بسام درويش
/
Jan 04, 2006
مرضُ نكران المرض هذا، لا يقتصر على الناحية العقائدية فقط، إنما يستشري في جميع المؤسسات التي يتكوّن منها المجتمع العربي دون استثناء، من حكومية إلى تربوية وثقافية وإعلامية وأخلاقية وامنية وحتى إلى الفنية منها!..
**********
خلال السنوات الأولى بعد أن حطّ بي المقام في الولايات المتحدة، كنت وزوجتي نقضي ردحاً من وقتنا مساءَ كل يومٍ مع أولادنا لمساعدتهم في دروسهم.
في البدء، انتابنا قلق من طريقة التعليم المتبعة ونوعية الوظائف البيتية ـ Homework ـ التي كانت توكل إليهم. لكن القلق سرعان ما زال بعد فترة من الزمن، لا بل تحوّل إلى شعور بالراحة والأمل ونحن نلمس تأثير هذا الأسلوب التعليمي الرائع على شخصيتهم.
الأسلوب التعليمي المتبع هنا في أمريكا يركّز على تشجيع التلميذ على الإبداع، والإبداع لا يمكن ان يترعرع ويثمر في غياب الحرية. وبالطبع، هذا لا يعني أبدا عدم وجود مبدعين في ظل الأنظمة غير الحرة، لكنَّ إبداعهم هو على الأغلب نتاج جهود شخصية أو محيطية ضيّقة على مستوى عائلة أو مدارس خاصة، ـ وبالذات المدارس المسيحية ـ. هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، فكنتيجة لما يتعرّض له هؤلاء المبدعون من حملاتٍ مستمرة لكبتِ إبداعهم، سواء كان ذلك من محيطهم الضيق أو الواسع، غالباً ما نجدهم يُضطرّون إلى الهرب خارج البلاد، أو، ـ وللأسف الشديد إن لم تتوفر لهم فرصة الهرب ـ نجدهم يسخّرون إبداعهم لإرضاء المناخ السائد الذي يعيشون فيه كحلّ لا مفرّ منه للمحافظة على البقاء ـ survival ـ . وهكذا، يتحول الإبداع إلى أداةٍ لنشر الجهل عوضاً عنِ الوعي.
الدراسة في أمريكا ـ بشكل عام ـ لا تعتمد على حفظ المواد غيباً. أذكر كيف كنا في الوطن القديم نقضي الساعات ونحن نحفظ غيباً فقرات من كتاب التاريخ أو الجغرافيا أو حتى العلوم، لنقف في اليوم التالي في الصف أمام المعلّم لـ "تسميع" ما حفظناه. كانت تلك المعلومات التي نحفظها غالباً ما تتبخر بمجرد تسميعها لسبب وجيه جداً: لقد كانت ألسنتنا هي التي تحفظها وليست عقولنا. استيعاب معنى الفقرة لم يكن هو الأمر المهم. الأمر الأكثر أهمية هو إلقاؤها دون تردد ودون نسيان كلمة منها!..
دراسة التاريخ ـ على سبيل المثال ـ لا يُقصدُ منها في المدارس الأمريكية مجرد معرفة ما حدث في حقبة من الحقب الماضية، أو لتمجيد شخصيات تاريخية، أو لزرع روح وطنية في الطلاب. من المؤكّد أن معرفة تاريخ البلاد أمرٌ ضروري، لكن الأمر الأهم هو مناقشة هذا التاريخ بين الطلاب. ليس هناك هالة قداسة حول التاريخ في أمريكا، ومن حق الطالب أن يبدي رأيه بأحداثه وشخصياته، لا بل يُطلَبُ ذلك منه طلباً. علامات التقدير لا تعطى له بناء على مقدار ما كرره من معلوماتٍ حفظها عن الكتاب، إنما بناء على إبداعه بالرأي حتى ولو خالف رأي المعلّم أو المجموعة.
هكذا هو الأمر في كل المواد الأخرى. الغاية هي حثُّ عقل الطالب على التفكير وتشجيعه على إبداء رأيه كي يتخرّج من المدرسة مبدعاً يساهم في تطوير مجتمعه، وليس كالببغاء لا همّ له إلا نقل هذا التراث لأولاده وأولاد أولاده تماماً كما تعلّمه.
المبدأ الذي يعتمد عليه التعليم هنا، هو انتفاء وجود حقيقة مطلقة لأيّ شيء. إشراكُ الطلاب في نقاش حر حول الأمور التي يتعلمونها، يشجّعهم على بناء شخصيتهم وينمي فيهم روح الإبداع. في مناخٍ حرّ كهذا المناخ، لا يمكن أن يكون هناك مكان لمرض "نكران المرض". الطلاب هنا يدرسون التاريخ والحاضر على حقيقتهما لأن تجاهل ما جرى وما يجري لا يخدم المستقبل، والمستقبل هو المكان الذي سوف يعيشون فيه وليس الماضي. يقول تشارلز كيتنغ: "إنَّ ما أهتمّ به هو المستقبل.. لأنني هناك سأقضي ما تبقّى من حياتي!"
لا أحد يطلب منهم تجاهل ما حدث للهنود الحمر أو السود أو غيرهم. لا أحد يطلب منهم تجاهل فضيحة ووترغيت أو حرب فييتنام. إنهم يُشَجَّعون على إبداء رأيهم حتى بما يدور حالياً في عهد الرئيس بوش، لا بل يُشَجّعون على مناقشة أية قضية فساد في الدولة أو في المجتمع.
لنتصوّر قيام طالب في مدرسة أو في جامعة في بلد عربي، بكتابة موضوعِ إنشاءٍ أو أطروحةٍ، عن فضائح الحكم أو فساده، حتى لو كان في بلدٍ يتمتع ببعض الحرية أكثر من غيره!.. لنتصوّر قيام طالب في سوريا أو مصر بالاعتراض على اعتبار حرب تشرين ـ على سبيل المثال ـ انتصاراً على إسرائيل!..
ترى أية علامات تقدير سيحصل عليها طالب في مدرسة عربية إذا كتب موضوع إنشاء يتحدث فيه عما ارتكبه المحمديون خلال غزواتهم التوسعية في الشرق الأوسط وغيره؟.. أية علامات تقدير سيحصل عليها طالب في سوريا إذا تجرّأ على إعادة تقييم رمز من الرموز الوطنية ـ مثل يوسف العظمة ـ فقال عنه إنه لم يكن بطلاً إنما متهورا خرج على رأس مجموعة صغيرة من الرجال المسلحين ببنادق لا تصلح لصيد العصافير، ليواجه في ميسلون جحافل القوات الفرنسية المتجهة إلى دمشق بمدرعاتها ودباباتها!..
أو ترى ما هو مصير طالبٍ في كلية علمية أو أدبية في اي بلد عربي إذا تجرأ على كتابة أطروحة يفنّد فيها ما يقال عن "معجزات" القرآن العلمية أو عن "إعجازه" اللغوي؟!
**************
ليس أمراً مستغرباً أن تركّز الكتب المدرسيّة العربية على الجانب السلبي من تاريخ وحاضر الأمم الأخرى ـ تساعدها في ذلك وسائل الإعلام الموجّهة ـ خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بأمريكا تاريخاً أو حاضراً. هذا أمر متوقع في ظل أنظمة كهذه، لأن الحديث عن جوانب إيجابية في مجتمعات أخرى سيسلّط الأضواء على السلبيات التي تقابلها في مجتمعات هذه الأنظمة. وهكذا، فإن الحديث عن الحرية في الغرب يجب أن يرافقه دائماً سرد لجرائم سرقةٍ وأحاديث عن اغتصاباتٍ ومفاسد وأمراض اجتماعية وما شابه ذلك. إنها عملية غسل دماغ متقنة لإقناع الناس بأن الحرية خطرة على أمنهم واخلاقهم.
الحديث ـ مثلاً ـ عن الامتيازات التي ينعم الهنود الحمر بها الآن في ظل الدستور الأمريكي، والذي كفلها لهم ولكل أجيالهم من بعدهم، أو عن اعتراف هذا الدستور باستقلاليتهم في إدارة شؤونهم الخاصة على أراضيهم والتي تعرف هنا باسم Indian Territories، يجب أن يكون حديثاً عابراً (إن جرى التطرّق إليه!) حديثٌ كهذا سيعني بكل تأكيد، تشجيعاً للأقباط في مصر، أو السريان في سوريا والعراق، على طرح موضوع حقوقهم كسكان أصليين وأصحاب حق شرعي في بلادهم!..
لذلك، لم استغرب يوماً رسائل الاحتجاج التي تصلني من قراء عرب، يعبّرون فيها عن استيائهم لتعرضي الدائم لما تعانيه الأقليات في البلاد العربية والإسلامية ويتهموني بأني أتجاهل ما فعله المستعمرون الأوروبيون بالهنود الحمر في أمريكا، أو استعباد البيض للأفارقة السود أو أعمال التمييز ضدّهم. هؤلاء الذين يكتبون إليّ، هم في رأيي معذورون كل العذر، لأنهم مُبَرمَجون لتكرار هذه الآراء، إن صحّت تسميتها بالآراء. فما يتعلمه التلميذ العربي في المدرسة هو ما يتلقاه من معلمه، وما يلقنه إياه المعلم لا يجوز أن يخرج قيد أنملة عما في الكتاب المدرسي، والكتاب المدرسي لا يحتوي إلا على ما يقرّه النظام الحاكم وما لا يخالف الاعتبارات الاجتماعية، وعلى وجه الخصوص، ذات المنطلق الديني.
***************
جرائمُ القتل والسرقة والاغتصاب والمشاكل والمفاسد الاجتماعية في الغرب أمورٌ حقيقية. الإعلام هنا لا ينكر ذلك. الدولة لا تنكر ذلك. حتى الأهل يناقشون مشاكل اولادهم علناً، في الإذاعات وعلى شاشات التلفزيون ومع أصدقائهم أو مع المعلمين في المدرسة. هناك مئات الكتب التي تتحدث عنها. هناك مؤسسات لا عمل لها إلا القيام بإحصاءاتٍ تُحيلها إلى المراجع المختصة لفرزها، ودراستها، وتحليلها، ومعرفة أسبابها، والبحث عن حلول لها. المجتمع الغربي لا ينكر وجودها ولا حتى يتستر عليها، لا بل على العكس تماماً، نرى الجميع يتنافسون على كشفها والحديث عنها!.. وما هو أهمّ من كل ذلك، إنّ احداً لا يحاول إرجاع أسبابها إلى جهاتٍ أو ظروف لا علاقة لها بها.
في العالم العربي، جرائمُ القتل والسرقة والاغتصاب والمشاكل والمفاسد الاجتماعية هي أيضاً أمورٌ حقيقية، لكن مع فارق واحد. ما تنشره الصحف أو تتحدث عنه الأخبار لا يعكس الحقيقة الكاملة. لا بل هناك أكثر من فارق واحد: هناك من الجرائم والمفاسد في العالم العربي ما يجعله منفرداً ومتميزا بها عن العالم كله، نذكر منها على سبيل المثال فقط ما يُعرفُ بجرائم الشرف البربرية.
صحيح أن تقنية الاتصالات الحديثة قد حوّلت عالم اليوم إلى قرية صغيرة، فلم يعد التستّر على ما يجري هنا وهناك أمراً سهلاً، واصبح هناك من يجرؤ على الحديث عما كان من قبلُ أمراً شبه محظورٍ، لكنّ الحديث عما يحدث هو شيءٌ، والحديث عن الأسبابِ وراء الحدَثِ هو شيءٌ آخر.
***************
ليس هناك شكّ في أن العالم العربي يشهد اليوم تزايداً في عدد الكتّاب والمفكّرين والباحثين الاجتماعيين، الذين أخذوا يجرؤون على تسليط عدسات مجاهرهم، على مشاكل وأمراض، كان مجرد التفكير في الحديث عنها من قبلُ أمراً لا يُغتَفر. لكن، لا مفرّ من القول، وبكل أسف، إن هناك عاملاً مشتركاً يجمع بين هؤلاء المفكّرين والباحثين، وهو عامل الخوف من تسمية الميكروبات التي تكشف لهم عنها عدسات مجاهرهم. هذا الخوف لا يؤدّي إلى ضياع جهودهم فقط، إنما يساهم أيضاً في خلق مرض أعظم خطراً، وهو مرض "نكران المرض" موضوع حديثنا هذا. الخوف من تسمية الميكروبات ـ مسببات الأمراض ـ يدفعهم إلى اختلاق تسميات جديدة لها يمكن القول عنها بأنها مراوغة. إنهم غير ملومين على ذلك لأنّ المراوغة تمكّنهم من الاستناد على تفاسير مختلفة لها إذا ما تعرّضت رقابهم للخطر. لكنهم في الحقيقة بعملهم هذا، يخدعون الجماهير التي تتطلّع إلى ما تخطه أقلامهم من كلماتٍ وعباراتٍ وتتلقفها كوحيٍ مقدس. بعبارةٍ أخرى، إن الجيل الجديد المتعطش للحاق بالعالم المتحضر، يرى في هؤلاء الكتاب والمفكرين والباحثين قادةً وقدوةً على طريق التغيير. كلماتهم التي يقولونها، تصبح نصوصاً مقدسة في عالم مهووس بـ "النصوص المقدسة". لذلك، فإنهم، بلجوئهم إلى المراوغة في الإشارة بدقة إلى مصادر المرض، يساهمون ـ دون قصد منهم ـ في نشره. وبعبارة أكثر صراحة: إنهم يعملون على تخدير هذا الجيل وليس على إيقاظه.
**************
لقد آن الأوان للمفكرين في العالم العربي أن يتحدّوا حبال المشنقة وسيف السياف بتسمية الميكروبات بأسمائها الحقيقية دون مراوغة. آن الأوان للاستعاضة عن كلمة "الحاشية" بأسماء أفراد الحاشية واحدا واحداً، لا بل بتسمية رأس الحاشية ملكاً كان أو أميراً أو رئيسا.
استخدام مسمّياتٍ مثل، "التيار الديني" أو "الزعامات الروحية" أو "المتعصبين" أو "الإسلاميين" أو "الفكر الديني" أو "الحاشية المستفيدة من النظام الحاكم" أو "رجال الحكم" وما شابهها، لا يؤدّي إلا إلى إلهاء الناس بنقاشات لا تنتهي عن تفاسير لهذه المسمّيات. لقد اصبح قاموس اللغة العربية العصرية يزخر بمفردات وعباراتٍ لا يفهمها إلا أصحابها الذين يطلقونها، أو أنهم لا يفهمونها البتة!
آن الأوان للتوقف عن احاديث التآخي بين الطوائف والأديان، والاستعاضة عن ذلك بأحاديث صريحة عن المشاكل الموجودة فعلاً بين اتباع هذه الطوائف والأديان. آن الأوان للاعتراف بوجود الكراهية بينهم!
آن الأوان للمطالبة بإجراء عمليات إحصاء نزيهة، عرقية ودينية وفكرية وصحية، لغاية التعرف بدقة على مواطن الخلافات بين فئات المجتمع وعلى الأمراض التي يعاني منها المجتمع.
لا شكّ في أن هناك من يقول، إن حديثاً كهذا يسهل قوله على من يجلس في النعيم، لأنه لا يعرف ماذا يعاني منه أؤلئك الجالسون في الجحيم.
أنا افهم وضع الكاتب في مجتمع يحكمه الإرهاب الفكري، لكني أرى أن الكاتب والمفكر الذي يختار هذا العمل الإنساني العظيم، لا يختلف عن الجندي الذي يذهب إلى الحرب للدفاع عن وطنه. كلاهما يضعان ـ أو يُفتَرضُ بأنهما يضعان ـ الموت أمام عيونهما. لا بل إن من الجنود من يجد نفسه ملزماً للذهاب إلى حرب لا يؤمن بها، بينما ليس هناك من كاتب يجد نفسه مُجبراً على الكتابة؛ وإذا كان الجندي المتطوّع يتوقع أن يموت من أجل الوطن، فعلى الكاتب أن يتوقع المصير نفسه، خصوصاً في هذا المجتمع الذي يحتاج لإنقاذه إلى كتّابٍ ومفكرين جريئين أكثر من حاجته إلى جنودٍ أبطال.
*************
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط