عماذا يبحث؟
إبراهيم عرفات
/
Jul 08, 2006
"ماذا خرَجْتم تَنظُرونَ في البَرِّيَّة؟ أَقَصَبةً تهزُّها الرِّيح؟.." (لوقا 7 : 25)
منذ أن كان الإسلام غضا طرياً يافعا في مهده، شهد أول قصة تحول فيه من الإسلام إلى المسيحية. هذا كان عبيد الله بن جحش الذي آثر الاغتراب بمسيحيته على البقاء بين أهله وقومه ولم يكن الدين الجديد ليقنعه أنه فعلا حق الله.. وبينما الناس يتجادلون ويتباحثون أيهم الأفضل لا يملك الواحد إلا أن يسأل سؤالاً بسيطاً: ما الذي رآه هذا الشخص في المسيحية ولم يره في الإسلام؟ يتباهى كثير من المسلمين بأن دينهم أكثر معقولية من المسيحية وأن دينهم مؤسس على "العقل" في الوقت الذي يطالبوننا فيه بأن نؤمن بأشياء وأشياء لا تخضع للعقل مثل الله والملائكة وسليمان يخاطب النملة وكثير من القصص القرآني المؤسس على الأسطورة. حجة العقل لا محل لها من الزهو هنا لأن الله لا نعرفه بالعقل وإنما نعرفه بالإعلان. إنْ لم يعلن عن نفسه فكيف نعرفه؟ ولما احتار الناس في شأن المسيح مطالبين تحديد هويته زاد المسيح أسئلتهم سؤال آخر: "ماذا يقول الناس من أنا؟" ويرد عليه بطرس: "أنت المسيح ابن الله الحي" فينشرح صدر المسيح بالفرح والحبور ويؤكد عليه قائلا: طوبى لك يا سمعان بن يونا لأن لحما ودما لم يعلنا لك هذا ولكن أبي الذي في السماوات (لم يكن بطرس ليكون أداة يستخدمها الله ليعلن حقيقته إلا لولا أن الله تعالى سبق وأعلنها لقلب بطرس وبموجب قيام الله بالمبادرة وإعلان هذا لقلب بطرس ولكل جوارحه يصبح بطرس أداة في يد ربنا ويعلن إعلانات الله: أنت المسيح ابن الله الحي (راجع متى 16: 13- 17). الإنجيل ببساطة وإيجاز هو إعلانات الله. الله يعلن لنا عبر التاريخ وينتقل بنا من مرحلة الطفولة الإنسانية بكل رموزها إلى مرحلة الإعلان الكامل في مجيء المسيح.
بالنسبة لي الإسلام يمثل مرحلة من مراحل إعلانات الله في مرحلة الطفولة الإنسانية ولكن معرفة الله فيه ضبابية عليها عتمة وقتام وكأننا في أول عهد معرفتنا بالله في بدء التاريخ البشري. وجدت ديناً يأمرني بمصاغرة غير المسلم في آية الجزية في سورة التوبة 29 فتأفف حسي الإنساني وقال معاذ الله أن يأمرني أن أكون أداة بمصاغرة أخي الإنسان وهو خليقته مثله مثلي ويعرفه بطريقة قد تختلف كثيرا أو قليلا عني. أين آية الجزية في "وهم صاغرون" من "الله محبة" "أحبوا أعداءكم"؟ فإنْ كان الإسلام دين الفطرة ويطلب مني أن أعيش وفق فطرتي الإنسانية ويكون لكل فعل رد فعل فالمسيحية ترتفع بنا إلى مستوى أبعد من العيش الغريزي الفطري وهو مستوى "التأله" عندما نذكر ماقاله ربنا على الصليب وهو يذكر من يذيقونه ويلات الأوجاع ويجلدونه بالسياط على الصليب: يا أبتاه لا تحسب لهم هذه الخطية. وعندما يقول لنا هذا الرجل نفسه أن نحب أعداءنا ونصلي لأجل من يسيئون إلينا فبحسب النص اليوناني ليس المقصود مجرد الصلاة العابرة بل أن نحني ركبنا ونتضرع إلى الباري تعالى بالتشفع والصلوات التوسلية نيابة عنهم حتى لا يحسب عليهم أي خطية بل يبرئهم منها ويريهم حبه العجيب. هذا الفهم الإيماني في المسيحية يفوق السلوك بمقتضى الفطرة ويدعونا للحياة الإلهية والتي عاشها المسيح على الأرض ووضعها لنا نموذج نتسلمه منه مباشرة. تلك هي السماء على الأرض لمن لا يريدون مجرد صك تبرئة من الجحيم و التعامل مع الله بأسلوب الدائن والمدين والبائع والمشتري الذي يشتري منه الجنة ويشتري منه الحسنات بالأعمال الصالحات. أنا مع أبي العلاء المعري عندما يقول:
وأعبد الله لا أرجو مثوبته لكن تعبد إعظام وإجلال أصون ديني عن جُعل أؤمله إذا تعبد أقوام بأجعال (أجور)
هذا لربما يجيب على سؤال أصدقائي اللادينيين عندما يبتسمون لي تعجباً أو تهكماً متسائلين: ماذا فعلت؟ هل استبدلت ديناً بدين آخر؟ ما الجديد؟ في واقع الأمر، الحياة التي أحياها بالروح ليست ديناً آخر يحل محل دين سابق ولا هي مبنية على مجموعة فرائض وأركان إيمان بل الحديث هنا هو عن سرّ ابن الله. المسيح الذي أؤمن به مستعلنا لي سرّ الله ليس مجرد فكرة قابلة للدحض أو البرهان بل هو كينونة شخصانية قابلة إما للقبول أو الرفض في شخصانيته الحقيقية التي أرتبط بها، ويصبح هو ربي وإلهي وصديقي والذي لا أخشاه أبدًا إذ لا أخشى الأصدقاء لأن المحبة الكاملة تطرد الخوف ولا تدع له مجال.
وإذا أخذنا برؤية الأب لويس ماسينيون للإسلام، فوحي الله وكشفه عن ذاته يمكن النظر إليه في 3 مراحل تقريبا. المرحلة الأولى هي زمن إبراهيم النبي أو زمن الآباء (الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة – عبرانيين 1: 1) والتي فيها يكشف الله عن ذاته ويوحي بـ "الديانة الطبيعية" فيرى كل ما في الكون يشير إلى عظمة الله "السموات تحدث بمجد الله و الفلك يخبر بعمل يديه" (مزمور 19). ثم جاءت شريعة موسى في المرحلة الثانية وهي مرحلة الفرائض والأحكام والأوامر والنواهي وتقابل "الروح الدينية" في الإسلام. وفي المرحلة الثالثة يأتي المسيح ووحيه هنا هو كشفه عن حب الله اللامتناهي. بمجيء المسيح تبدأ حقبة "الأيام الأخيرة" بحسب التعبير الكتابي: "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلمنا في هذه الأيام في ابنه" (عبرانيين 1: 1). تمثل المرحلة الأولى والثانية في فهم القديس بولس مرحلة "طفولة الإنسانية" يتحرك فيها الإنسان بلوائح ونواميس وأما المرحلة الأخيرة فهي مرحلة النضج حيث يكتب الله شريعته في قلوب المؤمنين والذين قد أصبحت قلوبهم الآن "قلوب لحمية" (2 كورنثوس 3: 3) لا حجرية كالحجر الذي نقشت عليه الوصايا العشر. بمجيء ابن الله ولّى عصر الجمود والتحجر الفكري دون رجعة.
المرحلة الأولى: "لما كنت طفلاً كطفل كنت أتكلم وكطفل كنت أفطن وكطفل كنت أفتكر". ( 1 كورنثوس 13: 11 أ )
المرحلة الأخيرة: "ولكن لما صرت رجلاً أبطلت ما للطفل" (1 كورنثوس 13:11 ب)
الإسلام في نظر الأب ماسينيون هو عودة لديانة الآباء الطبيعية أي هذه المرحلة الأولى والتي يكلم فيها الله الآباء بأنواع وطرق متنوعة و"جوهر وكنه الله لا يمكن معرفتهما" في حين أنه في المسيح تم استعلان لنا جوهر الله فصار هو أيقونة الله الغير منظور. في المرحلة الأولى حيث هناك عودة الإسلام إلى الآباء يتبع الإنسان فقط ما أوحي له وتبين له من صفات الله ونواميسه وأحكامه أما في المرحلة النهائية حيث المسيح لا يكفي كل هذا وإنما يريد الإنسان ما هو أكثر وأهم وهو الاتحاد بالله مصدر وجوده وحضور الله ليس في هذا المعبد أو ذاك ولكن "هو ذا مسكن الله مع الناس" حيث، في المسيح فقط، يسكن الله في قلوبهم وحضوره يلازم كل صغيرة وكبيرة في حياتهم وهذا هي جنة النصارى؛ الفردوس الحقيقي "اليوم تكون معي في الفردوس" (لوقا 23: 43). يرى الأب ماسينيون أن هذا النموذج بمراحله الثلاث يفسّر الفروق في القضايا الأخلاقية القائمة بين الإسلام والمسيحية واليهودية مثل سماح الإسلام بتعدد الزوجات وعقيدة الجهاد والجزية في حين أن يسوع المسيح يرفض هذه الأمور رفضاً جذرياً. ولهذا فمن السخف نقد الإسلام بمعايير مسيحية ولا مجال لمقارنة الإسلام بالمسيحية لأن هناك فارقاً ما بين الطفولة الروحانية متمثلة في الإسلام والنضج الروحاني في المسيح حيث نسلك سلوك الكبار ونبطل ما هو للطفل من زاوية تاريخية ـ روحانية (ا كورنثوس 13: 11). وعندما يتحول المسلم للمسيحية فإنه يبحث عن فردوس الله الذي أقام مسكنه وسط بنات وبني البشر ويقيم فيه مصلياً بتوسلات وحب صادق متضرعا إلى الباريّ جلّ علاه نيابة عن إخوته وإخوانه المسلمين الذين يعرفون الله بدون شك ولكن لمّا يصلوا بعد إلى كمال المعرفة التي أظهرها إلهنا لنا في الأيام الأخيرة كما جاء في فاتحة الرسالة للعبرانيين. وعليه فوجود الإسلام في اعتقادي هو دينونة للمسيحيين تنخس ضمائرهم وتشهد على تكاسلهم وتقاعسهم في إعلان حب الله الكامل للبشر واستخفافهم بالنعمة فجعلوها فرصة رخيصة للخطيئة وهم المدعوون لأن يعيشوا كما يحق لإنجيل المسيح ويتعلموا وهم أبناء وبنات النور أن يكونوا أحكم من أبناء هذا الدهر في جيلهم.
===========
تيموثاوس إبراهيم
timothyinchrist@gmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط