مولده ونشأته :
ولد المعلم بطرس البستاني في قرية الدُبِية من إقليم الخرّوب بجبل لبنان سنة 1819، ثم درس القراءة العربية والسريانية على يد الخوري ميخائيل البستاني، وأُرسلَ بعد ذلك إلى مدرسة عين ورقة حيث درس علوم اللغة العربية، واللغات السريانية واللاتينية والإيطالية والإنكليزية والفلسفة واللاهوت الكنسي.
مع الإنكليز والأميركان:
في عام 1840 هبط البستاني بيروت، ووافق هبوطه إليها قدوم مراكب الدول الأوروبية المتحالفة مع تركيا، وانتشارها على سواحل لبنان تريد دحرَ جيوش إبراهيم باشا وإخراجها من البلاد. فاستخدم الإنكليز المعلم بطرس ترجماناً. وفي تلك الأثناء اتصل ببعض مرسلي الأميركان واتفق وإياهم على أن يعلمهم العربية ويعرّب لهم الكتب وقد اعتنق مذهبهم. وفي سنة 1846 عاون الدكتـور كرنيليوس فانديك في إنشاء مدرسة في عبيه، وتولّى فيها التعليم عامَيْن ألَّـف في خلالهما كتاباً في الحساب أسماه "كشف الحجاب في علم الحساب". ثم كتاباً في النحو أسماه "بلوغ الأرب في نحو العرب".
وفي سنة 1848 تولى وظيفة الترجمة في قنصلية أميركا. وفي تلك الأثناء درس اللغتين اليونانية والعبرانية، وقام بأعمال شتى في الجمعيات المختلفة، وعاون الدكتور عالي سمث في ترجمة التوراة . ثم باشر تأليف معجميه المشهورين "محيط المحيط" و "قطر المحيط". وفي سنة 1860 أنشأ صحيفة وطنية دعاها "نفير سورية" وقد رمى فيها إلى تقريب القلوب بعد المجازر التي جرت في تلك السنة.
رجل المشاريع الوطنية:
في سنة 1863 أنشأ "المدرسة الوطنية" على قاعدة الحرية الدينية ومبدأ الجامعة الوطنية، يريد بها تأليف القلوب ونشر المبادئ الوطنية على صدق في جانب الدولة وإخلاص في جانب الوطن فقصدها الطلاب من جميع البلدان الشرقية، وكان لها أثر واسع.
وفي سنة 1870 أنشأ صحيفة "الجنان" ثم جريدة "الجنة". وفي سنة 1875 شرع في وضع "دائرة المعارف" وقد عاونه فيها ابنه سليم. وقد أبدى من الهمة في تأليف هذا الكتاب وطبعه ما لا يُتَوقَّع من فرد.
وفاتهُ:
توفي البستاني سنة 1883 بعد حياة ملأها بالأعمال المجيدة في خدمة الوطن والعلم، وقد كان مثالاً للجلد والثبات، والدأب على العمل، والبذل في سبيل الخير.
آثاره:
لبطرس البستاني آثار كثيرة. ففضلاً عن كتاباته في الصحف، وفضلاً عن مساهمته في ترجمة التوراة، له مؤلفات في النحو واللغة والأدب والرياضيات والاجتماع.
في النحو واللغة والأدب وما إلى ذلك: "مصباح الطالب في بحث المطالب" وهو شروح علقها على كتاب "بحث المطالب" للمطران جرمانوس فرحات؛ و"مفتاح المصباح"، و"بلوغ الأرب في نحو العرب" وهو لا يزال مخطوطاً؛ و"محيط المحيط" وهو قاموس مرتب على حروف المعجم يقع في مجلدين؛ و"قطر المحيط" وهو مختصر للسابق؛ و"آداب العرب" وهو خطاب ألقاه في 15 شباط سنة 1859 في الأدب العربي وأسباب انحطاطه ومستقبله؛ وشرح ديوان المتنبي" و "دائرة المعارف" وهي، "قاموس عام لكل فن ومطلب" كان الأول من نوعه في اللغة العربية بل كان عملاً جباراً يقوم به فرد من الأفراد. "دائرة المعارف" هذه، أصدر منها المعلم البستاني ستة أجزاء وفاجأته المنية وهو يعدّ السابع، فأتم ابنه سليم عمله من بعده، فأصدر الجزأين السابع والثامن، ثم توفي، فتابع العمل أبناؤه الباقون يساعدهم نسيبهم سليمان البستاني وأصدروا الأجزاء التاسع والعاشر والحادي عشر، ثم توقف العمل قبل نهايته.
في الرياضيات: "كشف الحجاب في علم الحساب" و"مسك الدفاتر".
في الاجتماع: للمعلم بطرس البستاني خطب كثيرة في الاجتماع من أشهرها: "تعليم النساء" و "الهيئة الاجتماعية" و "المقابلة بين العوائد العربية والإفرنجية". إلى غير ذلك من الموضوعات الهامة.
المعلم بطرس البستاني رجل الاجتماع:
أراد المعلم بطرس البستاني أن يكون رجل إصلاح وعمل شريف في أمَّته فعالج ذلك بطرق شتّى تارة بتأليف المعاجم والكتب المدرسية لإنهاض الحالة الثقافية وتارة بانتمائه إلى الجمعيات العلمية والعمل فيها بنشاط، وتارة بالتدريس وإلقاء الخطب. ولكن الموضوع المهم الذي عالجه في الاجتماع هو المرأة ووجوب تعليمها.
قال جرجي نقولا باز متكلماً عن المعلم بطرس البستاني: "انه كان أول من ناصر المرأة في سورية على منبرٍ، بل أول رسول نسائي سوري دعا إلى تعليمها وتهذيبها.. وكان بودّه إنشاء مدرسة نسائية كالمدرسة الوطنية ما ساعدته عليها الأيام". وقد جمع المعلم بطرس البستاني آراءه في شأن المرأة في خطابه الذي ألقاه في 14 كانون الأول سنة 1849 ، ومرجعها إلى وجوب تعليم المرأة. فهو يرى أنه من الضروري أن تنال المرأة من التثقيف والتهذيب قسطاً وافراً يساعدها على القيام بعملها الاجتماعي. ويبين أن تلك الضرورة ناتجة عن طبيعة المرأة التي هي كائن حي ناطق، وناتج أيضاً عن عملها الاجتماعي. فيوضح أولاً موقف من لا يؤيدون هذا الرأي ويبسط براهينهم وإذا هي أوهام، وإذا ما يحسبونه برهاناً لهم يقوم شاهداً على قلة تعمقهم في حقيقة الأمر، والجهل الذي يحسبونه حصناً دون فساد المرأة وفساد المجتمع، ودون شرفها وعملها التربوي، ليس هو في الحقيقة إلا قتلاً لعملها فيما أن العلم "ترياق في فم عليل مدنف أو صَبَ زيت وخمر على جرح بليغ".
وهو بعد ذلك يلقي نظرة على حالة المرأة في الأمم الوثنية والبربرية ويرى أن حالتها ليست بعيدة عن حالة البهائم، وذلك دليل على تقهقرهم ووحشيتهم، فيما أن للمرأة في البلاد الأوربية حقوق الرجل، ويلقي نظرة على المرأة في بلادنا لذلك العهد، وإذا حالتها وسط بين حالة المرأة في الأمم البربرية وحالة المرأة في الأمم المتمدنة، وذلك دليل على أن البلاد لا تزال في تقهقر وانحطاط اجتماعي. ومن ذلك يتطرّق البستاني إلى بسط براهينه في وجوب تعليم المرأة، ومن أهم تلك البراهين أن المرأة: "لم تُخلَق لكي تكون في العالم بمنزلة صنمٍ يُعبد، أو أداة زينة تُحفظ في البيت لأجل الفرجة؛ ولا لأن تصرف أوقاتها بالبطالة وكثرة الكلام والهذيان، أو تقتصر من الأعمال على كناسة البيت مثلاً.." بل أقامها الله ، "أماً للخليقة" فهي بحاجة إلى نور وثقافة لكي تستطيع أن تربي الخليقة تربية راقية، ولا سيما وأنها من طبعها خُلقت للمعرفة، "فإذا نظرنا إلى ما أسبغه الله عليها من القوى العقلية والأدبية كالتمييز، والذاكرة، وقابلية التعلّم والتعليم، والميل إلى الخير والشر، وهلم جراً، نستدل على أن هذه القوى لم تُعْطَ لها عبثاً دون غاية".
ويرى أن العلم في المرأة هو على وجه ما من شـروط العلم في الرجل فيقول: "انه لا يمكن وجود العلم في عامة الرجال دون وجوده في عامة النساء، كما أنه لا يوجد نساء عالمات في عالم من الرجال جاهل."
أما مواد تعليم المرأة فمرجعها إلى ما تحتاج إليه للقيام بواجباتها أي إلى الديانة، واللغة التي ولدت فيها، والقراءة، والكتابة، وعلم تربية الأولاد، الاعتناء بالبيت من خدمة ونظافة وخياطة وطبخ واهتمام بالمرضى، والجغرافية والتاريخ والحساب.
وأما فوائد تعليم المرأة فكثيرة منها "انه يوسع قواها العقلية ويهذبها، ويوقظ ضميرها وينبهه ويحييه؛ ويقوّم إرادتها وعواطفها الأدبية، وترتيب سلوكها وتصرّفها. فيزيد رقة قلبهـا رقة، وحنوّها حنواً، ولينها ليناً.." ومنها أنه يجعل المرأة مكملة لما ينقص زوجها من الصفات، ومنها أنه يجعل الأم نوراً ومثالاً لأبنائها..
وأما مضار جهل المرأة فكثيرة أيضاً، منها أن الجهل يُفسد ذوقها وعقيدتها وآدابها، ويفقدها المحبة الطبيعية حتى نحو أولادها.
تلك هي آراء البستاني وهو يسوقها في حجة قوية وعلم واسع وهدوء مؤثّر وكلام رصين.
المعلم بطرس البستاني الكاتب:
تمتاز كتابة بطرس البستاني بالانسجام والطبعية البعيدة عن كل زخرف وتنميق، وبالبساطة في اختيار الألفاظ والأساليب، والسهولة في اللفظ والتركيب؛ وان هذه الميزات مضافة إلى رصانة الكاتب، وقوة حجته، وجلاء بيانه، تُكسبُ كلامه جلالاً وتصبغه بصبغة العلم الحقيقي الذي لا يطلب إلا الحقيقة والمعاني ولا يريد من اللغة إلا التعبير عن تلك المعاني بدقة وجلاء. وهو على بساطة أسلوبه بعيد عن الإسفاف.
منزلتُه:
كل ما تقدم من جليل الأعمال يجعل المعلم بطرس البستاني من أكبر أركان النهضة. فهو على حد قول جرجي زيدان "في عصره زعيم الحركة الدبية في سورية من حيث المدارس والجمعيات والجرائد والمجلات واللغة والعلم والأدب".
(من كتاب تاريخ الأدب العربي لحنا الفاخوري. المطبعة البولسية 1960)
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط