بسام درويش
/
Jan 28, 1997
ربما تكون المقابر من أفضل الأمكنة التي يمكن للإنسان أن يقصدها سعياً وراء ساعات من الهدوء وراحة الفكر.. فبين القبور ليس هناك باعة جوالون وليس هناك متسوّلون ولا مثيرون للإشاعات ولا مطربون مزعجون.
سكان القبور أناس مسالمون لا يزعجون أو يخيفون أحداً، ويريدون "سلّتهم بلا عنب" كما يقول المثل.
لا أحد منهم يسمع الإذاعات فيغضب لما تبثّه من أخبار "تسمّ البدن" أو يقرأ الصحف ويصاب بوجع الرأس لما فيها من كتابات سخيفة لا طعم فيها.
سكان القبور لا يحملون سلاحاً ولا يحاربون لا من أجل دين ولا من أجل قطعة أرض. كل منهم قانع بما خُصِّصَ له من مأوى يمد فيه عظام جسمه براحة وسلام، وكل منهم قانع بدينه لا يسأل جاره عن معتقده أو عن أصله أو لونه.
وخلاصة القول، سكان القبور جماعة "أكابر" ولطفاء وأمناء ومحترمون، يسهل التعايش معهم ويؤتمنـون على السر أكثر من بقية الناس!
إذن لماذا يخشى الناس المقابر مع ما يتحلّى به سكانها من صفات حميدة ؟..
ولماذا يعتقد الناس أن النوم بين القبور لا يجلب إلاّ الأحلام السيّئة المخيفة ويضربون بها المثل: "لا بدنا ننَّام بين القبور ولا بدنا نشوف منامات وحشة؟.."
يتَّضحُ هنا أن ما يُقصَدُ بهذا المثل هو النوم بين قبور الأحياء من الناس وليس الأموات. فبين قبور الأحياء فقط تُباع الصحف وتُسمع الإذاعات وتُتَداولُ الإشاعات وتُطْلَق النيران.. وبالمختصر المفيد، النوم بين قبور الأحياء هو الذي يجلب الأحلام المزعجة المخيفة!
الأموات مثلاً، ليسوا بحاجة للمال، ولذلك فهم لا يقرضون ولا يستقرضون. وحدهم الأحياء يفعلون ذلك، وكم من الناس يذهبون إلى فراشهم دون أن يعرفوا طعماً للراحة لأنهم أقرضوا من لا يؤتمنون على دَيْن.
الأموات لا يتجسسون ولا يكتبون ولا يستعملون التلفون أو الفاكس. وحدهم هم الأحياء الذين يُخشى جانبهم، وهم فقط، الذين يثيرون الإشاعات ويفضحون الأسرار ويكتبون التقارير، وبذلك يصبح ائتمان أحدهم على سر مجلبة للأحلام الوحشة.
الأموات، مساكين.. لا يتحرّكون إنشاً واحداً من مواضعهم!.. لا يسرقون مال غيرهم ولا يأكلون تعب أحد أو يهددون أحداً. لا بل هم آمن الناس إذا ما استودِعوا مالاً فلا يبتلعونه أو يستثمرونه دون إذن أصحابه.
الأموات لا يسيئون الظن بأحد!
لذلك يقول العاقل من الأحياء، الذي يقطع علاقته بكل من لا يرى في الناس إلاّ السوء، إنّه "لا يريد أن ينام بين القبور ولا أن يرى أحلاماً مزعجة"، ونقصد بهذا الأخير الظنون الذي يشكّ بأصدقائه ويتوهّم دائماً وأبداً أنهم لا يزورونه إلاّ طمعاً بماله أو زوجته أو بناته. وفي أمثال هؤلاء يقول المثل: "لا تدخل بيت الظنّان ولا تاكل خبز المنّان".
لهذا السبب أيضاً، يرفض الحي قبول المعروف من بعض أخوته الأحياء حتى لا يقضي الليالي تحت رحمة فضلهم.
ولذلك أيضاً وأيضاً يتردد الحي أحياناً في مساعدة أخيه الحي حتى لو رآه يصارع الموت، احتساباً لما قد ينتج عن مساعدته من مشاكل تسبب له الكوابيس!
مقابر الأموات ليس فيها ما يجلب الأحلام المخيفة.. وحدها مقابر الأحياء، هي التي تثير الرعب، ليس ساعات النوم فقط بل خلال ساعات اليقظة أيضاً!
كم من الأحياء يهجرون أوطانهم لأنهم لا يرون فيها إلاّ أحلاماً مرعبة ليلاً ونهاراً!
وكم من الأحياء يخشون زيارة أوطانهم لأنهم عندما يحصلون على تأشيرة السفر من السفارة، لا يقرؤون بين سطورها إلاّ ما يقوله شاعر الحاكم:
يا خائنَ العُرْبِ نحن بانتظارِكْ، القائد يَعلَمُ كلَّ أقوالِـك
عوداً حميداً وأهلاً وسهلاً، وَالقبرُ جاهزٌ لك ولأمثالِـكْ!
================
بسام درويش (من كتابه، لا حياة لمن تنادي، طبع 1997)
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط