بانتظار الترياق من العراق

من أرواح أبنائه، ومن أمواله، ومن كرامته، وعلى مدى فترة تقارب الأربعين عاماً، كان الشعب العراقي يدفع كل يوم ثمناً لاستمرار حكم عصابة البعث وصدام حسين.

اليوم، وبعد سقوط عصابة البعث وربيبها صدام، لا زال هذا الشعب يدفع نفس الثمن، لكن وللأسف، من أجل استمرارية حكم أنظمة أخرى خارج حدوده.

*******

على مدى أربعين عاماً من حكم عصابة البعث، لم يرفع حاكم عربي صوته للحديث عن معاناة شعب العراق.

لم نسمع عن إذاعة عربية كرست ما تكرسه اليوم من وقتها لهذا الشعب. فماذا جرى اليوم، حتى أصبح هذا الشعب مركز اهتمام الأشقاء العرب والمسلمين؟

الجواب بسيط جداً: الأنظمة العربية كلها ـ إلى حد ما ـ أنظمة صدّامية، قامت واستمرت على الأسس نفسها التي قام واستمر عليها نظام صدام؛ كلها قمعية مهما اختلفت في أساليب القمع. ولأن الكلب ـ كما يقول المثل ـ لا يعضّ أخاه، لم يكن أحد من حكام هذه الأنظمة يرفع صوته ويتحدث عن حاكم آخر بسوء، إلا عندما كانت العظمة التي بين يديه معرضة للخطر.

ذهب صدام إلى غير رجعة وليس بين هؤلاء الحكام من يأسى عليه حقاً. أصواتهم التي ترتفع اليوم ليست أسفاً على صدام ولا هي حباً بشعب العراق أو خوفاً على استقلاله. نباحهم اليوم لا يرتفع إلا خوفاً على العظمة التي بين أيديهم. كلهم يعرفون أنّ استمرارهم وسقوطهم أمران مرهونان بفشل أو نجاح مسيرة العراق نحو الاستقرار والديموقراطية؛ ولأنهم يعرفون ذلك تمام المعرفة، فليس من المستغرب أن يبذلوا ما بوسعهم لإفشال هذه المسيرة مهما كلف الثمن. 

*********

حين كان السوريون يناضلون من أجل استقلالهم، جعل العراق من أرضه "ملجأ للهاربين من القمع الفرنسي، وسعى عام 1936 إلى الضغط على ارتباطه ببريطانيا لحملها على العمل بما يخدم الوفد السوري المفاوض في باريس آنئذٍ.. وكانت الأموال العراقية تُقدّم حتى لتسديد قوائم حساب الفنادق التي يقيم فيها السوريون"^(*)، أما اليوم، وبينما يبذل العراق الغالي والرخيص لينال استقلاله عن طريق إجراء انتخابات حرة تؤمّن له حكما وطنياً ديموقراطياً وقادراً على أن يقول للأمريكيين، "شكراً.. لجهودكم وقد آن الآوان لأن ترحلوا!"، نجد النظام في سورية يجعل من أرضه ملجأ لفلول العهد البائد، ويفتح حدوده للإرهابيين والقتلة المجرمين، ليروعوا العراقيين ويسرقوا منهم حلمهم بالحياة الحرة الكريمة.      

*********

ترى هل يصدّق الشعب العراقي أن أياً من هؤلاء "الأشقاء العرب والمسلمين" يريد له خيراً؟

الذين يريدون للعراق وأهله خيراً، يموتون اليوم من أجله. يضحون بأرواحهم وأموالهم من أجله، أما الذين يريدون الشر كل الشر للعراق، فهم أولئك الذين لا يحاولون فقط منعه من رؤية الغد، بل إعادته إلى الماضي؛ ماضي العبودية والذل.

*********

قد يقول قائل إن الأمريكيين هم في العراق أيضاً من أجل مصالحهم، وهم إنما يضحّون بأرواحهم وأموالهم من أجل هذه المصالح فقط.

لنقل إنّ ذلك حق!.. للأمريكيين وللعالم كله في العراق والشرق الأوسط مصالح، لكنها مصالح لن يمكنهم تحقيقها إلا في ظل مناخ معين يضمن استمرارها، وهذا المناخ هو الاستقرار السياسي. مناخ كهذا لن يخدم مصالح أميركا فقط إنما سينعكس خيراً على شعب العراق وشعوب المنطقة كلها ايضاً. فهذا الاستقرار، لا يمكن بدوره أن يتحقق ويستمر إلا في ظل أنظمة ديموقراطية حرة يكون الدستور هو الحاكم الفعلي فيها، وليس في ظل قطاع الطرق الذين يتسلقون إلى الحكم عن طريق انقلابات عسكرية، أو استفتاءات مزيفة. أوضاعٌ سياسيةٌ دستوريةٌ مستقرة كهذه، تعني بالتالي رفاهاً وازدهاراً وتقدماً. وما تعنيه أكثر من ذلك، فهو استعادة إنسانِ هذه المنطقة لحقه الطبيعي بإنسانيته، وهو حق كاد أن ينساه في ظل مئات السنين من حكم الأنظمة القمعية الاستغلالية.

هذه المناخات التي لا يمكن لأمريكا أن تضمن مصالحها إلا في ظلها، لا تناسب الكثير من الأنظمة الصدامية ـ عربية أو غير عربية ـ لأنها تشكل تهديداً ما بعده تهديد لوجودها. وهكذا، ولأنّ عراقاً حراً ديموقراطياً ينعم شعبه بالازدهار والأمن ليس لمصلحة هذه الأنظمة، فإنّ هذه الأنظمة لن تتوقف عن بذل كل ما بوسعها لإرهاب شعب العراق وإعاقة مسيرته نحو الحرية والديموقراطية.

مصالح أمريكا تحمل معها الحرية والديموقراطية والازدهار لشعب العراق، وهذا يعني في قاموس المنطق أخذاً وعطاءً؛ أما بالنسبة للأشقاء والأقرباء، فيبدو واضحاً أن مصالحهم تعني في قواميسهم قتالاً من أجل هذه المصالح، لكنه قتال حتى آخر إنسان عراقي!

***********

لقد آن للعراقيين أن يضعوا مصالحهم الإقليمية والعالمية نصب أعينهم، وأن يبدأوا بإعداد فواتير الحساب لإرسالها إلى كل الجهات المنتفعة على حساب آلامهم، ولا بأس في أن يكون الجابي أميركا: الحليف الذي ينتفع وينفع!

شعوب المنطقة كلها تنتظر وصول الترياق من العراق، ولعلّ شعب العراق لا يخيّب أملها؛ وهل هناك فخر أعظم من أن ينزل اسمه في كتاب التاريخ كصاحب فضل على هذه الشعوب؟

**********

(*) انظر كتاب "الصراع على سورية"، باتريك سيل 1964

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط