بسام درويش
/
Mar 30, 1994
غصَّت قاعة المحكمة بآلاف الحضور الذين أقبلوا من كل الأرجاء السماوية للاستماع إلى مرافعة قادم جديد يطلب دخول الجنة. وكان السبب الذي أثار فضول واهتمام سكان السـماء ودفعهم بالتالي للاحتشاد داخل المحكمة قبل انعقادها هو عدد الشهود الهائل الذين تطوّعوا أو دُعوا للإدلاء بشهاداتهم.
المرافعات في المحكمة السـماوية لا تتوقف أبداً، وقد اعتاد أهل السـماء على رؤية أبوابها مفتوحة ليلاً ونهاراً، ولكن مرافعة اليوم كانت أمراً استثنائياً جداً، إذ أنَّ مجيء حاكم أرضي بمستوى رئيس جمهورية، ليس من الأمور التي تحدث كل يوم، وما جعل الحدث أكثر إثارة أن هذا الرئيس كان يحمل اسم صدّام حسين. اسـمٌ كان يتردد ذكره باستمرار في أنحاء السماء كلها في كل مرة يصرخ فيها أحد سكان الأرض سواء كان يدعو له أو يدعو عليه. ولأن السماء لا تعرف الكذب فإن الدعاء له كان يصل إلى آذان المسؤولين عن الاتصالات مع الأرض ويُتَرجَمُ فوراً إلى دعاءٍ عليه. وهكـذا، فقد كان فضول الناس السماويين عظيماً للتعرف على هذا الزعيم الذي استطاع أن يحكم شعباً لمدّة طويلة جداً من الزمن رغم كراهية كل الناس من حوله وحتى أولئك الذين كانوا أقرب المقربين إليه!
لقد تطايرت الإشاعات من مدينة سماوية إلى أخرى تقول بأن أبواب السماء على وشك أن تُفتحَ لصدّام حسين، واستغرب السكان الخبر ليقينهم بأنَّ ما عُـرِفَ عن أعماله لا بدَّ وأنه يكفي لتمهيد الطريق أمامه إلى جهنَّـم دون محاكمة. هذه الموجة العارمة من التساؤلات دفعت وزارة الإعلام السماوية إلى إصدار بلاغٍ تذكِّـر فيه الجميـع أنَّ طلب دخول الجنّة أمرٌ، والإقامة فيها أمرٌ آخر، وأنَّ عدالة السـماء توفّر لكل إنسانٍ الحق بالدفاع عن نفسه مهما بلغت جسامة أخطائه على الأرض.
**************
يرتفع صوت أحد الملائكة داعياً صدام للدخول، وما أن يطل هذا بوجهه على القاعة حتى يأخذ الحاضرون بتبادل الهمسات التي سرعان ما تتحوَّل إلى ضجيج، فيضرب رئيس الملائكة بمطرقته طالباً من الجميع التزام الهدوء. أما صدّام، فإنه يجول بعينيه بين الجماهير ويرميها بنظراتٍ سريعة وملتهبة ممزوجة بالاستياء والحيرة، إذ أنه لم يعِ بعـدُ ما آل إليه مصيره وهو الذي اعتاد على تصفيق الناس ودعائهم له بطول العمر.
ويتابع صدّام سيره باتجاه هيئة القضاة والمحلّفين بعد أن يأمره أحد الملائكة الحراس بذلك، وهناك يسمع صوتاً جهورياً يقول له:
أتعرف أين أنت وما الذي أتى بك إلى هنا يا صدّام؟..
ويتنهّد صدّام ويجيب: كل ما أعرفه هو أنّ ألماً شديداً قد أصاب قلبي، ولا أذكر شـيئاً سوى أنني سمعتُ بعد ذلك صوت الذين حولي يقولون أنهم لن يخبروا الشعب بما حصل لي ريثما يتدبَّرون الأمور. بعد ذلك وجدتُ نفسي أدخل نفقاً طويلاً جداً خرجت من نهايته لأرتفع عالياً فوق السحاب، ثم لأرى نفسي أخيراً أمام هيئة محكمتكم، راجياً منكم النظر في طلبي دخول الجنة.
بأي حقٍّ وبشفاعة من؟ قال رئيس القضاة .
بشفاعة شعبي الذي يحبني ويهتف لي بطول العمر ليل نهار. أجاب صدّام!
وارتفعت من الأرض أصواتُ نحيب أطفالٍ وبكــاءِ أمهــاتٍ دوت في أرجاء القاعة اقشـعرَّت لها جوانح الملائكـة.
وبدأ الهمس من جديد بين الحضور، وهتف واحدٌ يقول: "إلى الجحيــم فليذهب"؛ وهذه العبارة التي لا يسمح بها المتديّـنـون على الأرض، هي عبارة مقبولة بين أهل الســماء إذ ليس لديهم غيرها يفصحون بها عما في قلوبهم تجاه من يشعرون بأنه ليس مستحقاً للعيش بجوارهم. رغماً عن ذلك فإن رئيس القضاة عاد ليضرب بمطرقته ضربات ارتجّت لها أرجاء الســماء مذكّـراً الحضور بأن العدالة يجب أن تأخذ مجراها، ثم أعلن يدعو الشــهود للمثول والإدلاء بشــهاداتهم.
وتُـقْـبِـلُ غيمــة صغيـرة تحمل صبيّاً يلبس ثوباً ناصع البيـاض، تقترب من منصة القاضي لتقف أمامها، وهناك يهتف الصبيّ من فوقها معرّفاً على نفسه:
"اسمي لا يهم. فعلى تلك البقعة من الأرض ومن جبال العراق حيث كنت، لم يكن هناك أهمية للإنسان ككائن فكيف أن يكون لاسمه أية أهمية. وفي السماء هنا، ايضاً لا تهم الأسماء، لأننا كلنا نحمل اسماً واحداً. إني واحد من كثيرين لم يتهيّأ لهم أن يستمتعوا بالحياة التي أعطاهمُ الرب. لقد حرمنا منها هذا الماثل أماكم بعد أن قصف قُرانا بقنابله المحرقة وكيماوياته السامة. لم نفعل له شيئاً ولم يكن لنا من ذنب سوى أننا كنا أبناءً لأناسٍ رأى فيهمُ هذا الظالمُ أعداءَ له. قلبه لم يعرف رحمة ولا شفقة. قلبه لم يعرف إلاّ الكراهية. إني لأذكر حين وقَعَتْ أمي على الأرض تتخبطُ بدمائها وذراعاها يلتفان حولي بقوة تطلب بصوتها الخافت المتلاشي من الرب أن يحميني. أذكر أيضاً سماع عويل الأمهات وصراخ الأطفال من كل جانب. وأذكر أخيراً كيف أصابت رأسي شظايا القنابل لأنتقل بعدها بسرعة إلى بيت الأمان والسعادة الأبدية هذا، بعيداً عن عالم الظلم والجوع والكراهية. لقد أتيت هنا مع كثيرين من أقراني، وكنت وإياهم منذ وصلنا لا نتوقف عن الدعاء إلى رب السماوات كي يسامح الظالم ويفتح عينيه لعلّه يتوب ويعود عن غيّه، ولكنه كان دائماً يدير وجهه عن كل فرصة يمنحه إياها الرب. وهكذا، بقينا ولا زلنا نرى كل يوم أفواجاً بعد أفواج تأتي من حيث كنا، تحكي لنا عما بلغه هذا القاتل من استهتار بقدرة الخالق.
ويعود الصبي بغيمته إلى زاوية من زوايا القاعة ليفسح المجال لغيمة أخرى تأتي فتقف ايضاً أمام المنصّة. فوق هذه الغيمة انتصب طفل صغير جداً ليرمي نظرة سريعة على صدّام حسين الذي أخذ يرتعش خوفاً لمرأى الغيوم الصغيرة التي كانت تنتظر في صف طويل طويل جداً، ينتظر أصحابها دورهم للإدلاء بشهاداتهم. ثم تحوّل الطفل بوجهه ناحية رئيس المحكمة يقول:
أنا يا أخي لم أحمل معي من ذكريات ذلك العالم الفاني الشيء الكثير، إذ كنت لا زالت رضيعاً، هذا إذا صحّت تسميتي بالرضيع.. كنت في سن الرضاعة حقاً، ولكني رحلت عن ذلك العالم قبل أن أعرف طعم الحليب. لم يكن بمقدور أمي المسكينة أن تشتري بمالها القليل حليباً يعوّض عن ذاك الذي جفّ في صدرها، فكانت ترضعني الماء. لقد متّ جوعاً يا أخي بينما كان هذا الرجل يبذّر الأموال على الحروب وبناء القصور وتشييد التماثيل التي تمجّد شخصه وعلى أعياد ميلاده وعلى سكره ومجونه. متّ وعزائي أنني لم أعش لأكبر في كنف هذا الظالم. ولكني رغم سعادتي حيث أنا الآن، فلا زلت حتى اللحظة أشعر بالأسى وأنا أرى أفواجاً من أقراني الذين يُحرمون من نعمة الحياة كل يوم، يرتفعون إلى هذه الديار قبل أوانهم. إنني أخشى إن سُـمِحَ لهذا الظالم بالإقامة بيننا، أن ينغّص علينا سعادتنا في هذه الجنة.
وتُقبِل غيمة أخرى يقف فوقها رجل عجوز يخاطب القاضي قائلاً:
أذكر يا أخي آخر يوم لي في ذلك العالم الفاني أني كنت في المستشفى أتلقى العلاج لمرض أصابني وإذ بالناس من حولي قد أخذوا فجأة يتناقلون برعب ما سمعوه من أخبار احتلال قوات هذا الظالم لبلدنا، ولم تمض سوى ساعة من الزمن حتى أخذت القنابل تتساقط على البناء بغزارة ولم أشعر بعد ذلك إلا بيدٍ رحيمة تنتشلني لتنقلني بسرعة إلى هذا المكان بعيداً عن عالم الجشع والأحقاد.
بعد ذلك تُـقـبِـلُ غيمةٌ يعتليها رجلٌ، ما أن رأى الحاضرون وجهه حتى عادوا إلى التهامس فيما بينهم وليهرع الحراس يقتادون صغار الملائكة إلى خارج القاعة. أما السبب وراء هذه البلبلة فهو كون قصة هذا الرجل معروفة للجميع وقد صنفتها وزارة الإعلام الســماوية بين القصص التي لا يجوز لأطفال السماء سماعها حتى ولو كانوا برفقة كبارهم. وبعد أن تأكّد رئيس المحكمة من خلوّ القاعة من الصغار أعطى للرجل الإذن بالكلام فتقدم هذا الأخير وقال:
"أنا واحد من آلاف الناس الذين أضاعوا ســنوات طويلـة من عمرهم الأرضي في سجون هذا الظالم. خلال فترة اعتقالي، أذاقني عملاؤه كل صنوف العذاب الجسدي. ضربوني، بصقوا عليَّ، فعلوا بي المنكرات، فتحوا فمي وبوَّلــوا فيه. سلّطوا كلابهم عليَ تنهش جسدي وتلعق من دمي. وضعوني في زنزانة صغيرة جداً لا أستطيع الحراك أو الجلوس فيها لأنّ عرضها لم يكن يزيد عن عرض كتـفيّ، ثم فتحوا عليّ من فوق رأسي مجاري مراحيض السجن وغمروني بأوساخها. اقتلعوا أظافـر قدميّ ورجليّ وأطفأوا سجائرهم في جسدي، وكانوا لكي يزيدوا في عذابي يضعون أمــام عينيَّ صور زوجتي وأولادي. واستمرّ عذابي على يد عملاء هذا الظالم إلى أن جاء الموت فأطلق سراحي ونقلني إلى دار الحرية هذه، وها أنذا أراه يقف الآن أمامكم يرجو الغفران بينما لا زال هناك حتى هذه اللحظة من يعاني العذاب في سجونه الرهيبة."
*************
واستمر توافد الغيمات الواحدة بعد الأخرى، تحمل كل منها ضحيةً من ضحايا الظالم، تـتـقـدَّم فـتـطرح أمام القضاء السماوي شهادتها أو شكواها ثم تنسحب لتقف في مكان ما من القاعة بانتظار القرار الإلهي. خلال ذلك كان صدّام يرتعش خوفاً وقد تمثّلت له أبواب الجحيـم مفتوحة مستعدةً لابتلاعه، فجثــا على ركبتيه ورفع نظره إلى كل هؤلاء الذين أصابهم ظلمه وأخذ يقول بصوت متهدّجٍ: لقد أخطأت وأطلب منكم السماح والغفران. آنذاك أخذت أجنحة الملائكة ترفرف بحنانٍ.. فقلوب الملائكة طيـبة رقيقة، وطلب الســماح والغفران يحرّك عواطفها بسرعة، ولكن لسـوء حظ صدّام، لم يكن للملائكة الحق في اتخاذ أي قرار أو التوصية به؛ رغمَ ذلك، فإن تعاطفها أوقد أمام عينيه سـراج أملٍ، فعاد إلى طلب العفو والمغفرة متوجهاً بوجهه ناحية هيئة المساعدين الذين كانوا ينظرون إليه يقرأون أفكاره ككتاب مفتوح أمامهم.
مرّت لحظاتٌ حسـبها صدّام سنواتٍ طويلة، وقف بعدها أحد الأعضاء ليعلن بصوتٍ مرتفع قائلاً:
"الحكم لـه وحده.. إليه نرفع شــهادة الشـهود وشـكوى المتظلّمين وكذلك طلب الغفران من المتّهم. لله وحده وليس لأحد غيره حق تقرير المصير."
وضرب رئيس القضاة بمطرقته معلناً رفع الجلسـة بانتظار صدور القرار الربّـاني.
**********
انفتحت أبواب القاعة ليدخل منها جيشٌ عظيمٌ من الملائكة وهم ينشدون التسابيح للرب ثم اتجهوا إلى رئيس المحكمة فقدّموا له لفافة كبيرة فقام هذا بفتحها ثم بدأ بتلاوة ما جاء فيها بصوت جهوري:
"ذنوبك أيها الظالم أعظم من أن تُحصى وليس في الجنة مكان للظالمين. أما دخولك الجحيم فهو أمرٌ سابق لأوانه لأنَّ حيـاتك على الأرض لم تنتـهِ بعدُ بالشكل الذي قُرِّرَ لها أن تنتهي عليه. موتــاً لم تمتْ بعد، بل خطفاً مؤقتاً خُطِفت. لذلك، فقد قررنا أن تعود إلى حيث أتيت إلى أن يأتيَ أجَـلُـكَ فتموتَ بأيدي الناس الذين ظلمتَ والأطفالِ الذين يتَّـمْت. على الأرضِ التي زرعـتَ فيهــا شــرَّك تنالُ عذابـَـك قبل أن تطأ قدماك أرض الجحيم مقرّ عذابك الأبدي."
*********
ويتململ صدّام في فراشـه ويفتح عينيه ليرى الأطبّــاء من حوله وقد فتحوا أفواههم وعيونهم دهشــةً وتعجبـاً، إذ أنهم كانوا يتداولون الرأي فيما عليهم أن يفعلوه قبل أن يعلنوا للشـعب موت الرئيس وقد أيقـنــوا بأنّ الأزمة القلبية قد أصابت منه مقتلاً.
لم يشأ صدّام أن يطلع أحداً على ما رآه أو ما مرّ به معتبراً أن ذلك لم يكن سوى أضغاث أحلام.
وعاد الظالم إلى ظلمه والفاجر إلى سـابق عهده.
**********
*******
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط