الإنسان العربي يملك رصيداً ضخماً من الاستبداد على مستوى الذات على حد قول الدكتور أحمد البغدادي، فهل رأيتم عربياً لا يستخدم سلطته الذكورية والدينية المستبدة في قضايا المرأة والتعليم والزواج وغيرها الكثير من الأمور، وقد يبدو هذا الأمر بديهياً إذا ما قلنا أن الإنسان العربي لا يمتلك تاريخاً زاخراً بالحريات وتراثه يكتظ بالاستبداد ولم يسعَ يوماً لتأسيس قيم الحرية وترسيخها في حياته كمنظومة ذاتية ومجتمعية وثقافية ومرجعية على مستوى الفكر والممارسة، ويدافع عنها كواحدة من أقوى الدعامات الأساسية في بناء المجتمعات والحضارات، ولذلك من الطبيعي أن تنشأ المجتمعات العربية، وهي ترى في الاستبداد ثقافة تراثية وحياتية ومنهجاً سلوكياً في الحياة بصورة عامة، بدلاً من أن تقدر قيمة الحرية وتحترمها وتسعى إلى ترسيخها كدعامة أساسية في تشكيل المناخات الثقافية والمعرفية الناهضة بالوعي الإنساني والدافعة نحو توسيع المساحات لإحياء القيم الفردية الخلاقة المتجاوزة أطر الموروث الثقافي الاستبدادي..
وأي حديثٍ عن قيم الكرامة الإنسانية في المجتمعات العربية المنساقة تلقائياً للمفاهيم الاستبدادية والمستمية في تكرارها واستيلادها من جديد تبعاً لهيمنة الأيديولوجية العروبية والدينية، يعتبر ضرباً من الهلوسات الثقافية والخداع الذاتي والضحك على الذقون، وتسويقاً غبياً لنظريات المؤامرة وتاريخيات الاستعمار، فالمجتمعات التي لا تتحرك انطلاقاً من قيم الحرية ولا تتخلق بإرادة الحرية في شتى المجالات، تبقى مجتمعات متخاذلة متقاعسة عن الدفاع عن كرامتها الإنسانية وراضية بالاستبداد وربما متلذذة به، وقد تجد فيه قدرها الذي يجب أن ترضخ له إلى الأبد، ويظلّ هذا قدرها الذي تستسلم له طواعية، ليتحول هذا القدر عبر التراسل التاريخي وتناسل الموروثات المجتمعية إلى ثوابت ثقافية وعناوين عريضة في الحياة، ليس مسموحاً بالخروج عليها أو حتى التفكير بمدى عقلانيتها أو منطقيتها أو جدوى مكوناتها الثقافية..!!
وكذلك لا معنى للحديث عن الكرامة الإنسانية في ظل مجتمعات تمارس أشد أنواع الاستبداد على المرأة بدءاً من تهميشها والقفز الصريح على حقوقها، وليس انتهاءً بعدم الاعتراف بانسانيتها وكينونتها الآدمية..!!
ولا معنى للحديث عن الكرامة الإنسانية في ظل مجتمعات تنساق إرادياً ولا إرادياً أحياناً أخرى إلى تغييب العقل في جهالات السحر والأوهام والخرافة، هروباً من مواجهة واقعها المتخلف وهروباً من مواجهة ثقافة الاستبداد، لتستسلم طواعية لقدرها المحتوم الذي أصبح الوصفة السحرية المهدئة والمسكنة والمخدرة التي تنام وتصحو عليها..
ولا معنى للحديث عن الكرامة الإنسانية في ظل مجتمعات مشبعة بالأفكار الانهزامية والعرجاء والجامدة، تلك التي تروج لها تيارات التخلف الديني من خلال طمسها لنزعة الفرد الاستقلالية ومن خلال ربط الفرد بالكامل نفسياً وثقافياً ومسلكياً بماضويات ثقافية وتاريخية قبيحة، تُعلي من شأن مرجعيات النصوص التراثية وتمنحها الحاكمية المطلقة على عقل الفرد، ولا تسمح له بالاعتراض عليها أو محاولة نقدها أو حتى التفكير فيها، فأي كرامة تبقى للفرد، وكرامته الذاتية في القرار وفي الاختيار الحر وفي التفكير المستقل وفي الحرية الشخصية، مستباحة تحت سلطة القداسات الدينية وتحت سلطة المرجعيات التراثية، وتحت سلطة القيادات الحاكمة باسم السماء..
ولا معنى للحديث عن الحريات والتشدق بالكرامة الإنسانية والمجتمعات العربية تقدس الطغيان وتهتف للطاغية وتهيم غراماً بالاستبداد وتتغنى بمآثر الطاغية والطغاة وتجد فيهم أبطالاً ومنقذين لأوضاعهم المأساوية..
أليس مَن يقدس الطغيان ويهتف للطاغية فأنه بذلك يستنطق مكنونات ذاته المخلصة للاستبداد، ويستنطق ذاته العاشقة للمستبدين ويستنطق في الأساس ذاته المستبدة، ويجد فيها نموذجه الأمثل وطريقه الأوحد، ولذلك ليس مستغرباً أن تجد الأنظمة القمعية المستبدة في هكذا مجتمعات وأفراد قطيعاً من الكائنات الفاقدة لقيم الحرية وللكرامة الإنسانية وللاحساس وللمسئولية تقوده إلى حيثما تريد وإلى حيثما تشاء، وبما أن الطغاة يحتاجون دائماً لمهرجانات وخطابات الانتصار والتتويج والمديح والقوة التي تغذي فيهم لذائذ الجبروت وشهية السلطة والتسلط، فإن مجتمعاتهم المغرمة بهم وباستبدادهم وبجبروتهم وبقوتهم وبشعاراتهم خير مَن يقيمون لهم المهرجانات والخطابات والقصائد العصماء..
لا أدري في الحقيقة كيف تريد المجتمعات العربية التي لم تستطع أن تقدم للعالم سوى نماذج إرهابية واستبدادية على شاكلة بن لادن والزرقاوي وصدام وغيرهم من نتاجات الفكر الشمولي، أن يحترمها العالم ويقدر لها تقديسها للطغيان والطغاة، وأليس معيباً وقبيحاً أنه في الوقت الذي نرى فيه تلك المجتمعات الخائبة التعيسة تهيم غراماً بالمستبدين والاستبداد، تريد من العالم المتحضر أن يناصر قضاياها ويلتفت لها ويقف معها.!
وقد يكون من الطبيعي جداً، أنه حينما تفقد المجتمعات القدرة على خلق وايجاد إرادة الحرية والكرامة والاستقلال في ثقافتها وممارساتها وفي منظومتها الفكرية والذاتية، فإنها لن تتراجع في الخضوع للاستبداد المتمثل في موروثاتها التراثية ونصوصها المرجعية وفي أنظمتها القمعية وفي نماذجها الإرهابية والمستبدة التي تصنعها باقتدار وجدارة وتقدمها للعالم على أنهما الصناعة الوحيدة التي تجيدها وتتفنن في استيلادها..
ويرى (أتيين دي لابواسيه) في كتابه (العبودية المختارة) الذي صدر قبل أربعة قرون ونصف، أن الشعوب تسقط في قبضة الديكتاتورية بثلاث آليات: إما بالاجتياح الخارجي وهو بدوره تالي للتفسخ الداخلي، وإما بالولادة في ظلام العبودية، فيستولي الإحساس على الناس أن طبيعة الحياة هكذا، وإما بالتحول التدريجي من الحرية إلى الرق كما يحصل في تدجين الحيوانات، فالخيل التي كانت تجمح براكبها تتحول مع الترويض إلى حصان يتباهى بسرجه واللجام، حيث أن العادة تجري مجرى قانون الطبيعة، انتهى..
أما في المجتمعات العربية، فليس من المبالغة القول إنها لم تزل تعيش في ظلام العبوديات الكثيرة، عبودية الذات العربية للاستبداد، وعبوديتها للنصوص التراثية، وعبوديتها لثقافة القائد الأوحد، وعبوديتها للمرجعيات الثقافية الماضوية، وعبوديتها للأيديولوجية القومية والدينية، وعبوديتها لتراكم الهزائم النفسية المتتالية، وعبوديتها للانتصارات الوهمية، وعبوديتها للشعارات الفارغة، وعبوديتها لليقينيات الشعورية والنفسية والثقافية من حيث إنها الأمة التي اعتلت مدارج الأفضلية على باقي البشر في كل شيء وما تزال واقفة عند هذه اليقينيات الوهمية..
محمود كرم، كاتب كويتي tloo1@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط