بسام درويش
/
Oct 30, 2001
كتب لي قارئ غاضب دعا نفسه "عربي مسلم أميركي وفخور" رسالة يحتج فيها على ما تنشره "الناقد" واصفاً إياها بأنها "صفحة تمتلئ بالكراهية، رمز للعمى الفكري وعار على المسيحيين".
مما جاء في هذه الرسالة قوله: "دعني أذكرك بمئات الآلاف من الكاثوليك والبروتستانت الذين ماتوا في حروب ومعارك بين الطوائف المسيحية زمن مارتن لوثر. وماذا عن الكاثوليك الأيرلنديين الذين قُتلوا ولا زالوا يُقتلون على يد جيرانهم البروتستانت البريطانيين.. وإني على ثقة بأنك تعرف بأن الحربين العالميتين الأولى والثانية كانتا من عمل قوات المسيحيين وأن طياراً مسيحياً هو الذي ألقى بأول قنبلة نووية.."
************
نعم، لقد ارتكب (مسيحيون) مجازر وأعمال بشعة.
ونعم، لا زال (المسيحيون) في أيرلندة رغم توصلهم إلى اتفاق سلام بينهم يرتكبون أعمالاً يخجل منها كل مسيحي وغير مسيحي. ونعم تقاتل (المسيحيون) زمن مارتن لوثر. لا بل نذكّر القارئ بما لم يذكّرنا هو به إذ لا ننسى أيضاً ما قامت به قوات الصرب (المسيحيين) مؤخراً من جرائم بشعة بحق المسلمين ومسيحيين آخرين. وإذا تساءل أحد عن سبب وضعنا كلمة المسيحيين بين قوسين، فذلك لأنهم ليسوا على المسيحية في شيء إلا اسمها. المسيحية منهم بريئة كل البراءة ولا أحد يجرؤ على أن يدّعي بأن المسيحية تغفر لهم ما فعلوا أو يفعلون. هم أنفسهم يعرفون ذلك أيضاً.
المسلمون فعلوا الأمر نفسه. فعلوا ذلك منذ مطلع الإسلام ولا زالوا حتى اليوم! ففي الجزائر، وخلال العقد الماضي، قَتَـل المسلمون ما يزيد عن مائة ألف من أخوانهم المسلمين؛ أعمال القتل لا زالت مستمرة حتى يومنا هذا ترافقها أبشع عمليات الاغتصاب والنهب والمذابح الجماعية. عدد الفلسطينيين الذين قتلوا على يد أخوانهم العرب المسلمين لا يقارن بعدد الذين سقطوا على يد الإسرائيليين. ما يقارب المليون إنسان راحوا ضحية حرب بين الدولتين المسلمتين إيران والعراق. عشرات الآلاف من الأكراد المسلمين الذين دفنوا تحت الأنقاض أحياء أو حرقوا بالكيماويات في العراق. ورغم ما للإسلام، بتعاليمه المشجعة على العنف، من تأثير عظيم على كل تلك الأحداث فإنه لمن الإجحاف أن ننسب كل جريمة أو حادثة إرهابية، سواء كانت لفرد أو جماعة، إلى تحريض من الإسلام.
أن يقوم فرد مسلم أو أفراد مسلمون في مصر مثلاً، باختطاف سائحة غربية مسيحية وسرقة ما تحمله معها واغتصابها، هو شيء؛ وأن يسطو مسلمون على الأقباط المسيحيين ليسلبوهم أموالهم، ويغتصبوا بناتهم، ويقتلوهم، هو بالتأكيد شيء آخر. فالدافع وراء الحالة الأولى يختلف عن الدوافع التي تقف وراء الحالة الثانية. الأولى لم يكن وراءها شيخٌ يصدر فتوى بتحليلها. أما الثانية فالتحريض عليها كان يتم علانية، وغالباً من على منابر الوعظ في المساجد، لا بل هناك من رجال الدين من أفتى بجوازها.
إن الجريمة هي جريمة، سواء كان مرتكبها مسيحي أو مسلم، ولكن أن يقف أحد ويجرؤ على ربط جرائم ارتكبها أو يرتكبها "مسيحيون" بتعاليم المسيحية، فإن ذلك ليس إلا كذبـاً غايته الدفاع عن الباطل.
الصراع بين البروتستانت والكاثوليك في أيرلندة، رغم أنه في ظاهره صراع بين طائفتين مسيحيتين، هو صراعٌ لا تغفره المسيحيةٌ وهي منه براء. ولأن الطرفين المتحاربين يعرفان ذلك أيضاً، فإننا لم نسمع أن أحداً منهما قد هتف بآية من آيات الإنجيل يحّرض بها جماعته على قتال الطرف الآخر أو ليبرر بها قتله لأحد من الطرف الآخر. ولو فعل ذلك واحد من هذين الطرفين لَسَخِر منه الطرفان معاً!
الطيار الذي ألقى بقنبلته على هيروشيما كان جندياً في حالة حرب يعمل بإمرة رؤسائه. ورغم ثقته بأنه كان يدافع عن بلاده، ورغم قناعته بأن عمله ذاك سوف يؤدي إلى إنهاء حرب قد تقتل ـ إذا استمرت ـ أعداداً من الناس أكبر بكثير من عدد الذين ستقضي عليهم قنبلته.. رغم ذلك فإنه لم يلقِ بقنبلته وهو يهتف قائلاً: "باسم الرب ومسيحه ألقي هذه القنبلة!"، أو، "إلى الجحيم فليذهب أعداء بلادي!" لقد ألقاها وهو يشعر بالألم. ولو وضع ذلك الطيار آنذاك كتابه المقدس نصب عينيه لربما كان قد تخاذل وتراجع عن تنفيذ مهمته.
*********
قبل حوالي السنة من جريمة الحادي عشر من أيلول، وخلال تصويره لفلم وثائقي في أفغانستان، تحاور "لن شيرمان" مخرج الفلم مع بعض الأفغان المحاربين من جماعة طالبان الحاكمة والذين وقعوا في أسر قوات المعارضة في الشمال. سأل أحدهم عما يدفعه إلى كراهية أميركا والمسيحيين فأجابه بأن ذلك هو ما تعلمه في كتابه المقدس. وحين سأله "لن شيرمان" إذا كان مستعداً لأن يقتل مسيحيين لا لشيء إلا لأنهم لا يؤمنون به بدينه، أجابه بقوله، "هذا ما يقوله كتابنا المقدس، وإذا قال شيئاً فعلينا أن نقوم به!" هذا المحارب ربما لم يرَ في حياته مسيحياً.. لا عدواً ولا صديقاً! رغم ذلك فإنه مستعد لقتله!.. هذا ما تعلمه في كتابه حسب قوله.
*********
هناك (مسيحيون) إرهابيون، ولكن ليس هناك بينهم من يقوم بعمل إرهابي ويقول، حتى كذباً، أنه قد فعله بأمر من الله أو بناء على تعاليم المسيح. الأمر يختلف بالنسبة للإسلام وما على الذي لا يصدّق ذلك إلا أن يذهب للاستماع إلى عظةٍ في مسجد في أي بلد عربي أو إسلامي. الإرهابيون المسلمون، بغض النظر عما يدعون أنفسهم به، يفخرون بأنهم يقومون بأعمالهم لإرضاء الله ونصوص القرآن لا تكذّبهم فيما يقولون.
لكن، كما أنه ليس كل مسيحي مسيحياً حقاً، ينفذ تعاليم ديانته التي تقضي بالتسامح والعطاء غير المحدود والمحبة والتواضع والعفة وغيرها، فإنه والحق يقال أيضاً، ليس كل مسلم مسلماً، لا من حيث تطبيقه لما يأمر به الإسلام من جانبه الخيّر الذي لا تخلو منه ديانة أخرى، كالصيام أو الزكاة والإحسان وإكرام الأبوين، ولا من جانبه الرهيب الذي يشجّع على القتال والعنف. القرآن ليس وحده بين كتب المسلمين يزخر بالدعوات إلى القتال والعنف، ففي التقاليد الإسلامية موسوعة كبيرة من كتب الأحاديث والسيرة النبوية وغيرها، والتي تزخر هي أيضاً بقصص الغزوات وحملات الثأر والاغتيالات. وأمام غزارة هذه التعاليم والتعليمات المشجعة على العنف فإن الإرهابيين لا يجدون صعوبة أبداً في تبرير الجرائم التي يقومون بها بحق كل من يرون فيه عدواً للإسلام. العمليات الانتحارية التي يفجرون خلالها أنفسهم، ويقتلون الأبرياء من الناس في المدارس ومواقف السيارات والمطاعم والمحلات التجارية، يقومون بها، دون أن يساورهم أي شعور بألم أو ذنب، واثقين كل الثقة أنها وسيلتهم إلى الجنة. وحين يصل خبرهم إلى ذويهم، يرقص الآباء وتزغرد الأمهات ويخرج الناس مهللين مكبّرين.
الإرهاب موجود في كل مكان.
أن تقوم عصابة من المراهقين بترويع حي من الأحياء في لوس أنجلوس أو شيكاغو، هو إرهاب. وأن يعتدي عنصري أبيض على إنسان أسود، هو إرهاب. ولكنه إرهاب يُجمِعُ الناس كلهم في المجتمعات المتحضرة على أنه مرتكبيه يستحقون العقاب أو ربما الإصلاح. حتى لو تصوّرنا أنّ أميركياً قد ذهب بعد جريمة الحادي عشر من أيلول إلى أفغانستان ووقف في مؤسسة استهلاكية يطلق النار على الأبرياء العزّل، لما كان بإمكاننا أن نتصوّر إنساناً في هذا المجتمع يقول بأن ذلك المخبول سيذهب إلى الجنة أو أن يصفه أحد بأنه قام بعمل بطولي. سيدينه الجميع حتى أفراد عصابات لوس أنجلوس وشيكاغو. لن يرقص لذكره أحد، ولا حتى في شوارع نيويورك التي لا زال الألم يعتصر قلوب سكانها. لن يخرج الأطفال ومعهم أمهاتهم وآباؤهم إلى الشوارع مهللين فرحين. سيخجل أهله وأهل حيه ورفاقه من ذكر اسمه.
**********
المسيح لم يعظ تلاميذه قائلاً لهم: إني اشتريت منكم نفوسكم وسأؤمن لكم مكاناً في الجنة شريطة أن تَقتُلوا وتُقتَلـوا من أجل اسمي. بل قال لهم: "طوبى للرُّحَماءِ فإنَّهم يُرْحَمونَ.. طوبى لِصانعي السلام فإنَّهُم أبناء اللَّهِ يُدْعَوْنَ!.. طوبى للمُضْطَهَدينَ مِنْ أجلِ البِرِّ فإنَّ لهم ملكوتُ السماواتِ.. طوبى لكُمْ إذا عَيَّروكُمْ واضْطَهَدوكمْ وقالوا عليكُمْ كلَّ كَلِمَةِ سوءٍ مِنْ أجلي كاذبينَ.. افْرحوا وابْتَهِجوا فإنَّ أجْرَكُمْ عظيمٌ في السَّماوات.."
لم يقل لهم: ترصّدوا للذين لا يحبونني ومتى لقيتموهم اقتلوهم أو اصلبوهم أو اقطعوا أيديهم وأرجلهم.. كما يُعَـلّـم القرآن. بل بعث بهم ليبشروا بكلمته ويعمدوا الناس بالماء وليس بالدم قائلاً لهم: "اذهبوا الآن وتلمذوا كل الأمم معمدين إياهم باسم الآب والابن والروح القدس.."
لم يقل لهم، اذهبوا و "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.." أو: "فإذا لقيتم الذين كفـروا فـضـرب الرقـاب (أي اقـتـلـوهم بضرب رقابهم) حتى إذا أثخنتموهم (أي أكثرتم فيهم القتل) فشـدّوا الوثاق فإما مَـنـًّـا بَـعْـدُ وإمـّـا فِـداءً (أي ولكم أن تطلقوا سراحهم فيما بعد أو تبادلوهم بأسـرى من المسلمين أو المال) حتى تضع الحرب أوزارهـا ذلك ولو يشـاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قُـتِـلوا في سـبيل الله فلن يضلَّ أعمالهم." بل قال لهم: أحِبوا أعداءَكمْ وأحْسنوا إلى منْ يُبْغِضُكمْ وصَلُّوا لأَِجلِ منْ يُعْنِتُكُمْ ويَضْطَهِدُكمْ.."
*********
مرافعةُ القارئ التي بعث بها إلينا هي مرافعةٌ أصبح تكرارها يثير الملل وقد آن لأصحابها إما أن يأتوا بغيرها أو أن يبحثوا عن دين آخر لا يحتاجون إلى حرق فوسفور أدمغتهم بحثاً عن أية وسيلة للدفاع عنه.
إن أفضل ما يوصفون به هو ما جاء في كتابهم: "وما يخدعون إلا أنفسَهم وما يشعرون!"
*********
****
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط