الساعون إلى صناعة الحياة المفعمة بالفتنة والدهشة والجمال والألق والبهجة على امتداد الأزمنة، هم في الأساس إنسانيون في المعنى العميق للإنسانية الخلاقة، تجمعهم قيم الجمال والإبداع والتطور، ويجمعهم أبداً ميراث الإنسانية في الأخلاق والحرية والحب والسعادة، وتدفع بهم إلى اجتراح كل ذلك قيم الحرية الإنسانية، الحرية التي كانت ولم تزل الأصل الجوهري والفلسفي في تقدم الفكر الإنساني الإبداعي..
لقد أسَّسَ الإنسانيون للحرية طريقاً يصل بالإنسان إلى مستويات تتخلق بوعي الذات، تتمثل في فكره وتطلعاته وتعالقاته وأنماط حياته، ولم تكن الحرية إلا انعكاساً واعياً وعقلانياً لمدى إدراكه لحقيقة أن يكون نفسه، متماهياً بتصميم وتوثب خلاق ومبدع مع ما يريد أن يكون من خلال ذاته، ومنسجماً مع ما يفكر ويتمنى ويتطلع أن يكون، فالإنساني يرى في الحرية مناخاً، يستدعيه من أعماقهِ ويصنعه في ذاته، ويستوطنه عميقاً، مُعززاً به إدراكه المتفرد لماهية وجوده، ومستنطقاً به جمالاً داخلياً يجده يتجذر في كيانه وعقله وقراره ووعيه وضميره..
وكان أن دعا الإنسانيون إلى تبني الحرية فكراً أصيلاً، يوجده الإنسان في كيانه مطلباً ذاتياً ومنطلقاً ثقافياً، محققاً به وجوده الذاتي الفعلي، يعكس في أصله الجوهري جمالية ذاته المفكرة والواعية والمبدعة والحرة، فالأصل أن يكون الإنسان إنساناً حراً، لا تلتهمه الأدلجات، ولا تستعبده الأديان، ولا تتغول عليهِ المعتقدات، ولا تستبيح وجوده النظريات والشعارات، ولا تؤطره المرجعيات الثقافية السائدة، ولا تستبد به الأوهام، لأنه يعي اشتراطات حريته الداخلية، الحرية المسؤولة التي تعني في أحد جوانبها الأساسية الوعي بالذات، مدركاً بها قدراته الذاتية التواصلية في إنجاز ما يريد، وفي إبداع ما يحققه على مستويات الفعل الأخلاقي والثقافي والمعرفي..
وانطلاقاً من هذه التأسيسيّة الذاتية الفكرية الواعية للحرية في الذات الإنسانية، يسعى الإنسانيون نحو التأكيد على قيم الحرية، كأساس جوهري لصناعة الحياة الواقعية، الملهمة للإبداع والتألق، والدافعة للإنجاز والتغيير والتطور، ومفاهيم الحرية في الفكر الإنساني تعني أن يتمتع الإنسان بدايةً بحرية الاختيار، وتعتبر هذه الحرية من أقدس حقوقه الإنسانية في الحياة، بمعنى أن يكون حراً في اختيار ما يناسبه من طريقة في الحياة، واختيار الأسلوب الذي يريد، واختيار النمط الحياتي الذي يجد نفسه فيه، ولا يعني ذلك تشريعاً للهمجية أو العشوائية أو العنف أو العدائية في السلوك والفكر، فحرية الاختيار لا تعني تبريراً للفوضى والتخريب والعبث واللاأخلاق، بل تعني أساساً حراً ينطلق منه الإنسان نحو آفاق يجترحها بمحض إرادته ورغبته وميوله، وفي مقابل ذلك يؤمن الإنسانيون بالتسامح مع اختيارات الآخرين لأنماطهم الحياتية، ولكن لا يعني ذلك في الوقت نفسه تأييدها أو الدعوة إليها، فحرية الاختيار هي أيضاً مقدار ما يبديه الإنسان من تسامح مع اختيارات الآخرين، وليس بالضرروة الاتفاق عليها أو التوافق معها، أو تأييدها أو الانحياز إليها..
وإلى ذلك نجد هناك حرية التعبير والفكر في فكر الإنسانيين، حيث تعتبر تجسيداً فعلياً لجوهر الوجود الإنساني الأعلى، إنها نزعة الإنسان الأبدية في التأكيد على وجوده الذاتي الإنتاجي في ميادين المعرفة والعلم والفن والثقافة والأدب، إنه الإنسان الذي يريد أن يقول كثيراً وينتجُ إبداعاً ويعبّرُ عميقاً عن مكنونات ذاته الحرة، ولا يستطيع أن يجد نفسه واقعاً تحت القمع والاستلاب والقهر، إنه يسعى حثيثاً، حيث الحرية في التعبير والفكر هي استجلاء فاتن لحقه الإنساني في التجربة والطموح والإنجاز والتغيير، ومؤمناً في الوقت نفسه بالتعددية الثقافية والفكرية، لأنه يجدها أساساً تدعو إليه حرية التعبير والفكر، فالحياة في نظر الإنسانيين لا يمكن حصرها في اتجاه أحادي، بل تعني في الأصل التنوع والاختلاف وتقوم على ذلك، والتسامح مع ما تظهره الحياة من تنوع واختلاف، ولذلك تبقى مهمة الإنساني أن يدافع عن حق الإنسان في الاختلاف والتنوع، وحقه في حرية التعبير والفكر، ولكن في مقابل ذلك يبقى الإنساني مناهضاً للثقافات الهادمة للذات والقامعة للعقل والرافضة للإبداع، ومناهضاً صلباً للثقافات العدائية والتسلطية والإرهابية والاستلابية والقمعية والعنصرية..
ويعمل الإنسانيون دائماً على تبني الحداثة الفكرية التي تعني الامتزاج الثقافي الكوني، انطلاقاً جوهرياً من حق الإنسان في حرية التعبير والفكر، فبقدر ما يكون الإنسان حراً في التعبير والرأي والفكر، يكون مساهماً فعالاً في ترسيخ قيم الثقافة الكونية، إنه يجد نفسه في الآخر، الآخر الذي يشاركه ويتشارك معه في صناعة الحياة الحرة والنظيفة والفاتنة..
ومن الحريات التي يبقى الإنسانيون يدافعون عنها تأكيداً وتثبيتاً لحق الإنسان في الفعل الحياتي والوجودي والابتكاري، هي حرية التفكير التساؤلي، إنها بعبارة أخرى الاستخدام الحر للعقل كما عبر عنها الفيلسوف الإنساني كانط في الدفاع عن حق الإنسان الأصيل في التفكير باستخدام عقله الحر، والذي يعني في الأساس استخداماً يستنهض فيه قدراته الذاتية للتخلص من هيمنة الوصايات الثقافية المسبقة والذهنيات الجاهزة والمنقولات المعلبة واليقينيات الاطلاقية والمألوفات التفسيرية السائدة، ويؤكد الإنسانيون في الاتجاه نفسه على الواقعية التفكيرية سبيلاً نقدياً وتساؤلياً للتحرر من ثقافة الغيبيات والماورائيات، تلك التي تسلب العقل الإنساني حريته وحيويته وفاعليته واندفاعاته ومغامراته في البحث والتفكير والسؤال والنقد والتقصي، إنها الحرية التي تدفع بالإنساني إلى رفض الأدلجة والثقافة الغيبية المعيقة للتفكير الحر وحرية التفكير، إنها الحرية التي تعلي من شأن الذات المفكرة احتراماً لانتهاجها قانون التفكير والتساؤل والنقد..
ويؤمن الإنسانيون دائماً بأن الإنسان عليه أن يكون صانعاً لكيانه ووجوده وفعله الثقافي والإبداعي، ولا يتوفر ذلك إلا من خلال التأسيس لحرية الإرادة، والتي تعني في الأساس مواجهة كافة أشكال القهر والاستلاب والجبر، وتعني التحرر من الاعتقادات والهيمنات الأيديولوجية الدينية والقومية والماضوية، وتعني أيضاً حق الإنسان الذاتي في صناعة قراره، إنه الحق الذي يخلقه إنساناً حراً في إرادته، مستوعباً لفعله الإرادي الذاتي، إنه في هذه الحالة ينتصر لعقله الإرادي ولإرادته العاقلة في تحقيق رغباته الذاتية، وصناعة تفكيره الحر، دفاعاً عن حقه الإنساني في الحرية..
محمود كرم، كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط