بسام درويش
/
Jul 15, 1994
في أميركا فسـاد أخلاقي. هذا كلام حق لا كذب فيه.
في أميركا إجرام، وسرقات، وحوادث اغتصاب، وشذوذ جنسي، وتجارة مخدرات، وانحلال خلقي وتفكك عائلي. وهذا كلام حق لا كذب فيه أيضاً.
حوادث الإجرام تنشرها الصحف يومياً على صفحاتها، ودوائر البوليس توزعها على هذه الصحف دائماً. تتحدث عنها الإذاعات ومحطات التلفزيون في نشراتها الإخبارية طيلة الليل والنهار. هذا ايضاً كلام حق!
وسائل الإعلام الأميركية تتحدث عن هذه الحوادث بصفتها مادة إخبارية. برامج التلفزيون والإذاعة والمحررون في الصحف يتناولون هذه الأخبار معلقين عليها أو عاملين على تحليلها. والمصلحون يتحدثون عنها داعين إلى إيجاد حل لها. والأمر المهم، أن ليس هناك أمر مخفي.
وطبعـاً، فإن صحفنا العربية المهجرية أيضاً تنقل أخبار بعض هذه الحوادث وتتناولها بالتعليق أو التحليل، ولكنَّ عدداً كبيراً منها ينقلها ويتحدث عنها بشكل مختلف ولغاية مختلفة. صحفنا العربية المهجرية، تنقل هذه الأخبار بأسلوب أقرب إلى التشفّي منه إلى التحليل.
صحفنا العربية وخاصة ذات الطابع الإسـلامي أو "العروبي"، تتلقف هذه الأخبار لتتحدث عنها بأسلوبها الخاص وعباراتها المنتقاة. فالحديث عن جريمة يصبح حديثاً عن بلد الإجرام أميركا، واسم أميركا يصبح بؤرة الفسـاد، وحادثة اغتصاب تتحول هي الأخرى، لتصبح حديثاً عن انحلال وانحطاط المجتمع الغربي بأسره. وبالطبع فعندما يكون الفرد مرتكب الجريمة عربياً أو إيرانيا أو غير ذلك، سواء كانت جريمته جريمة سرقة أو اغتصاب أو قتل، فإن هذا الفرد ليس إلا ضحية لفساد هذا المجتمع الذي دفعه لأن يصل إلى ما وصل إليه.
عنوان صغير لخبر نقلته صحيفة عروبية ذات اتجاه عراقي وطابع إسلامي، أثار انتباهي.
بعد أن قرأت العنوان توقفت عن متابعة القراءة كي أقوم بعمل نسي محرر تلك الصحيفة القيام به قبل اللجوء إلى مثل هذه الأقوال الغوغائية. لقد توقفت لأفكـّـر بعمق!
يقول العنوان: "الشيخ الطنطاوي يزور بلد النفاق أميركا!"
"بلد النفاق أميركا"؟
في أميركا نفاقٌ. هذا أمر لا شـك فيه!
في كل العالم نفاق. هذا أمر لاشك فيه أيضاً! لكن محرر الصحيفة هذا، في انتقائه لهذه العبارة، ظهر وكأنه يريد القول بأن الإمام الطنطاوي قد جاء يزور بلد النفاق من بلد لا يعرف النفاق! الشـيخ الطنطاوي يترك مقره في عالم النزاهة والصدق ليزور بلد النفاق أميركـا!
يا لذلك من نفاق!
في أميركا نفاق؟ نعم، أعود فأقول أن فيها نفـاق! ولكن أن تسمى أميركا بلد النفاق، وخاصة من قبل إنسان ولد وعاش في بلاد تتسربل بالنفاق ليلاً نهاراً، ثم هرب من تلك البلاد ليقيم في أميركا التي يلوم شيخه على زيارتها، فهذا قول لا يمكننا وصفه إلا بأنه هو النفاق بعينه.
أميركا ليست بلد النفاق. فإنه لكي يُطْلَق على دولة أو على أية أمة من الأمم هذه الصفة التعميمية، لا بد وأن يكون النفاق قد استشرى في كل ناحية من نواحي حياتها السياسية والاجتماعية والدينية وغيرها. فهل استشرى النفاق حقاً في كل ناحية من هذه النواحي في أميركا؟
لنأخذ القضاء في أميركا. القضاء في هذا البلد لا زال بألف خير. هناك أخطاء وهفوات. هناك مرتشون. وهناك فاسدون. هذا أمر لا مفرّ منه في أي قضاء. ربما يصعب أحياناً إثبات الخطأ أو الرشوة أو الفساد، ولكن مما لا شك فيه أنه لا أحد يفلت من العقاب حين يثبت فساده أو خطؤه أو ارتشاؤه. وبشكل عام، فنزاهة القضاء الأميركي هي أعظم من أن ينال منها حديثُ إنسانٍ تافهٍ متعصب.
السياسة أيضاً في أميركا بخير. ورغم أن الكذب والنفاق "ملح" السياسيين في كل العالم، فالسياسة لا زالت أيضاً بخير في أميركا، ولا زال هناك سياسيون وطنيون وشـرفاء. أما المنافقون منهم، فإن لم يكونوا بحق على درجة عظيمة من الذكاء، فإن نصيبهم هو الفشل أو العزل أو ربما السجن إذا ما ثبت بأن نفاقهم بلغ مرحلة الفساد أو الضرر. العقاب يطال رئيس الجمهورية والوزراء والقادة العسكريين والنواب والقضاة وكل الناس من أكبرهم إلى أصغرهم.
العلاقات بين الناس في أميركا لا زالت بخير، سواء كانت بين جماعات أو أفراد، وسواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، فهي كلها تخضع لقوانين وأنظمة، وأيضاً إلى أعراف. أما هل كل الجماعات أو الأفراد يعملون بالقانون؟ بالطبع لا، وهذا أمر نجده في كل مكان على الأرض. فلو عمل الناس جميعاً بالقوانين والأنظمة واحترموا الأعراف لكان الكون قد بلغ الكمال!
لكنما القوانين والأنظمة موجودة، والناس تعرف بوجودها وتطبقهـا. هؤلاء الذين لا يحترمون القوانين والأنظمة ولا يطبقونها، قد يفلتون من العقاب لفترة وربما يفلتون إلى الأبد إذا لم يستطع القضاء إثبات جريمتهم، ولكن حين تثبت الجريمة فإن القانون لن يرحم. سواء كان المجرم قاضياً أو رئيساً أو رجل دين. للإنسان في هذا البلد حقوق تحميه من تسلط القانون أو من أخطاء الذين يفسرون القانون. القانون هنا، وضع لأجل الناس، ولم يوضع الناس لأجل القانون.
إنه ليس من المستغرب أن نسمع أميركياً ابن سبع سنوات يقول لرفيقه، أنه لن يفعل كذا أو كذا، أو أن نسمعه يحذر رفيقه من فعل كذا، لأن كذا، هو أمر مخالف للقانون that’s illegal! ؛ فهل نسمع طفلاً في بلد آخر يتحدث عن قانونية عمل من الأعمال أو عدم قانونيته؟
هنا في أميركا نفاق ديني أيضاً وهناك من يتعاطى النفاق الديني مهنة. هذا الصنف من المنافقين عرفه العالم منذ بدء الخليقة. ولكن، حتى هؤلاء المنافقين يطالهم القانون حين يقعون في حبائله التي ينصبها لهم.
وعلى ذلك المقياس قس!..
نعم، هناك نفاق وهناك منافقون في أميركا، ولكن أن تدعى أميركا بلد النفاق، فهذا ليس إلا قول منافقين، سواء كانوا في داخل هذا البلد يأكلون من خيراته ويعيشون تحت حمايته، أو في خارج هذا البلد يعيشون على هباته أو يحلمون بالرحيل إليه.
لكن، ماذا عن ذلك العالم الذي تركه وراءه ضيف أميركا الجليل الشيخ الطنطاوي؟
هل نكون مخطئين إذا قلنا بأنه عالم لا يخلو من النفاق أيضاَ؟..
نعم وألف نعم. إننا لنخطئ في قولنا بأنه عالم لا يخلو من النفاق، فهذا قول لا يؤدّي ذلك العالم حقه أبداً. إنه في الحقيقـة عالم قد امتلأ بالنفاق إلى درجة أصبح يُنظر فيه إلى الذين لا ينافقون كأناس شاذين غريبي الأطوار. ذاك هو عالمٌ، إذا أخذنا بمقاييس الكاتب العروبي، يمكن لنا أن نسميه بعالم النفاق.
قاموس اللغة العربية "المنجد في اللغة والأعلام" لا يحوي شروحات كثيرة عن النفاق، وقد ضرب مثلاً وحيداً يفسر به كلمة "منافق" فقال، "المنافق في الدين هو الذي يستر كفره بقلبه ويظهر إيمانه بلسانه". ويبدو أن جامع القاموس رأى أن أكثر النفاق هو في الدين فضرب المثل به، وهو في الواقع لم يخطئ في اختيار المثل، إذ أن الدين،أي دين، هو مجموعة من مبادئ كثيرة يفترض أن يؤمنَ بها الناس وكذلك أن يعملوا بها. ولكن هناك من الناس من يتظاهر بأنه يؤمن بها، بينما يخفي ما في قلبه من نية على العمل بعكسها، فيقع بذلك في خانة المنافقين. وعلى ذلك ، فالنفاق يكون في كل شيء: في ادعاء العدل أو الشـرف أو الحكمة أو الأمانة أو العفة أو الحب أو الشجاعة، وحتى في تعاليم أخرى قد يحث عليها دين من الأديان مصنفاً إياها كفضائل، بينما يرى فيها دينٌ آخر أخطاء جسيمة.
إننا إذا أردنا أن نعرف مقدار ما بلغه النفاق في عالم الشيخ الطنطاوي من مستويات رفيعة، أو إذا أردنا أن نعرف آثار هذا النفاق على الإنسان وعلى المجتمع ككل في ذلك العالم، فيكفي أن نسلّط بعض الضوء على القضاء لنرى ما بلغه من انحطاط.
أمرٌ لا يختلف فيه اثنان، وهو أن القضاء هو بحق ضمير الأمة؛ فإذا فسد هذا الضمير، عم الفسادُ الأمةَ بأسرها. القضاء هو ملجأ الإنسان في كل المجتمعات سواء كان ذلك في التاريخ القديم أو الحديث. إليه يلجأ المتَّهَم بجريمة ليثبت براءته، وإليه يلجأ المظلوم للمطالبة بحقه سواء كان يطالب بحقه من فرد أخر أو من مجموعة من الأفراد أو من الحاكم نفسـه.
القاضي في أميركا هو أعلى من الحاكم. الرئيس تحت رحمة القاضي. والقاضي نفسه حين يخالف القانون، حتى لو كانت مخالفته تلك لأنظمة السـير، فإنه أيضاً يصبح تحت رحمة قاضٍ آخر. ومن أجل العدالة في التعبير أقول، ليس هناك أحد تحت رحمة القاضي بل تحت رحمة القانون الذي يمثله القاضي.
القاضي في العالم العربي هو تحت رحمة الحاكم وتحت رحمة رغيف الخبز. القاضي في العالم العربي ليس قاضياً يصدر الحكم، إنما محكوماً ينفذ الحكم سواء كان الحكم صادراً عن الحاكم الأعلى أو من الرغيف الذي يتمثل بالحاجة. ليس القاضي فقط تحت رحمة الحاكم، بل القانون كله تحت رحمة الحاكـم، إذ أن الحاكم هو القانون.
القضاء في العالم العربي وصل إلى اسفل درجات الانحطاط. هناك ما يسمى بالقضاء العسكري وهناك أيضاً القضاء المدني. القضاء العسكري من العار أن يسمى قضاءً، وتعيس الحظ هو الذي ينتهي في قفص اتهام محكمة عسكرية، سواء كان عسكرياً أم مواطناً مدنياً، فالحكم بحقه غالباً ما يكون قد صدر قبل توجيه التهمة إليه. فهو إما جاسوس لإسرائيل أو أميركا، أو عميل، أو خائن، أو مخرّب، أو مثير للشغب محرض على قلب الحكم، وإلى ما هنالك من اتهامات تتفتق عنها مخيلة المسؤولين عن أجهزة المخابرات العسكرية بعد عرضها طبعاً على القائد الأعلى للموافقة عليها. المحاكمات العسكرية غالباً ما تتم بعيداً عن الأضواء، لا بل غالباً ما تبدأ وتنتهي في غرفة من غرف التحقيق أو التعذيب في دوائر المخابرات. المحاكمات العسـكرية تختلف من بلد عربي إلى آخر، إذ أن لكل حاكم عربي طريقته الخاصة في تنظيم أو عقد المحاكمات العسكرية. ومما لا شك فيه أن أسوأ هؤلاء الحكام وأعظمهم إرهاباً وفساداً، هو حاكم العراق الذي يجد لذة في محاكمة خصومه بنفسه حيث يتشفّى بإذلالهم ثم وبإشارة من إصبعه، يصدر حكمه عليهم بالإعدام أو يقوم هو نفسه بتنفيذ الحكم بإطلاق رصاص مسدسه على رؤوسهم وصدورهم. محاكمات ولا أبشع! وبالمناسبة، يجدر الذكر هنا أن صدام هو المثل الأعلى لمحرر الصحيفة العروبية الذي يحلو له بأن يدعو أميركا ببلد النفاق!
النفاق في العالم العربي تراث يتناقله الناس أباً عن جد وهو في حياتهم اليومية كالخبز لا يستطيعون العيش بدونه. إنه أيضاً كالمخدرات يعرف الناس مقدار ضررها ولكنهم لا يستطيعون التوقف عن تعاطيها.
الكرم في بلادنا نفاق. وهل هو كرم أن نلح على من يطرق باب بيتنا ونحن نتناول طعام العشاء ليدخل ويشاركنا الطعام، بينما نحن ندعو الله في قرارة قلوبنا، أن يرفض الدعوة، لعلمنا أن ما على المائدة لا يكفي إلا أهل البيت، ولعلمنا أيضاً بأن سيدة البيت تلعن من داخل مطبخها "قليلي الذوق" الذين يطرقون الباب ساعة العشاء؟ هذا ليس بكرم. إنه نفاق!
الإدعـاء بالتعايش بين الطوائف في بلادنا نفاق. وهل هناك حقاً من تعايش في ذلك العالم بين المسلم والمسيحي واليهودي أو حتى بين طوائف الدين الواحد؟
الاختلاف موجود بين الطوائف في أميركا ولكن ليس هناك من خلاف. القانون يحمي جميع الطوائف. هذا يدعى تعايش. أما في بلادنا فالاختلاف يعني خلافـاً وعداء وكراهية واضطهاداً وقتالاً. ومهما اختلط الناس بعضهم مع بعض، فإن الأكثرية الساحقة لا زالت تعيش في تجمعات دينية. الدروز يعيشون في قراهم وأولئك الذين ينزحون إلى المدن فإنهم سرعان ما يشكلون تجمعات خاصة بهم. العلويّون في سورية يعيشون في قراهم، ورغم سيطرتهم على الحكم لفترة ثلاثة قرون تقريباً، فإنهم لا زالوا مرتبطين بمناطقهم الجبلية يخططون ليوم الدينونة، ونعني به اليوم الذي يسقط فيه حكمهم، تحسباً لنقمة وانتقام المسلمين السنَّة. ولهم الحق في ذلك، فظلم السنيين واضطهادهم للعلويين على مدى التاريخ لا يمكن لأحد نكرانه. اليهود لم يعد لهم تجمع يذكر إذ أن أكثريتهم الساحقة قد رحلت. المسيحيون لهم تجمعاتهم وأحياؤهم الخاصة بهم ويعيشون في البلاد العربية حسب قول المثل العامي: "منمشي الحيط لحيط ومنقول يا رب السترة". الشيعيون، وهم طائفة إسلامية كبيرة، لهم أيضاً تجمعاتهم وأحياؤهم. كل طائفة لها منطقتها أو حيها الذي يعرف باسمها، فهناك منطقة أو حي الدروز أو الشيعة أو اليهود أو المسيحيين أو الأكراد أو الشركس أو الأرمن وغيرهم وغيرهم. كل طائفة من الأقليات تتقوقع على نفسها عندما تحدث اضطرابات سياسية. تجمعاتهم هذه ليست كتجمعات الصينيين أو اليابانيين أو العرب في أميركا. هنا يفضلون التجمع للاستئناس وهناك يتجمعون تحسباً لما قد تأتي به الأيام!
ولكن ماذا عن العلاقات الطيبة بين المسلمين والمسيحيين مثلاً أيام الأعياد حيث يذهب مفتي المسلمين لمعايدة الرؤساء الروحيين المسيحيين أو حين يقوم البطاركة والمطارنة بزيارة المفتي أو رئيس الوزراء لتقديم التهنئة بالأعياد الإسلامية؟ ماذا عن الناس، مسلمين ومسيحيين، الذين يتبادلون الزيارات خلال الأعياد وغير الأعياد، وماذا عن كل مظاهر العلاقات الاجتماعية بينهم، وماذا عن غير ذلك؟ المنافقون يقولون أنها علاقات ولا أطيب، ولكن واقع الحال يؤكد أن هذه العلاقات ليست سوى علاقات ومظاهر بروتوكولية لا تعني تعايشاً بين هذه الفئات المختلفة بأي شكل من الأشكال. الرؤساء الروحيون لمختلف الطوائف كانوا يتبادلون التهاني خلال حرب لبنان الأهلية في وقت كان الناس يذبح بعضهم البعض الآخر على الهوية. مفتي جامع الأزهر يقوم بزيارة البابا شنودة للتأكيد على وجود الروابط الأخويـة بين المسلمين والمسيحيين، وفي الوقت نفسه يكون شيخ آخر في جامع الأزهر نفسه جالساً في حلقة مع طلابه يحرضهم على قتال الكفار من المسيحيين واليهود.
إن عبارة واحدة على الأقل في القرآن لكافية للتعبير عن عدم إمكانية التعايش بين المسلمين والكفار من المسيحيين واليهود. "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولاَّهم منكم فإنه منهم إنَّ الله لا يهدي القوم الظالمين." (المائدة 5 : 51 )
إننا إذا عرفنا بأن القرآن بالنسبة للمسلمين هو كلام الله حرفاً حرفاً، وإذ يعزو القرآن إلى الله أمره ذاك بعدم إنشاء علاقة مودة مع هؤلاء، آنذاك نوقن بأنه ليس هناك ما يدعو حقاً للاعتقاد بأن تعايشاً يمكن أن يكون بين المسلمين وأبناء أي دين آخر على الإطلاق إلى أن يقتنع المسلمون أن دعوة كتلك ليست بالحقيقة إلا تعبيراً عن حالة وأحداث متعلقة بالحقبة التي أطلقت فيها أدّت إليها، ولذلك فإنها لا تصلح أن تكون دستوراً لكل عصر وزمان.
ولا زال بعد هذا كله من يقول بأن هناك تعايشاً. هذا هو النفاق!
في أميركا يخرج الناس في مظاهرات. يعبرون عن آرائهم بشتى الوسائل. عن طريق الصحف والإذاعات والتلفزيونات والندوات الخاصة والإنترنيت. لا يخافون من حاكم، لا بل أن الحاكم يخاف منهم.
في بلادنا، الحاكم ينافق على الشعب والشعب ينافق على الحاكم. شعارات الحكام نفاق، وتصفيق الناس نفاق.
شعارات الوحدة التي يطلقها الحكام نفاق إذ ليس هناك حاكم مستعد للتضحية بكرسيه لأجل الوحدة. نداء الشعب بالوحدة أيضاً هو نفاق، إذ أن كل شعب دولة من الدول العربية ينظر إلى شعب الدولة الأخرى على أنه أقل منزلة من منزلته.
ادعاءات الأخوّة العربية والتضامن العربي نفاق في نفاق. سورية ابتلعت لبنان، وفي الماضي حاولت ابتلاع الأردن. العراق حاول ابتلاع الكويت. مصر سفكت دماء اليمنيين لتفرض عليهم الوحدة، والفلسطينيون ذاقوا العذاب من "إخوانهم" في العروبة أكثر مما ذاقوا من الإسرائيليين. الليبيون يحلمون بتونس والجزائريون بالمغرب والمغاربة بموريتانيا. وطبعاً فاللوم كله في ذلك يقع على الاسـتعمار الذي يشغل العرب بعضهم مع بعض، ولكن أن يقف أحد ويسأل: "وأين هو عقل العرب؟" فهو سؤال يتعارض مع مبادئ النفاق!
في أميركا مؤمنون، وفيها ملحدون. لا أحد هنا يذهب إلى الصلاة إلا إذا أراد أن يصلي، ولا أحد يصوم إلا إذا أراد الصوم. في بلادنا يصلي الناس لأن عصا المطاوعين وراءهم، وحيث لا يوجد مطاوعون يصلي الناس حتى لا يقال عنهم أنهم لا يصلون، وكذلك يصومون خشية لسان الآخرين. هذا هو النفاق.
في بلادنا نعلم أولادنا النفاق وهم بعد في نعومة أظفارهم. نعلمهم أن " يبوسوا اليد التي لا يقدرون عليها وأن يدعوا بعد ذلك عليها بالكسـر". ناهيك عما في هذا من تعليم على الذل والجبن.
نعلمهم النفاق حين نقوم أمامهم باغتياب الناس متحدثين بالسوء عنهم بعد أن كنا لثوانٍ خلت نشـيد بحمدهم حين كانوا حضوراً، "قوم بوس يد عمك يا ولد" ، ولكن ما أن يخرج هذا العم حتى نشرع في هتك ستره ونبش قبور أجداده.
نعلمهم النفاق ونحن نلقي على الناس التحية، وبمجرد عبور من القينا عليه التحية نعلق عليه بشتى العبارات الساخرة أو غير اللائقة. وفي لهجاتنا الشعبية من هذه العبارات ما يضيق هنا عن ذكره المجال.
نعلمهم النفاق في تعاملهم مع الناس. مع الكبار والصغار. مع الغرباء ومع الأقرباء. في أمور الدين وفي أمور الدنيا. ولا بأس، فالكذب ملح الرجال.
إن النفاق ليس إلا مرضاً واحداً من أمراض اجتماعية كثيرة تعاني منها شعوبنا العربية، ولكنه بحد ذاته أسوأ الأمراض على الإطلاق، إذ أنه هو الذي يضعنا في مصاف الأمم المتأخرة، وهو مرض لن يمكننا الخلاص منه إلى أن يأتي يوم نقلِع فيه عن تعيير الآخرين بما في عيونهم من قذى ونعمل عوضاً عن ذلك على إزاحة الأخشاب الكبيرة التي في عيوننا.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط