ـ 1 ـ
قبيل بدء فعاليات كأس العالم التي أقيمت في اليابان وكوريا الجنوبية في العام 2002، تقدم مراسل محطة LBC اللبنانية من اللاعب السعودي نواف التمياط لإجراء لقاء تلفزيوني لمصلحة المحطة، فما كان من اللاعب إلا أن اعتذر بلباقته المعهودة عن التصريح بأي شيء لقناة تسيء إلى الدين والأخلاق والتقاليد السعودية!
إحدى الصحف المحلية التقطت هذا الخيط لتنسج صورة اللاعب الغيور على دينه والحريص على عادات مجتمعه (المحافظ جداً)ً.
لا أخفي أني شعرت بشيء من الشفقة، لا على مراسل القناة اللبنانية، بل على اللاعب السعودي الذي بدا لي وكأنه يمارس نوعاً من الرياء الديني الذي يحترفه بمهارة كثيرٌ من حاملي الهوية السعودية.
نفس اللاعب صرح بعدها أننا ذاهبون للمحفل الدولي لإقناع العالم بأسره أن الإسلام دين السلام وليس الإرهاب! فركت رأسي متحيراً... ما علاقة كرة القدم بالإرهاب الإسلامي؟! ترى... هل تكفي مستحضرات التنظيف السعودية لإزالة بقع دم جرائم القاعدة والتطرف الأصولي؟ ترى... هل سيحمل السعوديون على صدورهم اعتذاراً صريحاً لذوي الضحايا الذين قضوا في أحداث الحادي عشر من سبتمبر؟
المهم، دخل السعوديون اليابان من الباب الكبير، تزفهم أغاني الحماسة وكأنهم سيزحزحون الجبال. وبعد أسابيع قصيرة، خرجوا من الباب الصغير قطعاً صغيرة تتطاير كهباء منثور في غبار هزائم ثلاثية كارثية. لا أعلم! هل نسي اللاعبون أن يلعبوا كرة القدم، وتفرغوا لمهام أكثر جسامة، تتمثل بإقناع العالم الذي بدا غير مقتنعٍ بأن الإسلام دين السلام؟
ـ 2 ـ
بعد أربعة أعوام بالتمام والكمال، السعودية تطرق أبواب ألمانيا من جديد. بين اليابان وألمانيا تضاعفت الأمنيات، وتضاعفت الأغاني، وتضاعفت الأموال. وكما كانت القبائل البدائية في التاريخ تسير إلى الحرب حاملة آلهتها لتستمد منها القوة والصمود، سافر السعوديون يحملون الله في قلوبهم ويلونون به أحاديثهم. قبل أن تشد البعثة السعودية الرحال إلى القارة العجوز، طلبت إدارة المنتخب من القائمين على محل الإقامة إنزال كل الصور التشكيلية للنساء العاريات! تلك الصور لا يقرأ فيها الوهابيون معاني الإبداع والجمال، بل امتصاصاً لطاقات اللاعبين التي لا يجب أن تهرق إلا على المستطيل الأخضر.
حمدت الله أن الشعب الألماني لا يشكو العطش وإلا حمل أعضاء الوفد آلات حفر الآبار التي يستعيرها "المبشرون" بالدين الإسلامي بغرض تسويق الإسلام بين القبائل الإفريقية الواقعة على حواف الظمأ. الإسلام مجدداً يزاحم الأحلام السعودية لتجميل الصورة المشوهة في اليابان. لست على يقين مما إذا كان هناك أفراد من البعثة السعودية معنيين بتوزيع كتيبات عن الوهابية وعن النبي محمد وتسريبها بين الألمان، خاصة وأن أحد رجال الدين السعوديين صرح بأن كأس العالم فرصة ذهبية لإزالة اللبس عن قيم الدين الإسلامي.
التقارير الصحفية اليومية كانت تتحدث عن أمور رياضية بحتة، وفوقها التزام صارم بأداء جماعي للصلوات اليومية الخمسة. وبما أن الخمر هي أم الكبائر فقد رفضت إدارة المنتخب وبشدة القبول بجائزة أحسن لاعب في المباراة والمقدمة من أحدى كبريات شركات المشروبات الكحولية، بالرغم من تعذر حصول اللاعب السعودي المنهك والمتواضع فنياً على تلك الجائزة المحرمة شرعاً. في المباراة الافتتاحية مع الشقيقة تونس، زار المنتخب السعودي شباك الأشقاء مرتين، فسقط اللاعبون على أرضية الملعب ساجدين وشاكرين الله على فضله، في حركة بدت وكأنها قد رسمت لهم خلف الكواليس. حتى الفرح الطفولي تمت أسلمته كباقي الأشياء الأخرى! المحزن هنا، أن الله الذي لا يؤمن مكره لم يكافئ أبناءه المخلصين حتى النهاية، إذ منح التونسيين هدفاً غير متوقع في الرمق الأخير مكتفياً برسم نصف ابتسامة على وجوه صقور الجزيرة الخضر.
ـ 3 ـ
ما مضى ليس تبريراً للمستوى الباهت بقدر ما هو توصيف لحجم الإسفاف الديني وتسلطه على كل شيء تقريباً. الجميع هنا من نقاد ومسئولين ولاعبين يرفعون الآن بعد السقوط المدوي شعار "الاحتراف هو الحل". هل ذهاب اللاعبين السعوديين لدوريات أوروبا كفيل بحل الأزمة؟ أشك وبدرجة كبيرة في ذلك. لماذا؟ لننظر ولبرهة إلى دول شمال أفريقيا العربية. هل تطور أداء منتخباتها التي هاجر لاعبوها مبكراً للعب في فرنسا واسبانيا وألمانيا وغيرها؟ الجواب: لا، والدليل الإخفاقات المتكررة لتونس والمغرب والجزائر. إن احتراف اللاعب السعودي لن يخلق نهضة كروية كما أخفق المبتعثون العائدون من أمريكا وأوروبا في خلق نهضة علمية تليق بحجم الإنفاق المالي. اعتقد أن الرياضة تتحرك بموازاة للتطورات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليس من الحكمة البحث عن مشكلات الرياضة واستنباط الحلول بمعزل عن الأطر الأخرى المتفاعلة معها بشكل أو بآخر. انظر كيف يتضاءل السعودي خاصة والعربي عامة عندما يلاعب الأوروبي المتفوق حتى ولو كانت الموازين الفنية تميل لمصلحة العربي. ألا يوحي لك ذلك بشعور العربي المستديم بافتقاده للثقة عندما ينازل الآخر؟ الملفت أن الفرق العربية عندما تتبارى فيما بينها تنتفض بقوة كما لو كانت مباراة حياة أو موت. مرة أخرى، ألا يوحي لك هذا بكراهية العربي للعربي، وهو سلوك مضمر في ممارسات القبائل العربية منذ الأزل؟ عندما يخرج لاعب أو إعلامي أو مسئول سعودي منتشياً بالتفاؤل وشاهراً سيف التحدي تتداعى صيحات التحدي الجوفاء للساسة العرب مثل "سنرمي بنصفهم في البحر" و "المغول الجدد سينتحرون على أسوار بغداد". ما يدور في أروقة الحكم تتردد أصداءه في ملاعب الكرة. الجعجعة اللفظية والخطب البلاغية لا تنتج طحيناً ولا كؤوساً ولا ألقاباً، بل غصة في القلب ومرارة في الحلق. حتى التحزبات القبلية والتباينات العرقية منذ زمن طويل وهي تخترق جسد الفريق في مماهاة مثالية مع ممارسة تاريخية ينفرد بها السعوديون بامتياز لا يحسدون عليه. قبل أن أنهي هذه المقالة، أود أن أطرح السؤال التالي: هل يمكن للرياضة أن تتفتح كوردة في مجتمعات يجثم عليها كابوس الأيدلوجيات السياسية والدينية؟ إذا كان الإبداع الثقافي والعلمي والتطور السياسي والاقتصادي يمر عبر تحرير الإنسان وتفجير طاقاته الإبداعية، أليست الرياضة كنشاط إنساني تحتاج إلى الشيء ذاته؟!!
**************
*********
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط