ـ 1 ـ
يقال أن في السفر سبعة فوائد. وأنا أضيف فائدة ثامنة لا يعرف قيمتها سوى العربي المتعطش للمعرفة والمتلهف للحقيقة مهما كانت مرارتها وسوداويتها في عصر الاتصالات والفضائيات والتكنولوجيا المتطورة. لقد أتاح لي السفر والإقامة خارج السعودية فرصة نادرة للإبحار في عوالم الانترنت اللامحدودة والدخول إلى أي موقع الكتروني على الشبكة العنكوبتية بلا حارس وبلا رقيب يحول ما بيننا كمتصفحين وبين الاقتراب من حواف الثالوث المحرم (الدين، السياسة، الجنس).
أول موقع كنت أتطلع لزيارته كان موقع "الحوار المتمدن" والذي سبق للسلطات السعودية حجبه قبل شهور عديدة، إما بتوصية من أحد "الغيورين" على الدين، أو بتبرع من أحد العاملين في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، خاصة وأنها تزخر ـ بحمد الله وفضله ـ برجال يخافون الله ويخشون على عقول الأمة من البلبلة والفتنة، وقانا الله وإياكم شرها.
تذكرت فيما بعد أن هناك كتاباً، طالما تمنيت قراءته لما أثاره من ردود فعل واسعة مؤخراً، موسوم ب "المجهول في حياة الرسول". صاحب الكتاب مجهول، وله كل الحق في إخفاء هويته، وإلا فإن الذبح على الطريقة الإسلامية سيكون مصيره المحتوم. فالمجتمعات الإسلامية بأسرها مصابة بحالة من التشنج اللامعقول والميل للعنف، لدرجة أنك تخاف أن تشتم ابن لادن أو الزرقاوي حتى لا يمسكوا بتلابيبك ويتهمونك "بالإنبطاحية" والولاء للغرب الكافر. ولأن مؤلف الكتاب القنبلة غير معلوم، فقد استثمر المتأسلم التونسي (راشد الغنوشي) هذه الفرصة بانتهازية مكشوفة لتصفية حساباته الشخصية مع المفكر التونسي المتألق (العفيف الأخضر) متهماً الأخير بأنه المؤلف الحقيقي للعمل دون تقديم أي مستندات تثبت تخرصاته التافهة، وذلك بغرض تحريض الكائنات الدينية المهووسة بالدين والمتشربة للعنف ضد الأخضر. وبهذه المناسبة، أرجوا الله أن يعافي الأخضر من مرضه، ويقيه شر المتأسلمين الدمويين، فما أمس العرب والمسلمين لقلم مفكر بمثل استنارة وعقلانية وجرأة العفيف الأخضر.
كتاب "المجهول في حياة الرسول" إلى جانب "السيرة الحلبية" للإمام برهان الدين الحلبي و "الشخصية المحمدية: "حل اللغز المقدس" لمعروف الرصافي تكاد ـ حسب علمي ـ تكون الأكثر جرأة على كسر التابو المحمدي والتعاطي مع شخصيته بتجرد الباحث دون التورط بأي أحكام ونتائج مسبقة. أنا لم أقرأ كتاب "السيرة الحلبية" ولا أعرف حقيقة إن كان متاحاً أم لا، لكن الرصافي نهل كثيراً من "السيرة الحلبية" معتمداً على ما ورد بها من أحاديث وحكايات لتركيب شظايا وأجزاء الشخصية المحمدية المتناثرة. الكتاب الأخير، أي "المجهول في حياة الرسول" يضيء جوانب أخرى معتمة في حياة النبي محمد، ساكباً أكواماً من ملح الأسئلة الحارقة على جراحات يريد المسلمون تناسيها وعدم مداواتها.
لم أفرغ بعد من قراءة الكتاب، فمازلت أحبو على صفحاته حبواً، فتساؤلات الكاتب وتحليلاته لا تمر هكذا مر السحاب، بل أنها تثير القلق، وتفجر الأسئلة، وتعيد تشكيل القناعات والأفكار، وفق سياق علمي متمرد على بلادة المنهج التلقيني والغيبي.
وحتى لا يتهمنا من نصبوا أنفسهم للدفاع عن الإسلام والرسول والصحابة بأننا نتقول على النبي أو نعتمد على مؤلفات "المغضوب عليهم والضالين" من اليهود والنصارى المعروفين بحقدهم على الإسلام ونبيه، أود أن ألفت الانتباه هنا إلى الكتب الثلاثة المشار إليها لم تُبْنَ من فراغ أو من خيالات أصحابها، فكل الأحاديث والمرويات والحكايات الواردة فيها مستقاة بالكامل من كتب السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي المتوفرة في كل مكتبة خاصة كانت أم عامة. ولكن ليس هناك من يقرأ، وإن قرأ فهو لن يفهم، وإن فهم فهو ـ بكل أسى ـ لن ينبس بحرف خوفاً مما قد يصيبه من أذى نفسي أو مادي، أقلها التفريق بينه وبين وزوجته في المضاجع.
ـ 2 ـ
من هو أبو محمد؟
بعيداً عن كل ما قيل ويقال عن الولادة الاستثنائية للنبي محمد، وعن كلام وتنبؤات الكهان بشأن النبي القادم، وعن خروج النبي كنسمة هواء عليل من جوف آمنة بنت وهب، فهي كلها إضافات ومبالغات لا رصيد لها من الحقيقة شيء، أصبغها المؤرخون المتأخرون على حياة النبي تعظيماً لشأنه وتهويلاً لأمره. يطرح المؤلف سؤالاً جاداً ربما لم يفكر به أحد من قبل: من هو أبو محمد الحقيقي؟ هل له أخوة أم لا؟ يبدو السؤال استفزازياً لمشاعر المسلمين قاطبة، وقد يبدو غبياً لدرجة أنه لا يستحق المناقشة لأننا كمسلمين نعلم منذ نعومة أظافرنا أن عبد الله هو أبو محمد وأن عبد المطلب هو جده. صاحب الكتاب شاء إلا أن يهدم كل ما ورثه المسلمون وما تم حقن عقولهم بها من مسلمات، وأن يعيد بناء تاريخ محمد من الصفر معتمداً فقط (وأشدد على كلمة فقط) على ما خطه أصحاب السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي.
يورد المؤلف المجهول نقلاً عن محمد بن عمر بن واقد الأسلمي .. .. عن أبى جعفر محمد بن علىّ بن الحسين قالا: "كانت آمنة في حجر عمها وهيب بن عبد مناف بن زهرة فمشى إليه عبد المطلب بن هاشم بابنه عبد الله أبى رسول الله صلعم فخطب؛ عليه آمنة بنت وهب فزوجها عبد الله؛ وخطب إليه عبد المطلب في مجلسه ابنته هالة بنت وهيب على نفسه؛ فزوجه إياها فكان تزوج عبد المطلب وتزوج عبد الله في مجلس واحد؛ فولدت هالة بنت وهيب لعبد المطلب حمزة بن عبد المطلب؛ فكان حمزة عم رسول الله صلعم في النسب وأخاه من الرضاعة. لما تزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب أقام عندها ثلاثا وكانت تلك السنة عندهم إذا دخل الرجل على امرأته في أهلها".
نستخلص من ذلك ـ والكلام للمؤلف ـ أن عبد الله تزوج بآمنة فولدت له محمد، وأن والده عبد المطلب تزوج بهالة فولدت له حمزة، وكلاهما تزوجا في نفس الليلة. بناء على ذلك، يجب أن يكون حمزة ومحمد في عمر واحد، أو أن يكون محمد أكبر من عمه وأخيه من الرضاعة حمزة بقليل لأن عبد الله توفي بعد شهور قليلة من ارتباطه بآمنة. إن ما يثير الحيرة حقاً أن يكون حمزة رغم هذه المعطيات أكبر من أبن أخيه محمد ـ حسب أفضل التقديرات ـ بأربعة أعوام!
أما كيف يكون حمزة أكبر من محمد بأربعة أعوام، فيورد المؤلف الأدلة التالية. جاء في (الإصابة في تمييز الصحابة) لأبن حجر العسقلاني باب حمزة: "ولد حمزة قبل النبي صلعم بسنتين وقيل بأربع". وجاء كذلك في (الطبقات الكبرى) لأبن سعد باب طبقات البدريين من المهاجرين ذكر الطبقة الأولى: "أخبرنا محمد بن عمر .. .. عن أبيه قال كان حمزة معلما يوم بدر بريشة نعامة .. .. وقتل يوم أحد وهو ابن تسع وخمسين سنة وكان أسن (اكبر) من رسول الله بأربع سنين قتله وحشي بن حرب وشق بطنه .. ..".
ومما يؤكد وجاهة تساؤل المؤلف أن النبي محمد ـ حسب أقرب التقديرات ـ توفي عن عمر يناهز الثالثة والستين، وكانت وفاته في السنة الحادية عشر من الهجرة. أما غزوة أحد التي قتل فيها حمزة بن عبد المطلب فكانت في السنة الثالثة من الهجرة. الفارق ما بين غزوة أحد وموت النبي إذاً ثمانية أعوام، وبطرح الثماني أعوام من عمر النبي البالغ ثلاثة وستين، يكون عمره يوم أحد خمسة وخمسون عاما، أي أصغر من حمزة بأربعة أعوام والبالغ عمره يوم مقتله في أحد تسعة وخمسين عاماً!!!
هل لمحمد أخوة؟
هل فكر أحد بهذا من قبل؟ ما أعرفه أن آمنة لم تنجب سوى محمد، وأنها قضت بعد ولادة النبي بزمن ليس بالطويل دون أن تتزوج بأحد بعد عبد الله بن عبد المطلب. مرة أخرى، يشكك المؤلف في ذلك مستشهداً بجملة من الأدلة الراقدة منذ قرون في بطون كتبنا القديمة. جاء في (السيرة الحلبية) للإمام برهان الدين الحلبي باب ذكر حمل أمه صلعم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ما يلي: "كانت أمه صلعم تقول ما رأيت من حمل هو أخف منه ولا أعظم بركة منه. وروى أبن حبان رحمه الله عن حليمة رضي الله تعالى عنها عن آمنة أم النبي صلعم أنها قالت أن لإبني هذا شأنا إني حملت به فلم أجد حملا قط كان أخف عليّ ولا أعظم بركة منه". وورد أيضاً في (السيرة النبوية) لابن هشام باب ولادة رسول الله صلعم ورضاعته ما يلي: "قال أبن اسحق .. كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية أم رسول الله التي أرضعته تحدث .... فلم يبلغ سنتيه (محمد) حتى كان غلاما جعفرا (غليظ) فكلمنا أمه وقلت لها لو تركت بنيّ عندي حتى يغلظ ... فردته معنا (ثم حدث له شق بطنه فأرجعته حليمة إلى أمه) قالت أمه (آمنة) أفتخوفت عليه الشيطان قالت قلت نعم قالت كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل ... فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف علىّ ولا أيسر منه..". وورد كذلك في (الخصائص الكبرى) للسيوطي الجزء الأول ص 132؛133؛ 134؛ 135 الحديث التالي: "أخرج ابن اسحق وابن راهويه وأبو يعلي والطبراني والبيهقي وأبو نعيم وابن عساكر عن طريق عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: حديث حليمة بنت الحارث أم رسول الله صلعم التي أرضعته قالت: ... نفس الحديث السابق ... قالت حليمة فاحتملناه حتى قدمنا به إلى أمه (آمنة) ... قالت اخشيتما عليه من الشيطان؟ كلا والله ما للشيطان عليه سبيل وانه لكائن لابني هذا شأن إلا أخبركما خبره؟ قلنا بلى قالت حملت به فما حملت قط أخف منه فأريت في النوم حين حملت به أنه خرج مني نور....".
ـ 3 ـ
يمضي الكتاب كما يتضح من عناوين فصوله إلى زرع غابات من علامات الاستفهام التي لا تشكك فقط في مصادر القرآن، وهوية جبريل وحقيقة الوحي، وانفراط علاقات النبي النسائية المشبوهة فحسب، بل يشكك حتى في نسب نبي الأمة وجذوره الغامضة. حقائق أو قل شكوك صادمة ومزلزلة، وكما قال المؤلف المجهول: "نحن نعلم أهمية هذه النتيجة وخطورتها لكن الباحث عن الحقيقة لا يهتم بهول النتيجة لأن عينيه على الحقيقة ويعرف مسبقا مرارتها ... نعم إنني لا أعتبر ما وصلت إليه حجرا ألقمه أفواه المتغنين بأشرف خلق الله نسبا وجذورا؛ لكنه باقة ورد وكوب ماء للسالكين في طريق الحقيقة لأونس قليلا من وحشتهم وأطفئ بعضا من ظمأهم فالطريق طويل وشاق وموحش!!" وختاماً، أطرح بدوري هذا التساؤل المرير: ماذا عن أولئك الذين عاشوا وماتوا متمسكين بما جاء به النبي محمد من إسلام؟ هل وجدوا بعد رحيلهم من الدنيا ما وعدهم به النبي محمد حقاً؟ طبعاً، لا أحد يدعي المعرفة فمن يموت لا يرجع كي يخبرنا عما وجد في العالم الآخر. وماذا عن المسلمين الموحدين المعاصرين الذين نذروا حياتهم لخدمة الإسلام ونصرة الله ورسوله بالفكر والمال والنفس فيما لو ثبت بطلان وزيف ما جاء به خاتم النبيين من دين؟ سؤال يستحق التدبر والتأمل والتعقل والتفكر... أليس كذلك؟
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط