الكثيرون في مجتماعتنا مسكونون بثقافة اليوتوبيا الدينية، يرون أن المحافظة على أخلاق المجتمع يجب أن تتم عن طريق التوجيه الديني التلقيني والتعنيف الخطابي والانغماس بمظاهر الاستعراض الديني، وتحييد الحرية الشخصية ومحاكمتها ووضع العلاقات البشرية تحت المراقبة المشددة والتوبيخ والملاحقة والتدخلات السافرة والوصاية الدينية البغيضة، والأهم وضع المرأة في صندوق مُحكم خوفاً من أن تتسبب المعاصي، على اعتبار إنها في أدبيات الدينيين تعتبر رمزاً للفتنة والغواية وهاوية الشرور..
وأتساءل في هذا الخصوص: ألا تتكاثر (المعاصي) حينما نضعها في صندوق أكثر مما لو كانت تحت الشمس؟!
أساليب الضغط والتعنيف واستهداف الآخرين بالنوايا المريضة وفرض الوصاية الدينية وشراسة التوجيه الديني التلقيني والتفاخر بالاستعراض المسرحي الديني، أفرزت نفسيات معقدة وسلوكيات منحرفة وذهنيات معلبة، وبذلك تقمص الكثيرون منهم خشوعاً دينياً فاضحاً، ولكنهم بعيداً عن مجتمعاتهم ومناخات الإفراز الديني وأجهزة التنصت والتلصص الديني يتحولون إلى طاقات مستنفرة في البحث عن لذائذ المتعة الدنيوية، والأدهى من ذلك أنهم بعد أن يتلذذوا بالرؤية البصرية المشبعة بالثمالة الحسية على المفاتن، ويذهبوا بخيالاتهم الملتهبة حد السعار الجنسي، في الصباح نجد أن ألسنتهم قد تفجرت بقبيح عباراتهم المعروفة ناعتينَ أولئك النسوة بالمتبرجات والفاسقات والعاريات ومصيرهن جهنم والنار الكاوية..
في مقابل كل هذا الهوس بثقافة اليوتوبيا الدينية ألا يحق لنا أن نتساءل: لماذا يتم تشويه الأشياء الجميلة في حياتنا تعمداً واغتصاباً؟!
ولماذا لا يريدون أن يفهموا أن الأشياء حينما تُمارس تحت الشمس وبكل عفوية وتلقائية وبعيداً عن منطق النوايا المريضة ومنهجية الاستلابات الأصولية الدينية، تكون أكثر وضوحاً وصدقاً وشفافية..
وأتساءل كثيراً: لماذا يلجأ الشاب في مجتماعتنا حينما يقع في حب فتاةٍ ما إلى دهاليز السرية والدروب المعتمة وكأنه يقترف جريمة بشعة، وعليهِ يكون متوتراً طوال الوقت، وكل حركاته يحسبها بالميليمتر وهو بهذا السلوك المرغم عليه يشوّه شيئاً جميلاً، ولا يعنيني هنا بطبيعة الحال أولئك النفر من هُواة الوصل العبثي الابتذالي..
وهل علينا أن نجد العذرَ لمَن يحول الحب إلى فعلٍ مشوه حينما ينزل به إلى الأقبية وخلف الأسوار المعتمة هرباً من ملاحقات نوايا المجتمع السيئة المريضة والمصابة بعاهات العقد الدينية التي تستميت غباءً بالدفاع عن أخلاق المجتمع، بينما على الشاب والشابة في كل الأحوال انطلاقاً من حقهما الإنساني أن يمارسا الحب كما هوَ طبيعياً وواضحاً ونقياً وجميلاً.؟!
وما الذي يجعل الفتاة في بعض المجتمعات المتشددة دينياً وعرفياً أن تخلع ما فُرض عليها من الحجاب، حينما تغادر مجتمعها المحكوم بثقافة اليوتوبيا الدينية؟! فلو توفرت لها نسمة من الحرية في مجتمعها لما اضطرت لذلك..
ولذلك أجد أن الأشياء الجميلة والمعاني السامية كلما كانت تمارس تحت الشمس ستبقى كما هيَ جميلة ونقية ورائعة، ولكنها حينما تمارس في السر وفي العتمة فإنها تتشوّه وتتحول إلى ممارسات قبيحة شنيعة، وليس مستغرباً في الحالة هذه أن نجد أن أكثر المعاني الجميلة التي زخرت بها الروح الإنسانية الخلاقة في كل زمان ومكان قد شوهتها مجتماعتنا حينما لامستها بعقليتها الغارقة بالتزمت والتشدد ومظاهر الاستعراض الديني..
ويأخذ الدينيون المؤدلجون وغيرهم من المتفاخرين بالأخلاق والفضلية، والمتدثرين بأردية القديس الراهب، على (الغرب) تفسخه وانحلاله ولا يجدون في الغرب سوى هذا الجانب مادةً غبية تتكرر في كل أدبياتهم المملة، ويجهلون قيمة أن يكون المجتمع واضحاً وصريحاً وشفافاً ونقياً في علاقاته الإنسانية ولا يلجأ إلى ممارسة تلك العلاقات في متاهات الظلام ودهاليز العتمة..
ما أؤمن به واثقاً أن المعاني الجميلة في الحياة حينما نمارسها بالعلن وتحت الشمس لا نضطر إلى تشويهها وتدميرها وتفريغها من محتوياتها الجمالية بالممارسات السرية..
وفي أجوائنا الخانقة المحكومة بشراسة الوصاية الدينية والمسكونة بهواجس اليوتوبيا، لا يراود شبابنا وشاباتنا سوى حلم صغير، وهو أن يمارسوا أشياءهم الجميلة تحت السماء الصافية وفي ضوء الشمس، فهل نسمح لهم بهذا الحلم الصغير، أم نبقى نهين أرقى المشاعر الإنسانية بحجة المحافظة على أخلاق المجتمع؟!
=============
محمود كرم، كاتب كويتي tloo1@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط