تناسل الأفكار الوقَّادة والفلسفات المُلهمة والمعرفيات الثقافية المضيئة والفنون الإبداعية وقيم التنوير الفكري وتجليات الأدب الإنساني على مر التاريخ البشري، هيَ في حقيقتها الذاتية التعاقبية ليست سوى روافد تتدفقُ دائماً بالتناسل الثقافي الإلهامي وتنهمرُ بالجديد والمبتكر والجريء والإبداعي، تمدُّ الذاكرة الإنسانية بالإرث المعرفي التراكمي والتنوعي الهائل، وتُفعمه بالحيوية والتنوع والتجديد والتطلع والتغيير والتساؤل والتفاعل والانتاجية..
الذاكرة الإنسانية المعرفية تبقى دائماً في حالة من التجديد والابتكار والتنوع والدهشة، لأنها ذاكرة تتجلّى بكل ما تنهمرُ به الجهودات الإنسانية المبذولة في مجال الاضاءات الفكرية والعلمية والإبداعات الفنية والأدبية، وما تمتاز به ذاكرة الإنسان المعرفية، إنها ليست قصيرة أو إنها فقط معنية بمرحلة زمنية معينة، أو إنها ذاكرة تجلّت فقط لمرة واحدة، بل هي في الأساس ذاكرة تمتد عميقاً في الزمان وتتصل بدايةً بكل ما فكّر فيه الإنسان وبكل ما تعلّمهُ وتعلّمَ منه وعلّمه وصنعهُ وكتبه وابتكرهُ وأبدعه، وتبقى تتعاقب هذه الذاكرة في تناسل معرفي وتنوعي وتعددي، أليست مثلاً ذاكرة الإنسان المعرفية في العهد الإغريقي التي تجذرت عميقاً عبر فلاسفة الفكر والأدب الأثيني، هي التي ألهمت ذاكرة الإنسان في العصر التنويري ثقافة القيم الذاتية المفعمة بمفاهيم الحرية والإبداع والنقد والتفكير والتجديد والتغيير، والزاخرة بالمغامرات الثقافية الجريئة، وألم تكن مثلاً ذاكرة مؤسس علم الفلك الحديث (كوبرنيكوس) ذاكرته الفلكية والعلمية والمعرفية والفلسفية، هي الذاكرة التي ألهمت من بعده (جاليليو) في أبحاثه الفلكية التجديدية والعلمية والمعرفية، وألم تكن مثلاً ذاكرة ديكارت المعرفية والفلسفية ملهمةً دائماً للذاكرة المعرفية لفلاسفة العصر التنويري، وألم تكن مثلاً ذاكرة الفيلسوف (شوبنهور) عميقة ومُلهمة لذاكرة (نيتشه) الفلسفية، وألم تكن مثلا ذاكرة (هيغل) الفلسفية بمثابة محطةٍ شامخة استوقفت الكثير من الفلاسفة من بعده في جنباتها المفعمة بالفكر والمعرفة، وألهمتهم فيما بعد بذاكرة معرفية متجددة، وألم تكن مثلاً ذاكرة (هوسرل) الفلسفية عميقة في ذاكرة (هايدجر) المعرفية، وهكذا تبقى ذاكرة الإنسان المعرفية مستمرة في التعاقب والتناسل والتجديد والتغيير والإبداع والابتكار، ولكل ذاكرة إنسانية معرفية اسهاماتها واضاءاتها وتجلياتها على امتداد الزمان في مجالات العلم والفكر والثقافة والأدب والفنون..
وليس غريباً أبداً أن يجد الإنسان نفسه أينما كان وفي أي زمان كان أنه سليل الذاكرة الإنسانية المعرفية الممتدة عبر الأزمان، ينهلُ منها ويستزيد بما يراهُ جديراً بإنارة جوانبَ من عقله وفكره، وقد يجد فيها نقطة ما مضيئة تعينهُ على التفكير فيها وتجديدها ونقدها وغربلتها والانطلاق بها مجدداً متسلحاً بذخيرتها المعرفية الإنسانية، ومن المنطقي جداً والإنساني أيضاً والمعرفي أولاً أن يجد إنسان ما أنه يتجلّى فكراً وتوثباً وتجدداً حينما يجد نفسه ينهلُ من ميراث الذاكرة المعرفية لفلاسفة عصر النهضة والتنوير مثلاً، ويجد في ذلك الميراث التنويري نقاطاً مضيئة وأفكاراً وتصورات ومفاهيمَ معرفية تنويرية ينتسب لها معرفياً وفلسفياً وتفكيرياً، يفعلُ ذلك لأنه لا يعاني أبداً من عقدة الهويات الضيقة أو من مرض الانتماءات المذهبية والأيديولوجية، أو من عقدة الثنائيات القاتلة، وليسَ مهووساً بالتحيّزات الثقافية المسبقة تلك التي تنبذ كل ما ليسَ له صلةً بميراثه الثقافي التحيّزي، وليسَ مسكوناً بهواجس العدائية للإرث الثقافي الإنساني، إنه الإنسان المعرفي الذي يجد في الإرث الإنساني المعرفي التعاقبي والتواصلي والتداولي، امتداداً فكرياً في ذاكرة الإنسان، وتطوراً وتجدداً وإبداعاً في مسيرة العقل الإنساني التفكيري، ويجد فيه أيضاً امتداده الفكري والمعرفي، ويرى فيه تطورات وعيه الإنساني وتموّجاته النقدية والتفكيرية، وما توقفاته الفكرية والتأملية والنقدية والتفكيرية أمام تراسل الإرث الإنساني المعرفي سوى استثارة جمالية لذاكرته المعرفية الحاضرة، حيث يضعها قيد التوهج والاشتهاء المعرفي، وقيد التأمل والتوثب والتفكير والنقد والتحديق، إنه الإنسان الذي يُفعمُ ذاكرته المعرفية بالذاكرة المعرفية الإنسانية، يُفعمها بجديدهِ من التصورات والأفكار، ويُفعمها بالجريء والمبتكر من توهجات وعيه وتفكيره وتساؤلاته..
ذاكرة الإنسان المعرفية تتخلق دائماً في مخاضات المعرفة والفكر والفنون والآداب، وتبقى تتعاقب وتتناسل في نظام معرفي خلاق من التجارب والخبرات والتفعيلات والتطبيقات والمخاضات والصراعات، وتتواصل ثقافياً ونقدياً وتفكيرياً، ولذلك فهي ذاكرة تتوالد بالمعرفة والفكر والتساؤلات باستمرار، وما تنتجه الذاكرة الإنسانية من أفكار وتصورات ونظريات في مرحلةٍ زمنية ما، قد تكون الأرضية التي تنطلق منها الذاكرة الإنسانية المعرفية في مرحلة فكرية لاحقة، فحينما بدأ الفيلسوف (ديكارت) مثلاً في اشعال الذاكرة الإنسانية في مطلع القرن السادس عشر، بالتفكير والنقد والتساؤل استناداً على اعتماد العقل أساساً مذهبياً للعقلانية، وأساساً فكرياً لوجود الإنسان التفكيري والنقدي، كانت الذاكرة المعرفية اللاحقة عليه في عصر التنوير تنطلقُ من هذه القاعدة الفلسفية العقلانية التفكيرية الصلبة، وبقيت هذه الذاكرة المعرفية مشتعلة بالجديد والمبتكر والجريء من الأفكار والتصورات والمفاهيم، وتتوالد في تواصل معرفي بالثقافات ونظريات الفكر الخلاق من سبينوزا إلى فولتير ومروراً بكانط وهيغل وهايدجر وغيرهم إلى يومنا هذا من مفكري الحداثة والعقل والتنوير، وهذه الذاكرة المعرفية التنويرية والعقلانية ما يميزها إنها منحت النشاط المعرفي إنسانية الهدف، من حيث إنها وضعت الإنسان أولاً وأخيراً في مركز الهدف، فكانت أن تقصدت تحريره من الجمود الفكري والاقتعاد الماضوي والتوارث التلقيني، ومنحت العقل الإنساني قداسة الحرية والتفكير والرأي والنقد والتساؤل، ولذلك لم تكن هذه الذاكرة المعرفية حبيسة الهويات الثقافية والشعاراتية الهالكة ولم تخضع لاشتراطات الأفكار المؤدلجة، وبعيدة عن تشوهات المذهبيات الطائفية الاحترابية، فهيَ في الأساس ذاكرة إنسانية تتعافى تخلقاً وإبداعاً وتجدداً وتوهجاً في مناخات الحرية والجمال والانفتاح والتعددية وقيم الذات الإنسانية..
وكما كانت الذاكرة المعرفية لفلاسفة النهضة والتنوير قادرة على استدعاء الذاكرة المعرفية لفلاسفة الزمن الأغريقي للتأكيد مجدداً على قداسة الذات الإنسانية وقيّمها الفكرية والذاتية وإنها أصل الإبداع وجوهر الوجود، كذلك عملت الذاكرة المعرفية لإنسان الحداثة على استدعاء قيم العقلانية والحرية والتحرر، وقيم الوعي التفكيري والنقدي وفلسفة السؤال من الذاكرة المعرفية لفلاسفة عصر التنوير في استثارة فلسفتها الفكرية الباحثة عن كل ما يجعل الإنسان أن يقفُ مجدداً أمام مسؤولياته التفكيرية والنقدية، وأمام مسؤولياته في صناعة المشهد الثقافي الكوني، إنها الذاكرة التي لا تتوقف عن استدعاء كل ما يجعلها دافقة بالتجدد والتغيير والإبداع، وما يجعلها بارقة بالوعي والإدراك، وتبقى دوماً في حالةٍ من الاستدعاء الجمالي للذاكرة الإنسانية المعرفية الممتدة عبر الزمن..
وما تدفق الذاكرة الإنسانية المعرفية بالأفكار والمفاهيم والتصورات عبر تحولاتها وتبدلاتها الفكرية في تعاقباتها الزمنية، ليس سوى الترجمان الفعلي لتاريخية الإنسان في البحث العقلي والفكري الذي لا يتوقف عن انتهاج سبل التطور المستمر والتجديد والإبداع الدائمين في المفاهيم والأنساق الثقافية، وفي خلق التصورات والمعاني الفلسفية والأدبية والفنية، وفي مقابل ذلك لا تعني تاريخية البحث والمعرفة الإنسانية أن الذاكرة الإنسانية المعرفية تتحول إلى تاريخ متحفي ويجب بالتالي أن يُحاط بالقداسة أو التأليه، أو إنها يجب أن تصبح إرثاً من الماضي المقدس لا يمكن تجاوزه أو انتقاده أو مساءلته، فالإنسان المعرفي لا يرى أن الذاكرة الإنسانية المعرفية في تاريخيتها ماض مقدس أو منزّه أو متعال، يراها ذاكرة خالقة للانفتاح، وصانعة للتعددية، ومفعمة بالتجديد، وملهمة للجديد والمبتكر، ودافعة للتفكير والنقد والتحديق، ونابذة للتعصب والتزمت والتقوقع، ولذلك فإن ذاكرة الإنسان المعرفية لا تتخلق بالجديد والجريء والإبداعي إلا في خضم صراعاتها الفكرية والثقافية المستمرة بين مفاهيمها وتصوراتها التي تخضع دائما للنقد والتفكير والتساؤل، وتخضع لقيم المعاصرة والتجديد والتخلق والحداثة، وما اختلاف المشهد الثقافي من مرحلة زمنية إلى أخرى سوى دليل على أن الذاكرة الإنسانية المعرفية تتعافى أبداً في مدار الفكر والبحث والتجديد والإبداع، وليست ماضياً محاطاً بالتقديس أو التنزيه أو التعالي، وتأسيساً على ذلك تؤكد الذاكرة الإنسانية المعرفية على أنها ذاكرة لا تحتكر الحياة والفكر والمعرفة والإرث الإنساني في أنماط أحادية أو في حقائق كاملة أو في يقينيات مطلقة أو في اسبقيات فكرية تحيّزية أو في أدلجات قامعة للعقل وحرية التفكير، ولا تتبنّى مفاهيم احتكار الحقيقة، ولذلك فهي ذاكرة تتحرك في القلق والشك واللايقين، وتتجلى بالنقد والتفكير والتساؤل، وتستمر بالبحث والتجديد والتواصل، وتتطور بالجرأة والمجازفة والتحليق، وتتخلق بالإبداع والابتكار والدهشة، وتتوهج بخلق المعاني البكر والتواصل الحميمي الجمالي مع الحياة..
محمود كرم، كاتب كويتي
tloo1996@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط