ـ 1 ـ
وقفت بسيارتي انصياعاً لإشارة المرور الحمراء. بجوار الإشارة كانت تنتصب لوحة إعلانية يطل فيها وجه بيله لاعب كرة القدم الأشهر عالمياً وقد فقئت عيناه. لا تستغرب! فهذا تقليد شائع تنفرد به السعودية عموماً ومدن نجد خصوصاً. يد الوهابية المتشنجة لا ترحم عيون الرجال والأطفال والرسوم المتحركة إلا وقد أطفئت بريقها. في البدء خلتُ أن المسألة تتصل بمخاطر الفتنة الجنسية، لكني انصرفت عن هذا الرأي بعدما وجدت عيون الضفدع كامل (إحدى شخصيات برنامج الأطفال افتح يا سمسم) قد سملت بوحشية (!)
أليس محزناً أن ينحدر العقل إلى هذا المستوى المتدني من التفكير؟ لا يدهشني هذا العنت والغباء مادام أن هذا العقل يصر على أن الله يراقب البشر كي يعرف ما إذا دلج المسلم باب الحمام بادئاً برجله اليمنى المباركة أم اليسرى الملعونة. إذا كانوا قد جعلوا الله مهموماً بصغائر الأمور فلا عجب أن يقبع هذا العقل تحت أقبية التفاصيل التافهة. قد تتساءل: لماذا تحجبون عيون صور جامدة لا تنطق ولا تبصر ولا تسمع، بينما تمتلئ المجلات والصحف والكتب بصور لم تقتلع عيونها؟ هذا السؤال يتقاطع مع عبثية وجود الرقيب في عصر تهاوت فيه كل جدران العزلة وأسوار الظلام بعدما صارت اللاقطات الهوائية وأجهزة الحاسبات الآلية تجلب المعلومة والصورة والكلمة من كل بقاع الدنيا البعيدة. لا يملك الوهابي المتزمت تشويه صور الصحف والمجلات لكنه يملك القدرة على العبث بلوحات الإعلانات. لكن يبقى السؤال: لماذا العيون تحديداً وليس الأنف أو الأذنين؟ اعرف أن الوهابية يستفزها التصوير لإنها تراه تحدياً لقدرة الخالق واقتراباً من تخوم عبادة الأصنام المحظورة. سؤال ذو أبعاد تاريخية وفقهية وجمالية لا أعتقد أني مؤهل للإجابة عليه. أتذكر أننا في المدارس ومع تعالي الضجيج الديني في الثمانينات صار بعض أساتذة التربية الفنية يطلبون من التلاميذ قطع أعناق الشخصيات المرسومة حتى لا نقع في شراك الشرك بالله. لكننا هنا أمام عينين وليس رقبة... فهل صارت العيون مستودع الروح حتى نزهقها كي لا نتحدى قدرات الله؟ في كل مرة أشاهد تلك العيون المطموسة استدعي من الذاكرة صور التعذيب في القرون الوسطى حيث كان المسلمون وغيرهم من الشعوب يمارسون سمل عيون خصومهم، وكأن الوهابيون مازالوا أوفياء لتقليد بربري غابر. أضف إلى ذلك، أن العيون هي أجمل ما في الوجه، غير أن الوهابيين لا يحبون الجمال وينفرون منه باتجاه القبح.
ـ 2 ـ
توقفت أمام محل خياطة رجالي. واجهات المحل الزجاجية كانت تضج بملصقات كبيرة من بقايا رماد حرب المسلمين ضد الرسوم الدنماركية. كانت الملصقات تصرخ بصوت عالي... نحري ولا نحرك يا رسول الله... عرضي ولا عرضك يا رسول الله... بأبي وأمي أنت يا رسول الله... قاطعوا عبدة الخنزير والصليب. هل إعلان الولاء للنبي محمد مرهون بهدر العرض والنحر والتخلي عن الأم والأب؟ اجتزت باب المحل المشتعل بحريق أمة محمد إلى الداخل. بينما كان العامل يأخذ قياسات الثوب لاحت بالصدفة مني نظرة إلى إحدى زوايا المحل وقد علتها لوحتان: الأولى، تحمل حديثاً يبشر من يطيل رداءه بمقعد دائم في نار جهنم، والثانية، تحمل حديثاً يضع فيه مسبل الثوب (أطول من الكعبين) ضمن ثلاث فئات من البشر لن تحظى بنظرة من الله يوم القيامة. ألتفت للعامل المنهمك بأخذ القياسات متسائلاً: لماذا تقطع لي تذكرة إلى نار جهنم؟ لماذا لم تقم بدورك كمسلم يخاف على أخيه المسلم وتنصحني بألا أطيل ثوبي حتى لا أكب على وجهي في النار اللاهبة؟ تبسم العامل الذي بدا وكأنه يعاني كثيراً ليترك لحيته تنمو حسب المقاييس الوهابية بلا طائل دون أن ينبس بحرف.
مع مغيب شمس الرياض الحارقة، كان صوت منارات المساجد المتزاحمة يثقب جسد الفضاء منادياً للصلاة. خرجت من المحل لأشهد سيارة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنهب الطريق، وأحد الراكبين ينادي بمكبر الصوت... الصلاة يا أخوان الصلااااااااة. ألا يكفي نداء المساجد؟ ألا يكفي صوت الإيمان والتصديق في القلوب؟ كم يحب رجل الهيئة أخاه المسلم لدرجة جره ولو بالسلاسل إلى الجنة (!)
ـ 3 ـ
مرة أخرى وعند إشارة المرور الحمراء كانت تقف سيارة كتب على زجاجها الخلفي: "صلي مع الجماعة قبل أن تصلي عليك الجماعة". الشوارع والإشارات والسيارات والكباري تغزوها الموجة الوهابية العاتية. لم يشأ المتدينون أن يتركوا دقائق قليلة من الانتظار أمام إشارات المرور دون أن تفوت فرصةً لفرك أذن المسلم اللاهي والعاصي. لم يشأ المتدينون أن يتركوا دقائق معدودة ينفرد بها شباب متسكع يصطادوا الفتيات بتقنية "البلو توث". الحضور الوهابي معبأ برائحة الموت وكوابيس القبور. هكذا هو الوهابي لا يملك إلا الموت والقبر والجحيم كأدوات يستدرج بها الخائفين من مفاجآت عزرائيل إلى دائرته. إننا أمام شبكة أخطبوطية مرعبة تصل أذرعتها إلى كل سنتيمتر مربع في هذه البلاد. آيات وأحاديث وأدعية وأذكار وفتاوى تطفح كالبثور على أعمدة النور والجسور والجدران والمصاعد وفي صالات الانتظار في المستشفيات والدوائر الحكومية وحتى محلات الحلاقة. عجباً لهذا الوهابي الحريص على استثمار فتافيت الزمن ولكن ليس من أجل حياة أفضل بل من أجل اعمار الآخرة! وللأمانة، فإن الوهابي المهووس بالموت وعذاب القبر والثعبان الأقرع لا ينسى أن ينثر حلوى الجنة على رؤوس الناس، تطبيقاً لسياسة العصا والجزرة. إذ كثيراً ما تقع العين على الدعاء التالي: "سبحان الله بحمده، سبحان الله العظيم". يقال أن من يذكر تلك الكلمات ثلاثاً تزرع له نخلة من ذهب في الجنة (!) فيا لها من علاقة نفعية بين المسلم وربه! حسناً، ماذا لو كنت تفضل الألماس على الذهب؟ وماذا لو كنت تفضل قراءة كتاب أو سماع مقطوعة موسيقية على نخلة من ذهب؟ هل نملك الحق على المطالبة بتغيير الهدايا الإلهية بعد أكثر من أربعة عشر قرناً من الإعلان عنها؟ سؤال لا نجرؤ على طرحه ليس خوفاً من أن يستشيط الله بل خوفاً من العصا الوهابية الغليظة.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط