جاء في جريدة الوطن السعودية وعلى صدر صفحتها الأولى بتاريخ 7/4/2005 أن رجال الأمن السعوديين، بعدما تمكنوا من سحق الجماعة الإرهابية المتحصنة في أحد البيوت بمدية الرس، وجدوا بعض العبارات المكتوبة على بنادق المقتولين من الإرهابيين. هي عبارات تشبه كثيراً ما يكتبه المراهقون على جدران البيوت أو على هوامش الدفاتر. من أمثلة تلك العبارات "صالح بن شيبه عاشق الحور" و"كل تباكى في وصال حبيبه وأنا على الحور أنضم باكياً."
بداية، أنا لا أخفي مدى كراهيتي ومقتي لهؤلاء الإرهابيين الدمويين، لكني لا أخفي شعوري بالشفقة ولو للحظات على هؤلاء الذين أضاعوا أعمارهم هدراً وهم يطاردون خيط دخان، وباعوا حياتهم بثمن بخس وهم يظنون أنهم قد حازوا على رضوان الله، وفازوا بمكافآته التي لا تقدر بثمن في علم ما بعد الموت. عندما تتأمل كيف تتلمذ هؤلاء على أفكار ظلامية وإقصائية وكيف أودت بهم إلى هذا المصير المأسوي، تكتشف أنهم كانوا ضحايا ثلاث كذبات كبرى.
الكذبة الأولى، وهي القدرة على إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، وتحديداً إلى بدايات مخاض المشروع الإسلامي في المدينة واندفاع حركة الفتوحات الإسلامية الكاسحة. الماضي لا يعود.. تلك حقيقة تاريخية بسيطة لا يعيها أصوليو الحركات الدينية. المشكلة لا تقف فقط عند خلق فئات بشرية غارقة في عبادة الأسلاف والطواطم، بل أن هذا الماضي المقدس لم يكن كما تحقن به عقول أفراد الجماعات المتشددة ذهباً خالصاً أو أبيضاً بلون الحليب.
الكذبة الثانية، وهي أن الحركات الدينية بكل أطيافها ومسمياتها والممتدة بطول وعرض العالم الإسلامي لا ترمي من وجودها تحقيق مكاسب دنيوية أو سياسية. الحقيقة الثابتة أنه ومنذ ظهور الانقسامات المذهبية والفكرية والسياسية في الجسد الإسلامي كانت الدين هو أقصر الطرق المفضية إلى تحقيق المغانم السياسية. والحركات الدينية الموجودة على الساحة اليوم لا تملك سوى هذا السلاح التقليدي لشرعنة تواجدها ولضمان كسب الانتماءات وتدعيم صفوفها بأتباع مخلصين.
الكذبة الثالثة، وهي تتصل بسيناريوهات النهاية على كوكب الأرض والحياة الأخروية. بالرغم أن الحديث عن الغد ما هو إلا رجم بالغيب إلا أن المنضوين تحت لواء الحركات الدينية الأصولية لا يشكون ولا للحظة بترتيب وطبيعة الأحداث المستقبلية بدءاً من علامات الساعة الصغرى إلى ما ينتظره أهل الجنة من نعيم دائم أو أهل النار من عذاب مقيم. الكثير مما يكتب ويقال عن الحياة الأخروية يلامس في صياغاته الحدود القصوى للأمنيات والأحلام والخيالات البشرية والتي تجد في الحياة الأخرى عزاء لشقائها في الدنيا وتعويضاً عن خسائرها التي كابدتها على الأرض.
لقد افتقد الموت بريقه، وخسر قوته الرمزية على أيدي جماعات الإرهاب المتوحشة. لم يعد الجسد يبذل قرباناً من أجل الدفاع عن تراب الوطن ومقدراته ومقدساته، ولا من أجل الدفاع عن مبادئ وقيم التحرر والديموقراطية والمساواة. الوطن، الحرية، المساواة كلمات تضيق بها صدورهم، ولا يتسع لها قاموسهم المكتوب قبل ألف عام وأعيد تنقيحه وطباعته في كهوف تورا بورا الأفغانية. إنها كلمات ممجوجة، مكروهه، وملعونة. لقد صار الموت مشروعاً فردياً وصفقة "تجارية" يتنازل فيها المنتحر عن الرصيد المتبقي من أيامه في الدنيا على أن يمنحه الرب قصراً في جنة عرضها السماوات والأرض، وأنهاراً من لبن وعسل وخمر، والأهم سبعين حورية على الأقل كلما عاد إليهنّ وجدهنّ عذارى من جديد.
هل تذكرون فرقة الحشاشين (= الإسماعيلية النزارية) التي دوخت الحكومات السنية أكثر من قرنين من الزمن؟ كان شيخ الجبل ـ إن صحت الروايات ـ يملك جنة صغيرة معلقة في مكان ما في الجبل، مكسوة باللون الأخضر ومملوءة بالنساء الجميلات والخمر والحشيش. كان الرجل يعيش فيها أياماً أحلى من العسل. فإذا ما حان الوقت، استدعاه شيخ الجبل، وأعطاه خنجراً، وقال له: أذهب لقتل فلان من الوزراء أو الحكام أو القادة، فإذا ما فعلت ضمنت لك هذه الجنة للأبد.
المرأة التي تسببت في شقاء البشرية وخسران الأبدية في الجنة هي التي ينتحر في سبيلها الرجل لكي يصعد إليها. إثارة الخيالات الشبقية ودغدغة الأحلام الجنسية لم يكن سلاحاً ناجعاً بيد تنظيم القاعدة أو الحشاشين فقط، بل أن النبي محمد ربما يكون هو أول من ابتكر من عندياته هذا "الواقع المتخيل" في إطار شحذ همم رجاله وتحفيزهم للدخول في الإسلام والقتال في سبيل الله.
في ظل تكاثر عمليات الانتحار المجانية والعبثية هنا وهناك، وفي ظل تأكيد المنتحرين في وصاياهم على أنهم ذاهبون لا محالة للفردوس الأعلى وإلى أحضان حوريات الجنة الساحرات الجمال، أتساءل: ترى لو قيض للنبي محمد أن يعود اليوم، أتراه سيكون راضياً بما يصنعه أتباعه المخلصون من قتل لأبناء جلدتهم من أجل الفوز بحور العين؟ أتراه لو أنه قد قدر له أن يولد ويبعث في بلاد أخرى غير أرض الجزيرة الصحراوية، هل كان سيبهر أصحابه بما ينتظرهم في السماء من حور العين؟ وأخيراً، كيف ستكون صدمة قوافل المنتحرين عندما يكتشفون أن حور العين ما هي إلا زبيباً حسب بعض التفسيرات القرآنية، هل سيرفع هؤلاء السلاح ويثورون من جديد على الإله؟
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط