قناة روتانا للأغاني هي أحدى القنوات الفضائية المملوكة للملياردير السعودي الأمير الوليد بن طلال آل سعود. وتعد هذه القناة من أكبر وأشهر القنوات المختصة بتقديم الأغاني العربية والفيديو كليبات. كل الأغاني التي تبثها القناة لفنانيها العرب تلتف فكرتها حول هجر.. وفراق.. وخيانة.. ووفاء.. وتضحية المحبين العاشقين إلا أغنية واحدة تتناول موضوعاً غريباً وهو الحجاب! في هذه الأغنية الغريبة، يظهر الفنان الإماراتي حسين الجسمي بكرشه الهائل، وتقاطيعه الضخمة، وهو يكاد يغالب دموعه الحارة لمنظر سيدة مسلمة تعيش في مجتمع غربي، تتعرض للاضطهاد الوظيفي لكونها ترتدي الحجاب. يظهر الفيديو كليب هذه السيدة المسلمة بأنها امرأة لا غبار عليها، فهي تتعامل بود مع كل الناس، وتضيء وجهها ابتسامة مشرقة لا تنطفئ، وتطل من عينيها معاني الطموح والتفوق، إلا أن مشكلتها العويصة أن المدراء الغربيون يكرهون الحجاب والمتحجبات!
من المؤكد أن هذه الأغنية تأتي كاحتجاج سلمي على قرار الحكومة الفرنسية بمنع الرموز الدينية في الأماكن العامة (الصليب المسيحي، القلنسوة اليهودية، والحجاب الإسلامي). والأكيد أيضاً أن الفنان الجسمي الصاعد بقوة إلى مصاف النجومية بين المغنيين الخليجيين أراد توظيف الحجاب، بما يخلقه من حساسية مفرطة تصل إلى حد التقديس لدى غالبية المسلمين لترصيع صدره بنيشان شكر وتقدير من الجماهير عامة ومتابعي قناة روتانا خاصة. وفي رأيي المتواضع، فإن إسراف المسلمين على أنفسهم في التعاطي مع قضية الحجاب يكشف عن أزمة ذات شقين: الأول عقلاني والثاني أخلاقي. لا أريد الخوض حول انتفاء الحجة أو البرهان العقلي لقضية الحجاب. إن أي قراءة هادئة للتاريخ الإنساني يكشف بجلاء أن الحجاب كان معمولاً به لدى المجتمعات البشرية كأداة عنصرية للتمييز بين النساء الحرائر والجواري. وعندما قام العبرانيون بتأليف التلمود جعلوا من الحجاب وسيلة عقابية وقعها الرب على المرأة لغوايتها آدم. أما تفسير النصوص القرآنية المتعلقة بالحجاب وكما ورد في كتب التفاسير الإسلامية القديمة فهي تكرس بدورها النظام الطبقي القائم على التمييز بين الحرائر والجواري، ولهذا كان عمر بن الخطاب يضرب الجواري اللاتي يقلدن النساء الحرائر بلبس الحجاب. وبما أن الفيديو كليب للأغنية يخاطب المشاعر، فلننظر للمسألة من زاوية أخلاقية بحتة دون مناقشة أبعادها التاريخية والدينية.
أتساءل بمرارة.. لماذا لا تتحرك مشاعر الرجل المسلم الرقيقة تجاه المرأة إلا عندما يتعلق الأمر بالحجاب؟ ولماذا يعاد في كل مرة إنتاج نفس الخطاب الاستهلاكي العقيم حول تكريم الإسلام للمرأة وصيانته لشخصيتها، وهي التي كانت من قبل نسيا منسيا؟ ولماذا ترتعد فرائص الرجال عندما تنطلق دعوة من هنا أو هناك لتحرير المرأة من سجن الحجاب؟ ولماذا يربط الرجال بين تفريط المرأة بالحجاب وبين معصية أوامر الله ورسوله وانتفاء الحياء والعفة اللذان يعدان أهم سمات الأنثى. عجيب..! متى صار الحجاب رمزاً لكرامة ودين وشخصية المرأة المسلمة؟ أمن أجل قطعة قماش تقوم الدنيا ولا تقعد؟ أيبكيك يا فناننا العزيز حرمان المسلمة البعيدة والمقيمة في فرنسا من ارتداء حجابها ولا تبكيك حالة نساء الخليج والسعوديات بالذات؟ الأقربون أولى بالمعروف، أليس كذلك؟ ألا تعتقد أن حرمان المرأة السعودية، مثلاً، من أي مشاركة بالانتخابات البلدية، ومن ممارسة وظائف عديدة، ومن دراسة تخصصات جامعية معينة، ومن إدارة مشروعها التجاري بلا وسيط، ومن السفر بلا محرم، ومن قيادة سيارتها بلا سائق أسيوي، ومن الجلوس في مطعم بلا محرم، ومن الزواج بمن تحب، ومن لبس ما تشتهي.. ألا تكفي هذه المآسي لتفجير ولو أغنية يتيمة؟ ولماذا نذهب بعيداً؟ اسأل زميلتك الفنانة الصاعدة سارة والمقيمة في بلادكم، لماذا جاءت إليكم. هل بمقدور حنجرتها أن تصدح بالغناء في مجتمع يعتبر الغناء فجوراً وصوت المرأة عورة وغناءها عاراً لا يغسله إلا الدم.
من الملاحظ أن العرب أو المسلمين لا يتورعون عن دس أنوفهم في الشئون الداخلية للدول الأجنبية من أجل مساندة مطالب الأقليات الدينية ومؤزرتها في حال اشتعال الأزمات السياسية مع الحكومات المركزية لتلك الدول. ولا ينظر العرب إلى تلك المناصرة على كونها أمراً مشروعاً فحسب، بل يعدونها واجباً تمليه اللحمة الدينية المشتركة. في المقابل، يعتبر العرب أو المسلمون – حكومات ونخب ثقافية وأحزاب معارضة مدجنة - أي محاولة من الغرب لتمرير إصلاحات لمعالجة تشوه البنى السياسية والاجتماعية والتعليمية والاقتصادية تحد سافر لإرادة وسيادة الدول العربية. المشكلة أننا لا نريد أن ننظر إلى وجهنا في المرآة، ونصر دوماً على لعب وتقمص دور الضحية المتآمر عليها وتصديقها، ونعتبر قراراً سيادياً تمارسه الحكومة الفرنسية استفزازاً لمشاعر ملايين المسلمين، متجاهلين القيود والضوابط التي نفرضها بدورنا على القادمين من تلك البلاد للعمل أو السياحة لدينا. هل رأى أحدكم من قبل امرأة أجنبية تقود سيارتها، أو تخرج للشارع دون أن تجرجر وراءها عباءتها، أو تتأبط ذراع زوجها (ولا أقول صديقها)؟ أي تشخيص نصف به هذه الحالة؟ أهي ازدواجية المعايير التي تعودنا إلصاقها بالولايات المتحدة الأمريكية؟ أهو انفصام في شخصيتنا؟ هو كل ذلك، وأكثر من ذلك هي أنانية تريد الحصول على كل شيء دون أن تقدم أي تنازلات. من المخجل أن يتصرف كثير منا بصفاقة، معتبراً رغبة فرنسا بحماية علمانيتها ومسعاها إلى دمج المكونات الثقافية والعرقية والدينية المقيمة هناك داخل المجتمع بأنها حرب على الإسلام والمسلمين.
هل تتذكرون قصة الطالبتين المحجبتين في فرنسا وما أثارته من جدل ساخن؟ القصة باختصار شديد، أن الطالبتين اعتذرتا عن المشاركة في حصة الألعاب الرياضية لأنهما ستضطران إلى خلع الحجاب. تلقت الطالبتان من مدير المدرسة تنبيهاً بالالتزام بالزي المناسب في حصص الرياضة. أمام إصرار الطالبتين على التمسك بالحجاب وأمام رفض المدير هذا التصرف، تحولت المشكلة الصغيرة من حبة إلى قبة وإلى قضية رأي عام. وبالطبع تلقف العرب والمسلمون ما وراء الحدود هذه القضية على أنها تحدي جديد للإسلام ومشاعر المسلمين المرهفة. برر مدير المدرسة رفضه للحجاب بإن فرنسا دولة علمانية ترفض التمييز على أساس الدين حتى داخل المدارس، والمسألة ليست هي الحجاب، بل أي رمز ديني سواء أكان مسيحياً أم يهودياً أو بوذياً. فلو أنه سمح بالحجاب اليوم، فليس بعيداً أن تحضر بعض الطالبات المسيحيات بزي الراهبات، وبعض الطلاب اليهود بطواقي الرأس المميزة، والبوذيون بزيهم البرتقالي اللون. وعلى طريقة فقهاء المسلمين في "درء المفاسد" فإن مدير المدرسة كان يخشى ما قد يترتب عليه التسامح مع العلامات والإشارات الدينية في المستقبل. فاليوم ترفض الطالبتان المشاركة في حصة الألعاب الرياضية حتى لا تكشفا عن شعرهما وسيقانهما، وغداً من الجائز أن ترفضا حضور دروس الفلسفة أو العلوم الطبيعية لدواعي عقائدية.
لقد شطرت تلك القضية الشارع الفرنسي إلى نصفين: الأول يرى أن حرمان الطالبتين من ارتداء الحجاب يعد حجراً على الحريات المكفولة بموجب الدستور، والثاني يرى أن السماح بتفشي الرموز الدينية من شأنه الحؤول دون ذوبان شرائح المجتمع في بوتقة واحدة، وربما يفتح الباب لهبوب رياح حروب دينية عانت منها فرنسا كثيراً. ومما قد لا يتصوره الكثير، فقد وصلت القضية لمناقشتها تحت قبة المجلس التشريعي الفرنسي، وجاءت النهاية لمصلحة أنصار الحجاب، تخيلوا! حتى زوجة الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران دخلت حلبة النقاش مبدية تعاطفها مع مطالب الطالبتين. وهذا رد مفحم على أولئك الذين لا يكفون عن مهاجمة العلمانية ومناصبتها العداء. وبالمناسبة، فإن المسلمين وبعد انقشاع غبار معركة الحجاب نسوا كعادتهم أن يقولوا لفرنسا : شكراً لك.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط