إن لم اكن مخطئاً، فإن بدايات ظهور مكتبات "الكتاب المستعمل" في السعودية قد تعود إلى أواخر الثمانينيات من القرن المنصرم. منذ ذاك الحين وإلى يومنا هذا، لم يطرأ أي تغيير يذكر على صفات ثلاث تكاد تؤطر كل تلك المكتبات، وتسبغها بألوانها القاتمة: أولها، سيادة المجلدات الدينية المذهبة على ما سواها، وثانيها، غلبة الجنسية السودانية على البائعين، وثالثها، تفاني هؤلاء الباعة في الاعتناء بالمظاهر الوهابية الرثة كإعفاء اللحى، وتقصير الثياب، وفرك الأسنان بالسواك، ورفع صوت القرآن.
هل هي صدفة أن تشترك تلك المكتبات في تبني تلك المظاهر؟ ربما يكون كذلك، لكني اميل إلى تفسير آخر قد يكون صواباً أو خطأ. إننا إذا حيدنا الهدف الربحي الظاهري من وراء تأسيس هذه المكتبات فربما يكون لها اغراض وأدوار ثقافية مضمرة. ترى ما هي؟ في اعتقادي الخاص أن تلك المكتبات في مضمونها ما هي إلا محاولة تطوعية لإعادة انتاج الثقافة الدينية السائدة حسب الشروط الوهابية، والحفاظ عليها من الذوبان والتحلل. بكلمات أخرى، إنها إحدى تجليات الوصاية الفكرية التي تقرر سلفاً ماذا يجب أن نقرأ، وماذا يجب أن نعرف. قد لا أغالي في القول، لو وصفت مكتبة الكتاب المستعمل على أنها خط دفاع يلتف حول خاصرة المجتمع كسياج للحؤول دون تسرب أي أفكار ومعارف مغايرة، قد تتسبب في إثارة زوابع فكرية، لا يحبذها ولم يعتدها مجتمع تغلغلت فيه السلفية حتى العظم.
عندما تذهب إلى هناك للبحث عن مؤلفات لفراس السواح، سيد القمني، أو ابكار السقاف، تلك الدراسات التي تعيد تفكيك التراث الديني الإنساني وتحريك مياه الإيمان الراكدة منذ قرون، فلن تجد شيئاً على الإطلاق. ولو فكرت في اقتناء كتب لمحمد سيد العشماوي، رفعت السعيد، خليل حيدر، أو أحمد البغدادي، تلك الكتابات التي تعنى بكشف خواء وعبثية مشروعات التيارات الدينية السياسية، وترفع الغطاء عن مكامن العنف المخبوءة في خطاب تلك الجماعات المتأسلمة، فإنك كمن يبحث عن لبن العصفور. ولو قصدتها للبحث عن كتب تتناول الأديان الأخرى والمذاهب الأخرى دون تحيز واحكام جاهزة، فلن تعثر إلا على مؤلفات تطفح بلغة التكفير والتبديع والتفسيق. أما إذا ذهبت بحثاً عن ما يتصل بالفلسفة والموسيقى والمسرح والسينما والنحت، فمن المؤكد أنك ستحصل على كتب صفراء تصف الفلسفة بالزندقة والإلحاد، والموسيقى والسينما بالإنحلال والتغريب، وفن النحت بتحدي قدرات الله على الخلق والإبداع.
هذا الوضع البائس لمكتبة الكتاب المستعمل ما هو إلا مثال صغير يعزز قناعة ذاتية لدي، وهي أن المجتمع هنا أكثر انغلاقاً وتشدداً من الحكومة. من المتعارف عليه أن الكثير منا يشعر بشيء من الراحة عندما يحمل الحكومات كل اسباب التخلف والانحطاط. أما أنا فأرى أن حكومتنا أكثر تطورا ووعياً من شعبنا الواقع تحت سطوة وتأثير رجل الدين المتشدد. طبعاً هذا لا يلغي مسؤولية الحكومة التي منحت المؤسسة الدينية ما يكفي من الوقت والمال والسطات لأسلمة كافة مفاصل الحياة، واغراق المجتمع بسيل من الفتاوى الدينية، وتخويفه من اي فكر وافد، وشحنه بقدر هائل من التعصب والكراهية. ما سبق لا يعني أن كافة عناصر المجتمع ترفض الانفتاح وتهاب التغيير. على العكس، ففي السنوات الأخيرة، وفي ظل الانفتاح النسبي، بدأنا نسمع أصواتاً من هنا وهناك تنادي بأفكار تبدو صادمة وغير مألوفة، مثل التسامح الديني والمذهبي والانفتاح على الآخر، والتعرض بالنقد لسلوكيات المؤسسة الدينية ممثلة بجهازها القمعي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمطالبة بعمل المرأة وقيادتها للسيارة، والاعتراف بوجود اختلافات فقهية حول ماهية الحجاب، وما إلى ذلك.
انغلاق المجتمع على ذاته، واعتقاده أن كافة الأفكار والفلسفات الوافدة ما هي إلا تهديد لهويته الثقافية والدينية، واستسلامه وانقياده الكلي وراء رجال الدين، تكفي لاجهاض أي محاولة للتغيير تتمخض في المجتمع من الداخل. لهذا، وباعتقادي الشخصي، فإن أي محاولة للتغيير تستدعي تدخلاً ودعماً حكومياً صادقاً وجدياً. ولدينا من الشواهد التاريخية ما يؤكد هذا الإدعاء. مثلاً، لولا اصرار الحكومة على تعليم الأنثى، بالرغم من تشنج ورفض رجال الدين المبدئي، لظلت المرأة إلى هذا اليوم بلا تعليم. ولولا اصرار الحكومة على انشاء الإذاعة ومحطة التلفزيون، بالرغم أيضاً من اعتراضات رجال الدين، لما زار الراديو أو التلفزيون بيوتنا. ولولا توجه الحكومة لفرض التأمين على العربات لبقي التأمين حراماً مطلقاً. ولولا قبول الحكومة بالبنوك التجارية التقليدية واعترافها بها، بالرغم من اعتراض رجال الدين عليها كونها ربوية، لما انتشرت فروعها في كافة الأقاليم.
الغريب أن كافة التغييرات التي تقرها الحكومة دائماً ما تصطدم برفض فطري من رجل الدين، وبخوف وحذر وتشكك من رجل الشارع العادي الذي يثق في "علم وأمانة" رجل الدين أكثر من أي شيء آخر. لهذا عندما ترمي الحكومة بالكورة إلى ملعب المجتمع فيما يتعلق بقيادة المرأة السيارة، فهذا يعني أن المرأة لن تجلس يوماً ولو بعد ألف عام خلف مقود مركبتها لأنّ مجتمعها عصي على التغيير، مادام أنه يصر على الهرولة وراء ذوي اللحى في كلّ شأن من حياته. انظر، مثلاً، كيف غمرت الفرحة شرائح واسعة من المجتمع بالقرار الحكومي المفاجيء بإلغاء مهرجان السينما الذي كان من المزمع اقامته في مدينة جدة قبل أيام. هذا الإلغاء جاء استجابة لضغوطات مورست من قبل المؤسسة الدينية التي ترى في السينما شراً مستطيراً يهدد ثوابت الأمة (!) صحيح أن هناك من اصيب بالإحباط ولكنهم في نهاية الأمر قلة ممحو صوتها وسط هدير جموع هائلة.
ماذا بعد؟ هل نسينا اصل الحكاية؟ ربما اسرفت في الاستطراد، ولكن الحديث ذو شجون كما تقول العرب. لنعد أخيراً إلى نقطة البداية، إلى مكتبة الكتاب المستعمل. إن نوعية الكتب التي يعاد حقنها في شرايين المجتمع عبر تلك المكتبات تعكس المستوى الثقافي الذي ارتضاه المجتع لنفسه وقبل به من دون أي تدخل للسلطة الرقابية. شئنا أم أبينا، هذا هو خيار الأكثرية غير الرسمي. إنها نفس الأكثرية التي دائماً ما تقول بالفم المليان: لا نريد سينما، ولا مسرح، ولا مهرجانات غنائية، ولا معارض الكتاب، ولا معارض الزهور، ولا حوار وطني، ولا انتخابات، ولا ابتعاث خارجي، ولا عمل المرأة، ولا قيادة المرأة، ولا تحديث لمناهج التعليم، ولا تقليم لأظافر رجل الهيئة المتسلط، ولا أي شيء قد يفتح الباب للشيطان الرجيم!
============
affkar_hurra@yahoo.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط