يقول أحد الفلاسفة لا يحضرني اسمه (الإنسان حيوان يقيني)، أي بمعنى أنه دائم النزوع نحو الاعتقاد بعقيدة ما أو بدين ما إلى درجة اليقين المطلق به، وهو الاعتقاد الذي يوفر له أماناً روحياً وسبباً مقنعاً ولو شعورياً لماهية وحقيقة وجوده في الحياة، وهو الاعتقاد الذي يجنّبه بالتالي ويلات الحياة كما يؤمن ويعتقد، ويمنحه تبعاً لذلك هويةً تتمظهر في ثقافته ومسلكه وشكله وطريقته، ولكن المشكلة عندما تتأسس اعتقادات الإنسان الدينية العقائدية والمذهبية على منظومة ثقافية شديدة التحكم والسيطرة والتوجيه بحياته وبتفكيره وبعقله وباختياراته وبعلاقاته، وتتجذر في عقله وتفكيره ووعيه وأسلوبه كحقائقَ دوغمائية عاكسة للتعصب والانغلاق والتزمت والنبذ..
وعادةً ما يتشكل النسق الاعتقادي عند الإنسان، ويتعمّق ويتنامى، ومن ثمَّ يتمسرح حياتياً في ترديدات سردية طافحة بصيغ يقينية مكررة ورتيبة، ويتقولب في طقوس صوتية وشفهية معينة، ويقدم استعراضاته في أشكال رمزية، أقول يتشكل هذا النسق عبر منظومة دينية تفسيرية جاهزة، تتراسل وتتراكم من خلال امتداداتها الوراثية الصارمة، وتترتب على ذلك الاعتقاد اليقيني جملةً من المسؤوليات الدينية التي عادةً ما تتخذ شكلاً توجيهياً وسلطوياً متوجاً بنبرة الخطاب الوعظي الإرشادي، والذي بدوره يجب أن يأتي متطابقاً مع أصله الماضوي التوارثي..
وإذا ما رجعنا إلى تاريخ الإنسان تحديداً في صراعه الدائم مع مفاهيم الوجود والألوهية والكون والحياة عموماً، سنجد أنه تاريخ طويل من الصراع بين الشك واليقين، بين السؤال واللاسؤال، بين الاعتقاد واللااعتقاد، بين الذاتي والجماعي، بين الوهمي والواقعي، ولم تزل تلك المفاهيم إلى يومنا هذا في علاقاتها التداخلية والتشابكية والتشاركية مع الإنسان وجوداً وعقلاً وذاتاً ووعياً تتصارع دائماً في دائرة الشك واليقين، بينما يبقى أولئك المتيقنون بإطلاقية تامة من تعاليمهم واعتقاداتهم ومعتقداتهم الدينية والمذهبية بحكم نزوعهم اليقيني لها، ويتوارثونها أباً عن جد، وينأون بها عن نظريات البحث العلمي وفضاءات الشك وجدية التساؤلات الاستنطاقية المعرفية، أولئك يجدون أنهم ليسوا بحاجة إلى اخضاع اعتقاداتهم ومعتقداتهم للشك والتساؤل أو للبحث العلمي والدراسة المنطقية، لأنهم مؤمنين بها تلقائياً وشعورياً ووراثياً ويقينياً، وكما يقول العالم الفلكي كارل ساغان : لا يمكنكَ اقناع المؤمنون بأي شيء، لأن عقائدهم لم تبنَ على دليل، إنه مبني على رغبةٍ عميقة لديهم للإيمان..
وإذا ما أردنا أن نفهم كيف يتأسس الاعتقاد الديني بتفسيراته الماورائية اليقينية والغيبية، وباستحقاقاته المرجعية الإلزامية على الفرد، ويتحول فيما بعد إلى محرك ثقافي ونفسي وتاريخي وأسطوري أيضاً، يدفع بأتباعه دائماً نحو التمسك به إيمانياً وقيمياً ومسلكياً وكلامياً، علينا أن نفهم أن المنظومة الدينية عموماً إنما تتأسس على فكرة الاعتقاد الغيبي وعلى الثقة النظرية بها، الثقة الكاملة بها من حيث كونها منظومة منزّهة عن الخطأ والهنات، ومنظومة متألهة ومتكاملة لا تشوبها الثغرات أو النقائص، وهي الثقة التي تجعل الفرد يُكثر من الاستشهاد بمرجعياته النصيّة الدينية الاعتقادية على إنها نهائية وقطعية ولا زمنية، وعادةً ما يؤمن الأفراد بمنظومتهم الدينية بعيداً عن الدخول الواقعي بها في عملية الاثبات التجريبي، على اعتبار إنها في غنىً عن اثباتها تجريبياً على الواقع، بل تكفي الثقة والاعتقاد الغيبي بها، وهما يغنيان عن اثباتها عملياً وواقعياً، ولذلك نجد أن الكثير من الاعتقادات الدينية تبقى تحتفظ بأدبياتها ومنقولاتها ونصوصها التراثية في الفضاء النظري فقط، وتبقى مجرد أفكار يستحيل تطبيقها على الواقع، أو في حالةٍ أخرى قد تحمل بذور فشلها إذا ما جُربت على الواقع، أو إنها تتلاشى بمجرد أن تلامس تعقيدات وإشكالات الحياة المتغيرة والمتصاعدة والمتطورة، أو إنها تظلّ عاجزةً عن تقديم الحلول للمشكلات المعاصرة التي تفرزها الطبيعة المتغيرة للحياة، أو إنها تضمر توحشاً مسبقاً من مسألة التعايش مع الأفكار الأخرى المختلفة عنها، ولذلك ربما يصح القول أن الاعتقاد الديني المبني على الثقة فقط، من دون الدخول به في معترك الاثبات التجريبي، قد يساوي الجهل من ناحية أخرى، الجهل بمدى جدوائية تفعيله واقعياً وعملياً في الحياة، وهو الجهل الذي يُوفر لصاحبه راحةً عقلية، ويُبعد به عن البحث عن أي دليل علمي أو منطقي أوعقلي لاعتقاداته الدينية، فالثقة النظرية والاعتقاد الغيبي بالمنظومة الثقافية الدينية لا تعنيان إنها منظومة مناسبة للإنسان وللحياة بشكل عام، من غير أن نجد لها مدلولات عملية وملموسة وصالحة في الميدان التجريبي، وكما يقول العالم الفيزيائي ريتشارد فينمان : لا يهم كم جميلة هي نظريتك، ولا يهم كم ذكي أنت، إذا لم تتفق مع التجربة فهي خاطئة..
وليس من المبالغة القول أن التسليم المطلق والخضوع الكامل للاعتقادات الدينية اليقينية والغيبية والجاهزة، إنما ينشأ أساساً من حالة نفسية، ارتضت أن تكون مهيأة تماماً للتماهي والتطابق مع سلطة الاعتقاد الديني المتوارث والسائد والمتداول، وانقيادها بالتالي ليقينية أفضليته المطلقة على باقي الاعتقادات الأخرى، من دون اخضاعه للنقد أو التفكيك أو التمحيص أو التجريب العملي، وهذه الحالة النفسية المنقادة طوعاً أو جبراً للاعتقاد السائد والمتوارث، تسلبُ من الفرد حريته في الاختيار من بين المعتقدات والأفكار الأخرى وفقاً لحقه الإنساني في التفضيل بينها بحرية تامة، واختيار ما يناسبه منها، من دون الادعاء والتبجح بأفضليتها المطلقة وصفائها الكامل، وعادةً ما تكون الحالة النفسية هذه، والمعبأة تلقائياً بقوة الموروث الديني وتبعاته، عاكسة فعلية لنموذجها النفسي الذي تراه يأتي أمامها في تجلياته التاريخية الماضوية مصحوباً بهالاتٍ من القداسة والأسطرة والتنزيه..
وفي جانب آخر ربما يجدر بنا أن نتساءل : لماذا تتمتع الاعتقادات الدينية بكل هذه الهيمنة الكاملة على الفرد المسلم التقليدي وغير التقليدي، وتتمتع أيضاً بالقدرة الهائلة على صياغة تفكيره وأسلوبه وطريقته وحالته النفسية والشعورية، ولكي نجيب على ذلك علينا في الحقيقة أن نفهم طبيعة العلاقة بين الفرد وبين الاعتقاد النصي الديني في أبجديات وتراكمات الفكر الديني، وبوضوح شديد أستطيع القول أن العلاقة بينهما تقوم على مبدأ تبعية الفرد وانصياعه الكامل للنص الديني، فالنص الديني هو الطرف الأقوى والمهيمن في هذه العلاقة، وعليهِ فهي في الأساس علاقة أحادية يتحكم بها طرف واحد استحواذي وتسلطي، والنص الديني في هذه العلاقة يملك كل الحق في الهيمنة والتوجيه والحاكمية والوصاية، بينما الفرد في هذه العلاقة لا يملك أية حقوق على النص الديني، الطرف الذي يفترض منه في هذه العلاقة أن يبادل الفرد حقوقاً أخرى، كحقهِ في الاعتراض عليه أو كحقه في التساؤل حوله أو كحقه في التشكيك فيه، فهي دائماً تنتهي إلى علاقة سالبة وقامعة لحق الطرف الآخر فيها، وهي العلاقة التي ترسخ وتجذر في الفرد تبعيته وخضوعه واستسلامه للنص الديني..
وبحكم هذه العلاقة يبقى الفرد في مقابل النص الديني، طرفاً متلقياً فقط، وتابعاً ومنقاداً، ومسلوب الحق والإرادة والقرار والاختيار، وفي ظل هذه العلاقة يعمل النص الديني بتراكماته وبتفسيراته وباستعراضاته وبوعيده وبتوعداته على تغييب حق الإنسان في الاختيار، فيطمس فيه حقه في القرار والتفكير باختيار آخر قد يراه في مرحلةٍ ما من حياته مناسباً لميوله ولحالته الذاتية ولطريقته وأسلوبه في الحياة، ولذلك يعمل النص الديني في هذه العلاقة على ترسيخ قناعة في أتباعه تتمثل في أنه الطرف الوحيد الذي يملك الحق في احتكار الحقيقة، وهو الطرف المانح للفرد وعيه العدائي الخاص، القاضي بضرورة التصدي للاعتقادات الأخرى والنيل منها وعدم الاعتراف بها والانتقاص منها، وهو الطرف الذي يسد في وجه الفرد نوافذ الأسئلة وفضاءاتها الكثيرة ويعمل على مصادرتها فوراً قبل أن تتوالد وتتشعب، فالاعتقاد الديني الدوغمائي عادةً ما يقتل في الفرد ثقافة السؤال، ويحيله إلى طرف متلقٍ للجواب الجاهز واليقيني والسائد والمعلب والساذج فقط، لأن الفرد كلما كان مسكوناً بزخم الأسئلة الكثيرة والجريئة والإحراجية وغير المألوفة، كان في مقابل ذلك تواقاً للمعرفة وساعياً لها ومفتشاً عنها، فثقافة السؤال طريق للمعرفة، والمعرفة المشرعة على مختلف العلوم الإنسانية فضاء حاضن للتنوع والتعدد والاختلاف، عكس الاعتقاد الديني الذي ينكفأ على نفسه ويفضّل الارتداد إلى الداخل، ويتوجس من الانفتاح على العلوم والمعرفيات والفلسفات الإنسانية الطافحة بالتساؤلات الحائرة والجريئة والمتغايرة، وأشد ما يتوجس ويحذر منه الاعتقاد الديني القائم على الغيبيات واليقينيات، هو الانفتاح على تلك الأسئلة التي تتوالد في مدارات الحيرة، لأنها الأسئلة المعجونة بالشك والتشهي المعرفي والتوقد التفكيري، وهي في النهاية نقيض اليقين، وما تلك التساؤلات التي تُشعل في الذهن شرارة البحث والتفكير والتقليب والنقد، إلا تمارينَ تأهيلية تمنح العقل لياقة الاقتحام الجريء في مستويات تفكيرية ونقدية متنوعة ومتعددة وخلاقة، ولذلك كلما ارتادَ الإنسان بأسئلته وتساؤلاته فضاءات عالية ورحبة وممتدة، كانَ صانعاً لفضائه التفكيري الملهم والرفيع والعميق والمتغير والناهض والطموح والناقد..
محمود كرم، كاتب كويتي tloo1@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط