أحدها من الآخر.  وياليت هذا المتعطش للحوارات يملك من العلم والثقافة والأدب ولو نزراً يسيراً.  وياليت هذا المتحفز لتلك المنازلات الفكرية يملك قدراً من الشجاعة للوقوف على أفكار جديدة، والانفتاح على ثقافات أخرى.  يخاف أن يمسك بكتاب قد يزرع بذور الشك في داخله، ويعرض اليقينيات الباردة التي شربها منذ الصغر للأسئلة الحارقة.  يخشى أن تمزقه الشكوك، وتطحنه الظنون، فيفقد لذة الخمول، ويخسرهدوء البال.  ما أتعس أن تستهلك قواك، وتهدر طاقتك في الحديث إلى عقل كهذا، عقل متشظي ومبعثر في كل الإتجاهات!

 

 تكشف له عن عواهن الشريعة، فيطعن في العقيدة اليهودية والمسيحية.  تحدثه عن ثقافة حقوق الإنسان، فيذرف دموع التماسيح على القتلى من الهنود الحمر.  تتألم على تلك الأرواح المتلاشية كرماد في تفجير إرهابي، فيبكي على ضحايا الحملات الصلبية.  إن قنابل الدخان التي يرميها هنا وهناك ليست موجهة لك، ولكنها موجهة له، حتى لا يرى في كلامك ما قد يجرح رومانسية الصورة الوردية.  إنه يفر من ذاته قبل أن يفر منك، حتى لا يلحق الأذى بالفكرة المقدسة التي حفرت في لاشعوره منذ نعومة أظافره.  لا يمكن لحوار مع هذا أن تكتمل فصوله، وأن تُستنفَذَ أغراضه، لأنّ الفكرة المقدسة التي ينافح عنها أصلاً قد توقف نموها منذ مئات السنين، منذ أن أجهض مشروع المعتزلة العقلي، وساد الفكر الأشعري.  لن يمضي أي حوار إلى ما هو أبعد من منتصف الطريق حيث سينقطع هناك حبل المقدس.  أما النصف الآخر من الحوار فعليك أن تتحمل نصيبك من الشتائم، وربما عليك أن تستعد لخوض ما يعرف بالمباهلة، كما لو كانت ركلات ترجيحية لحسم المنتصر في حوار الطرشان!     

 

-2-

إحدى المستشفيات الأهلية الشهيرة في الرياض تضرب على زوارها حصاراً دينياً رهيباً.  فجدران الممرات وغرف المرضى وغرف الإنتظار والمصاعد والمكاتب الإدارية مشغولة بالآيات والأحاديث والأدعية والأذكار.  أشعر أني سأخرج كل مرة حاملاً في يدي اليسرى كيس الدواء، وفي يدي اليمنى نخلات، وحور، وولدان، وحسنات من كثرة ما قرأت طوعاً أو كرهاً.  أقف أمام موظف الإستقبال، فأقرأ على الجدار وراءه كلاماً عن الرقية الشرعية (!)  أجلس على كرسي الانتظار، فأمد يدي لأقلب المطبوعات المنثورة على الطاولة فلا أجد غير كتيبات عن الحجاب والنقاب، وتوحيد الألوهية والربوية، وفضل الصيام، وما إلى ذلك.  أعيدها بامتعاض إلى مكانها، وأمد ناظري إلى الشاشة التلفزيونية الكريستالية المثبتة على الجدار، فيعانقني وجه ملتحي في قناة المجد أو منافستها قناة اقرأ.   أكثر ما أضحكني هناك تلك اللوحة الأنيقة عند مدخل قسم الولادة، وجاء فيها: "عن أبن عباس قال: مر عيسى عليه السلام على بقرة قد اعترض ولدها في بطنها، فقالت: يا كلمة الله أدع الله لي أن يخلصني مما أنا فيه، فقال: يا خالق النفس من النفس ويا مخلص النفس من النفس ويا مخرج النفس من النفس خلصها.  قال: فرمت بولدها فإذا هي قائمة تشمه".  من المؤكد أن الكثير من النساء اللاتي يجدن القراءة ستحفظ تلك الكلمات اليسوعية، وسترددها في سرها أكثر من مرة حتى لا يلحقها ما لحق تلك البقرة من الآم، كل هذا دون أدنى ألم بأن كرامتها قد جرحت لتشبيهها بالبقرة!

 

-3-

جاء في الملحق الديني في جريدة الاقتصادية (!) من يوم الجمعة المباركة بتاريخ 19 من ديسمبر من هذا العام جوابٌ شافٍ لفضيلة الشيخ الدكتور إبراهيم الخضيري قاضي محكمة التمييز بالرياض عن حكم الشرع في ما يعرف بالعلاج بالموسيقى.  قال فضيلته "إن علاج الأمراض النفسية هو القرآن الكريم، يقول الله تعالى (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)، ويقول (فيه شفاء للناس) أي فيه علاج لهم، ويكون العلاج أيضاً بالحجامة والكي، وبما دل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة، وبالتجارب الطبية التي أباحها الله، وليس بما حرم الله، أما القول أن الموسيقى علاج نفسي فهو مأخوذ من المدارس الغربية، فالغربيون يستخدمون الموسيقى ليهدئوا جنهم وشياطينهم وليحضروا من شاء منهم ويغيبوا من شاءوا منهم، فيزعمون أنها تحدث لهم نفعاً، وهي ليست كذلك، بل هي مسكنات يعقبها هزات وعواصف وهلاك ودمار.  أما المؤمن فإنما تسكن نفسه وتحصل له الطمأنينة والسكينة بذكر الله، قال الله تعالى (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)..."

 

الآن فقط عرفت أن حالة الوجد والحب التي تجعل من قلبي كوكباً أخضراً يتسع لكل البشر كلما استمعت إلى فيروز وعبدالوهاب وعمر خيرت وياني وسيناترا وموزارت كانت في الأصل مشاعر شيطانية بعد أن حسبتها ملائكية.  والآن فقط فهمت لماذا سلط الله سوط عذابه على بلاد عبدة الصليب وأكلة الخنزير، فأصابهم بالهزات الاقتصادية وبالكوارث الطبيعية وبالأمراض الفتاكة.  سأعتزل الغناء، وسأهجر الموسيقى، وسأقرأ القرآن فقط، وربما سأفكر بجدية في الحجامة والكي إذا استدعى الأمر.  ولكن لدي هنا سؤال هامشي: هل كل سور القرآن الكريم بلا استثناء تدخل الطمأنينة والسكينة إلى القلب؟  بكلمات أخرى، هل تتساوى الآيات التي تتحدث عن التسامح، والقبول بالآخر بالآيات التي تحرض على قتل الكافرين، وتلعن أبا لهب وزوجته حمالة الحطب، وتصف لنا فضائعية عذاب أهل النار؟  أرجو أن يتسع صدر شيخنا الكريم لهذا السؤال كما تتسع صدور مشائخنا لباقي الأسئلة الأخرى عن حكم الاختلاط، وصلاة الحائض، وزكاة الأبل، وحلق اللحى، وتشقير الحواجب، وتهنئة الكفار بأعيادهم، وبلع الريق في نهار رمضان.

affkar_hurra@yahoo.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط