أعتقد أن المسلمين أكثر الناس افتتاناً بتراث الحماسيات والحروب، وأكثر أمم الأرض استحضاراً لتراث الثأر والعنف والقتال، وتحتل الأشعار التي تمجد الحروب والملاحم القتالية في الذاكرة الجمعية لأمة العرب مكانة متقدمة، فضلاً عن تمجيدهم لقصص الغزو والقتال والثأر في التاريخ القديم والحديث..
أتصور أن كل ما سبق له علاقة مباشرة ووثيقة بالتركيبة النفسية والعقلية لشخصية الإنسان المسلم والعربي وقد ساعدت عوامل عدة في تكوينها وتطعيمها بالمؤثرات والعوامل التي تجعلها على قيد الاستنفار والاشتعال الحماسي والحالة الهجومية..
ربما واحدة من العوامل تعود إلى أن العرب والمسلمين لا يملكون سوى تراث الغزوات والحروب وما صاحبه من حماسيات وثأريات وأشعار كان حجرالزاوية في التكوين النفسي والثقافي للشخصية العربية، ولذلك ليس مستغرباً أن نرى إنها شخصية مسكونة بحالات الهيجان الثأري والاحتقان الخطابي والانفعالات السلوكية والعقلية الهجومية..
وقد تكون (الفتوحات) الإسلامية حسب التعبير الديني الدارج لها في القرون الأولى للإسلام، من حيث إنها كانت تعتمد على حد السيف، فهي بالتالي قد أغنت المخيال الجمعي عند المسلمين بالإرث الحربي، ساهم في تشكيل الشخصية المسلمة والعربية فأصبحت مجبولة على العنف والتسلط وثقافة الانفعال الهجومي..
ويقول آخر بأن (آيات) القتال والجهاد في القرآن هي بمثابة المنهج السلوكي والثقافي الذي يجب أن يسلكه المسلم في حياته وهي التي بالتالي يجب أن تحدد للمسلم حدود علاقته مع الآخرين، وهي التي يجب أن تكون في نهاية الأمر الإطار العام لحياته بغض النظر عن الظروف التاريخية والخلفيات الموضوعية لنزول الآيات القرآنية..
ويذهب آخر إلى التركيز على أن السبب وراء تمحور الشخصية العربية والمسلمة حول العنف والثأر والهجوم هو أنه قد تم تحويل الإسلام إلى (أيديولوجية) تتبنى نظرية هجومية استحواذية أحادية في الرأي والفكرن وهي أن دين الإسلام هو الذي يجب أن يسود العالم وأن تؤمن به البشرية قاطبة، وأنه لا اعتراف مطلقاً بالإنسان كإنسان ما لم يكن مسلماً..
ويرى آخرون أن أدبيات الفكر الديني الذي تأسس على نفي الآخر وتبني نظريات تسييس الإسلام وراء الشحن المنظم والمبرمج لفكر العنف في عقلية الفرد المسلم والعربي وكان أن تمَّ على ضوء هذه النظرية نعت الآخرين بالجاهلية المعاصرة والتي يجب محاربتها والقضاء عليها بشتى السبل والأساليب ..
ويجد البعض أن الإسلام أصبح له أعداء كثر هنا وهناك يتقصدون محاربته في كل أنحاء العالم ولا يريدون له الانتشار والحاكمية، ومن خلال هذه الثقافة المسكونة باعتقادات عدائية الآخرين للإسلام تبلورت في عقلية الإنسان العربي والمسلم نظرية المؤامرة، وأخذ يؤمن بها إيماناً لا يتزعزع وأصبحت واحدة من أكثر الثقافات تغلغلاً في عقليته ونفسيته وتفكيره دون أدنى تفكير بحقيقة وجودها أو درجة تمثلها على أرض الواقع..
وربما هناك سبب مباشر يجعل الفرد المسلم والعربي في حالة من الاستنفار والتوجس والاستعداد الهجومي والانفعال، وهو اعتقاده اليقيني الذي لا يتسرب إليه الشك أبداً أن أمة الإسلام لهم الأفضلية المطلقة على باقي البشر، وأن دينه هو الأفضل على الإطلاق، وأنه الدين الذي لا تشوبه الشوائب ولا يعتريه الضعف ويتصف بالمطلق في كل مكوناته الفكرية والثقافية، ولذلك فإن أي نقد لدينه يعتبره بمثابة حربٍ هجومية ويجد فيه تطاولاً وخطراً على أقدس ما لديه..
وحتى لا يتهمني أحد بالكلام النظري والتجني على الحقيقة والمبالغة في وصف الحالة، أقول يكفي أن نرى كم هو مقدار العنف الذي أخذت الشخصية الإسلامية والعربية تتمثل به في الأحداث الأخيرة؛ ولا أريد أن أستحضر تاريخ العنف من مجاهيله السحيقة وأتركه لذاكرة المتغنين به افتخاراً وطرباً، ومرور سريع على آخر الأحداث في أمتنا العربية والإسلامية تكشف لنا عن مدى الاحتقان الانفعالي الذي يستحوذ على العقلية والنفسية المسلمة. فمنذ الفتوى التي صدرت بحق الروائي سلمان رشدي صاحبته بتوتر ديني حاد حالاتٌ من الفوران والاهتياج الشعبي الإسلامي، ومروراً بما حدث من هيجان اسلامي شديد الانفعال على قرار الحكومة الفرنسية منع الحجاب في المدارس الحكومية، وفوق هذا وذاك نجد زخم العنف المتجذر في تجاويف الحراك الأصولي الديني الذي استهدف البشر تفجيراً وقتلاً ودماراً في كل مكان من العالم، ووقوفاً عند أحداث العنف والانفعال الشوارعي العنيف التي شهدته الضواحي الفرنسية في الأشهر الماضية وما حدث أخيراً من ردود الفعل العنيفة والمتصلبة في الرد على الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول (ص) والتي طالت السفارات والهيئات الدبلوماسية وألحقت الدمار في الممتلكات الخاصة. وما يفزعنا في هذا الأمر تحديداً أن هناكَ أطرافاً تريد أن تُبقي حالة الاحتجاج على الرسوم الدنماركية قيد التظاهرات الشعبية المشتعلة بالانفعال الصراخي والهيجان الخطابي والتصعيد العدائي والعدواني للآخر ورفض أي حل آخر لمعالجة هذه الأزمة التي وجدت مَن يستغلها استغلالاً سياسياً وأيديولوجياً، وفي هذا الاتجاه تحديداً يقول الكاتب (مشاري الذايدي) في مقال له بصحيفة الشرق الأوسط اللندنية تحت عنوان (القرضاوي لعمرو خالد: لا تصالح) ما نصه:
(الشيخ القرضاوي، وهو يصيح: الثأر الثأر، الغضب الغضب. كمن يحافظ على شرط البقاء، لأنه لو اعتذر الدنماركيون، بكل الشروط المطلوبة منهم، بل ولو قرروا، مثلا، مثلا يعني، تدريس السيرة النبوية لابن هشام كاملة في المدارس الدنماركية، فإن ذلك، حسب برنامج الحامين لمشاعر الغضب، يعد مكسبا أقل من مكسب بقاء الاصطفاف الجماهيري الديني وغير المسقوف بسقف واقعي، هذا الاصطفاف والتوتر الديني العام، هو ثمرة الثمرات من ازمة الدنمارك..)
والأمر بالنسبة لدعاة الأصولية الدينية لم يتوقف عند تصعيد نبرة العداء للغرب وحضارته عموماً وتوتير الشعوب بالانفعالات الغوغائية على ضوء الأزمة الدنماركية، بل تعدى ذلك إلى النيل بالتقريع والتوبيخ والاهانة من الكتّاب ومن بعض الدعاة الذين دعوا إلى الحوار والتهدئة وعدم إثارة الفوضى والتحلي بأخلاقيات التعامل مع الآخر..
بطبيعة الحال هناك مجموعة من الموتورين في أمتنا الإسلامية الذين لا يجيدون سوى شحن جماهيرهم بالحماسيات الدينية وتثوير انفعالاتهم لتحقيق أقصى ما يريدون من حالة الاستنفار والتعبئة الدينية، وليس مهماً عندهم ما يلحقه هذا التصرف الأهوج من ضرر بالغ بالإسلام من حيث أنه يجب أن يثبتوا للعالم أنه دين الحوار وليس دين الصدام والعنف، وفي ذات الوقت لا يريدون أن يفهموا حقيقة أصبحت واضحة وجلية وهي أن الغرب لن يتخلى عن حربه الثقافية ضد المسلمين ما دام المسلمون رهن هذه العقلية التخريبية والهجومية والقتالية، وما لم يتخلوا عن انتهاج أساليب العنف والهجوم وفتاوى القتل وتشجيع عمليات الإرهاب والتفجير الديني هنا وهناك..
ومن الطبيعي جداً بالنسبة للمراقب أن يجد أن انعدام الحوار ومناخات التبادل الفكري الحر، وحالة التعصب الشديد للهوية الدينية، والانغلاقات الفكرية والتبعية المطلقة لقيادات الفكر الديني الأصولي في مجتمعاتنا الإسلامية، قد خلقت في نفسية الإنسان المسلم والعربي الشخصية الاستنفارية الانفعالية الهجومية المشبعة بالاضطراب الديني وردود الفعل الحادة والقاسية والعنيفة، وحتى في الدائرة الأضيق في بنية مجتمعاتنا بين المسلمين أنفسهم وجدنا كيف أن انعدام ثقافة الحوار وثقافة التسامح والتشبع بثقافة التعصب الديني ساقتهم إلى ساحات القتال والعنف والتفجير وما يحدث حالياً في العراق من اقتتال طائفي وحرب المساجد ودور العبادة، يبرهن على هذه الكارثية التي وصلت إليها مجتمعاتنا..
ولعل من المفارقات التي تجعلنا نفهم جذور أزمتنا المستعصية التي تتمثل في الشخصية الإسلامية المسكونة بهواجس الانفعال والتثوير والعنف والنبرة الهجومية، ما رأينا في المظاهرات التي خرجت من ديار المسلمين والتي تعدت مجرد الاستنكار السلمي على الرسوم الدنماركية وأخذت طابع العنف والغوغائية والتكسير، بينما رأينا في المظاهرات التي خرج بها بعض الدانمركيين ورفعوا فيها عبارات تدعوا إلى السلام وعبارة عريضة تحمل كلمة: آسف..
في واقع الأمر علينا أن نعترف أن هناك ثقافتين تتصارعان، ثقافة الحوار وقيم الحضارة الإنسانية وثقافة التعصب والجهل والانفعال، ومن الخطأ أن نعتقد أن ما يحدث من صراع بين هذين الثقافتين أنه صراع حضارات لأن مَن ينتهج أسلوب العنف والتوتر والهيجان ونفي الآخر لا يعكس حضارة ما، فالحضارة لا تنتج ثقافة العنف والغوغائية وردود الفعل الاحتقانية والاستحكامات الدفاعية المترعة بتوجسات الحالة الهجومية المأزومة، وعلينا في المقابل أن نختار مع أية ثقافة يجب أن نقف..
محمود كرم ـ كاتب كويتي ـ tloo1@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط