يتبرم الوهابيون من ذكر كلمة الوهابية ومشتقاتها، معللين ذلك بأن عرَاب الحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يطرح مشروعا جديدا، بقدر ما كان الهدف ببساطة العودة إلى ينابيع الدين الأولية الصافية، وأحياء نهج السلف فترة تكوين الدولة الإسلامية. وبالرغم من نجاح الحركة بالفعل في إزالة المظاهر الشركية الشائعة آنذاك إلا أنها لم تكن موضوعية تماماً في التعاطي مع تراث السلف، بل وسلكت نوعا من الانتقائية، وخاصة فيما يتصل بالمرأة، وهو لب المقالة هذه.
إن من يقرأ التاريخ يجد بلا عناء أن المرأة في صدر الإسلام وفترة تبلور المشروع الحضاري الإسلامي قد حظيت بموقع متميز تحسدها عليه نساؤنا اليوم. فهذه هند بنت سهيل المخزومية (أم سلمه) زوجة "النبي"، تفر بدينها من مكة إلى المدينة، تحمل طفلها دون أن يشترط أن يرافقها محرم أو إذن كتابي من ولي أمرها. ونجدها بعد انخراطها في المجتمع المدني، تشارك في العديد من الغزوات لتوفير الدعم اللوجستي للخطوط الأمامية، وأحياناً تتحول إلى مقاتلة إذا استدعت الظروف دون أن تجد من يستقبح اختلاطها بالرجال. وتلك سكينة بنت الحسين بن علي ما انفكت تعقد مجالس العلم والأدب وتخالط الرجال والنساء، وليس من وراء حجاب، بل وتبرز في معترك السياسة كمعارضة لنظام بني أميه السلطوي. وفي هذا الصدد، يورد الدكتور رفعت السعيد في كتابه (المتأسلمون: ماذا فعلوا بالإسلام وبنا) نقلاً عن الفقيه الهندي السيد الأمير علي الهندي نماذج مضيئة لنساء عربيات مسلمات من أمثال فاطمة الزهراء والتي كانت تحاضر في أمور الدين والدنيا وفي جمع من الرجال والنساء، والشاعرة "فضل" التي علا صيتها زمن الخليفة المتوكل، و"شهده" التي كانت من أبرز المتحدثين في التاريخ والأدب خلال القرن السادس الهجري، وكذلك "زينب أم المؤيد" حيث كانت من أبرز فقهاء عصرها.
أتساءل هنا، هل سيكون بمقدور أي من هؤلاء النسوة وغيرهن كثير، لو قدر لهن أن يعِشنَ في الوقت الحاضر، من الحصول على فرصة لممارسة أدوارهن التي أبدعن فيها بحرية، والتعبير والتفكير بأريحية، ومخالطة العامة دون الاصطدام بالمؤسسة الدينية الرهيبة ومن ورائها بالجموع الغفيرة من أفراد مجتمع لم يشب عن الطوق بعد، حيث مازال يرضع من حليب فتاوى منتهية الصلاحية، ويحقن بأحاديث جلها مختلق، وباجتهادات فقهية منغلقة وإقصائية تعادي في الجملة غير المسلم والمسلم الآخر والمرأة؟ إن نظرة عابرة على واقع المرأة المسلمة عامة والسعودية خاصة، يكشف عن بشاعة تواطؤ المعتقدات الوهابية المتشددة (ولا أقول الدينية الأكثر رحابة وإنسانية) مع النزعة الذكورية للرجل الشرقي عامة والسعودي خاصة في ضرب موقع المرأة، ومصادرة حقوقها التي كفلتها العدالة الإلهية والتشريعات القانونية المعاصرة.
لقد نجح الصلف الوهابي بدون مواربة في تركيع المرأة، ومصادرة حقوقها، وتمييع هويتها، فصارت مجرد تابع للرجل، ووعاء لارواء شهواته الجنسية، وأداة فقط لضمان التكاثر وبقاء النوع البشري، دون مراعاة أو الاعتراف بأن لهذا المخلوق الحق في أن يكون لها طموحات شخصية بخلاف الزواج والإنجاب. وللأسف فإنك تجد من بين النساء قطاع لا يستهان به يستمرئ التبعية وعدم التمرد على الأوضاع الراهنة، لا من خوف فحسب، ولكن لأن الدين يفرض عليهن الطاعة والانسياق وراء الرجل مثل ظله، وهو ما ينطبق عليهن قول القبطان الفرنسي ميسون في كتابه القرصان: إن الذين يولدون ويترعرعون في العبودية، يرقصون على أنغام أغلالهم. وبالطبع فإنه لا يجب أن يفهم من تلك الكلمات أني أدعو للتهتك والانحلال الخلقي كما قد يفهم السذج والبسطاء من الناس. وهذا ما يفسر لماذا المطالبة – ولو بنزر يسير من حقوق المرأة – تقمع بقوة وبشكل مبكر بحجة أن تحقيق مثل تلك المطالب سيفتح الباب تدريجياً لما هو أكبر، وبذلك ينجح دعاة العلمانية والتغريب من إفساد وتدمير المجتمع (هكذا!!!).
وسأورد في السطور التالية بعض الأمثلة على مظاهر وصور الامتهان التي تمارس بحق المرأة بدعوى الحفاظ على كرامتها وصيانتها من الأذى كما يفترون:
1 ـ فرض الحجاب قسراً على المرأة (لا يعترفون بغطاء الشعر ولكن بالغطاء الكامل لجسد المرأة) والتشديد على الالتزام به، والاستماتة في الدفاع عنه بشكل يدعو للريبة من وراء كل هذا. ومن سوء حظ الوهابية أن قراءتها المبتسرة للنصوص القرآنية لا تسعفها بحجية الحجاب وشرعيته، ولعل هذا ما يفسر تباين شكل ووظيفة الحجاب من مكان لآخر عبر العالم الإسلامي. واكتفي هنا بالإشارة إلى أن آية الحجاب (سورة الأحزاب 53:33) تخص زوجات "النبي" فقط، أما آية الخمار (سورة النور 31:24) فالمقصود بها تغيير عرف سائد، حيث كانت النساء يكشفن صدورهن، لذا جاءت الآية بقصد تغطية الصدر، أما الآية الأخيرة، أي الجلابيب، (سورة الأحزاب 59:33) فالقصد منها التمييز بين النساء الحرائر والإماء (الجواري). للتوسع يمكن الرجوع إلى كتاب المستشار محمد العشماوي والموسوم "حقيقة الحجاب وحجية الحديث"
2 ـ منع المرأة من قيادة السيارات كحالة استثنائية تنفرد بها السعودية دون بقية العالم، وهو ما ينصب في تكريس وهم الخصوصية السعودية، وكأننا كائنات حطت من كوكب بعيد. لا يجد الوهابيون – من حسن الحظ- نصاً يلوحون به في فرض هذا القانون الظالم سوى الإدعاء بأن القيادة ستعرض المرأة لمشاكل لا حصر لها، وقد تكون وسيلة لتسهيل حالات الزنا والاغتصاب، وهو هاجس يظلّ أحد شواغل المتشددين. إن مخاوف الوهابية من الانفلات الأخلاقي عند السماح للمرأة بالقيادة يشي ضمناً بحالة من الاحتقان الجنسي المصاب بها المجتمع نظير جدران العزلة التي شطرت المجتمع إلى نصفين. كما أن تعامل الوهابيين مع مسألة القيادة النسائية يكشف عن تناقضات صارخة صارت إحدى سمات الفكر الوهابي. كيف؟ يرفض المتشددون أن تقود المرأة سيارتها ولكنهم لا يمانعون بوجود السائق الأجنبي رغم ما ينطوي عليه هذا التصرف من تداعيات اقتصادية واجتماعية يدركها الكل.
3 ـ الوقوف بشدة أمام دعاوى منح المرأة بطاقة شخصية خوفاً من أن يرى موظفو القطاعين العام والخاص وجه المرأة الذي يعد عورة يحرم كشفه أمام الغير، وهذا التعليل بالرغم من تهافته وسقمه وكشفه لعقلية بدائية إلا أن الباعث الحقيقي من وراءه إبقاء المرأة تحت وصاية الرجل لأن البطاقة الشخصية ستمنح المرأة حرية التحرك الجزئي بدون ولي أمرها، وهذا مقدمة – كما يراها الوهابيون – لكسر طوق الرجل. ويلاحظ أن هذا العنت لا يلين رغم ما يتردد عن عمليات تزوير ونصب جرت لأن القاضي أو الموظف لا يجرؤ على مطابقة وجه المرأة الماثلة أمامه بصورتها في البطاقة الشخصية.
4 ـ تضييق الفرص التعليمية وذلك بحصرها في مجالات لا يترتب عليها بعد التخرج الاختلاط بالرجال إلا في حدود الطب والتمريض. فعلى سبيل المثال، لا تستطيع الطالبة الالتحاق بأقسام الهندسة والزراعة والإعلام، وهذا التحريم فرضه الوهابيون على الحكومة مقابل السماح بإعطاء البنات حق التعليم. كما يحرم على الطالبات ممارسة الرياضة ولو لساعة واحدة، ربما خوفاً من إثارة انفعالات جنسية مكتومة بين الطالبات، أو أن السماح بساعة واحدة سيجلب في المستقبل مطالب بانخراط المرأة في ميادين الرياضة التي هي حكر على الرجل. وتبقى مسألة منع الأستاذ الجامعي من مواجهة الطالبات في قاعة الدرس إلا من خلال شبكة تلفزيونية عادة ما يشرف على مراقبتها موظفون متدينون خوفاً من حدوث ما يكره إحدى سمات التدين الوهابي المتغلغل في خلايا المجتمع السعودي الذي قل أن تجد له مثيلاً في دول العالم.
5 ـ تكبيل نشاط المرأة الاقتصادي من خلال اصطناع معوقات تنظيمية، مثل وجود وكيل (رجل) لإنجاز المعاملات الاقتصادية، بصرف النظر عن نوع العلاقة بين الطرفين، المهم أن يكون رجلاً، وهذا ما قد يخلق مشاكل في حالة لو أساء الوكيل المهام المناط به لمصلحته الخاصة. والرجل ليس كلمة السر في إتمام المعاملات المالية، بل يمتد سلطانه عليها – مادامت المرأة ناقصة عقل ودين – حتى لو أرادت السفر خارج البلاد، والأدهى من ذلك أنها قد تتعرض للطرد والأذى النفسي لو تجرأت في الذهاب لمطعم أو مقهى دون صحبة ولي أمرها.
غير أن ما يثير التساؤل في هذا الموضع: أين الحكومة من كل هذا؟ أعتقد أن الإجابة على سؤال كهذا يجب قراءته في سياق العلاقة العضوية التي تجمع المؤسسة الدينية الضخمة بالنظام السياسي القائم منذ البدايات الأولى للدولة السعودية الأولى. إذ أنه من الملاحظ أن الحكومة السعودية تتمتع باستقلالية نسبية في صناعة سياساتها الخارجية ورسم الخطط الاقتصادية، غير أن بناء سياسات الداخل والإشراف عليها فيما يتصل بالجوانب التعليمية والتربوية والإعلامية ظلت رهن المؤسسة الدينية وفلسفتها الذاتية في صياغة المجتمع بما ينسجم مع تصوراتها الوهابية الصرفة، وهو ما يمكن تسميته بازدواجية السلطة أو تقاسم المهام بين الطرفين.
وبالمقابل فإن التعويل على خصوصية العلاقة الحكومية – الوهابية (كعامل مؤثر) في الوقوف على انتكاسات قضية المرأة يمكن إعادة توظيفه في استجلاء الخطوات الإصلاحية المحتشمة لأوضاع المرأة السعودية في الآونة الأخيرة. بكلمات أخرى، شهدت العلاقات بين الحكومة والكتلة الوهابية حالة من الفتور النسبي، يعزى جله إلى الاتهامات الأمريكية للسعودية في أعقاب التفجيرات الإرهابية التي طالت الولايات المتحدة الأمريكية، وتوجيه التهم للسعودية في صناعة وتمويل الإرهاب الديني. وبالرغم من محاولات المتدينين دفع التهم، وإعادة تصديرها للخارج، إلا أن الحكومة قد أدركت وبضغوط خارجية – ولو جاء ذلك متأخراً – نتاجات العبث الديني والمتمثلة في عيوب كبيرة، مثل خلق شوفونية وهابية، وتصعيد العداء للغرب برمته، وكراهية للطوائف الدينية الأخرى، وإقصاء غير مبرر للمرأة من المساهمة بدورها في بناء المجتمع بجانب الرجل.
لا يمكن إنكار أن الأفق يحمل بشائر تغيير إيجابية للمرأة، وهذا ما يمكن استشفافه من تعليقات المسؤولين وخفوت نبرة التشدد لدى رجال الدين، ومشاركة المرأة ضمن فعاليات الحوار الوطني، والحديث عن توفير مقعد لها في تركيبة مجلس الشورى، والسماح لها بتأسيس جمعيات أدبية وثقافية، وإلزامها بالحصول على بطاقة شخصية.
جميعها تحولات قد تبدو رمزية ولكنها تخطو للإمام، ثم أنه يجب أن ننظر إلى النصف المملوء من الكأس، وأن نتسلح بشيء من التفاؤل. لكن يبقى الجزء الأكبر من المسؤولية ملقى على عاتق المرأة وخاصة المثقفة في استثمار هبوب رياح التغيير الخفيفة للمطالبة العقلانية والهادئة بمزيد من الحقوق الإنسانية المهدرة، وتجنب مبدأ حرق المراحل. المهم أن تتذكر المرأة أن الحقوق تنتزع ولا تهدى.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط