حماس منتصرة. هكذا يصر أصحاب الشعارات الرنانة والفارغة من المضمون.. شعارات بعيدة عن الواقع.. بعيدة عن الفهم البدائي لما جرى في هذه الحرب، التي لم تنته بعد، ولكنها أحالت غزة خرابا وموتا، دما ودموعا ودمارا.. وسرعان ما سيعلن المختبؤون في دمشق وطهران، وفي ملاجئ غزة المريحة عن انتصارهم الألهي فوق ركام غزة ودماء أطفالها ودموع نسائها. هل حقا تحقق نصر فلسطيني في انتصار حماس المفترض؟ أم ان نصر حماس كان هزيمة للشعب الفلسطيني الذي انتخب حماس ؟
*****
من تاريخ الفكر غير العقلاني الذي جلب الكوارث للإنسانية
عرف عن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة من القرن التاسع عشر،رفضه لثوابت الايمان المسيحي ولكل الخلاق السائدة. بالطبع لن أدخل في جوهر الصراع بين نيتشه والكنيسة المسيحية. نيتشه توهم انه يرى ظاهرة مهمة وبالغة الخطورة على العقل البشري، تسود بعض الفئات الاجتماعية المتعصبة لفكرة او لشخص ما يدغدغ ميولهم، وقد أطلق نيتشه على هذه الظاهرة تعبير "أخلاق القطيع".. لأنها تطرح أطيقا غير طبيعية من وجهة نظره، وذهب نحو ايجاد أطيقا جديدة بعيدة عن الأطيقا الكنسية (الدينية)، سماها "الرغبة بالعظمة". وان الوحيد غير العادي الموجود خارج "أخلاق القطيع" هو النجم الأعلى...السوبرمان.. شخصا (أو مجموعة) مميزا، يظهر كل عدة عقود أو قرن.. وهو شخص (أو حزب أو منظمة أو عصابة مافيا مثلا) يحق له حسب عقله، ان يعبر بحرية عن قوته الطبيعية وتفوقه على القطيع. بالطبع نيتشه كان أشبة ببطل افلام الكاوبوي الطليانية (السباغتي) الذي ينتصر بكل الأحوال بقوته الخارقة ولو واجهه جيش من عشرات المسلحين...
لذا ليس بالصدفة ان نيتشة كان المفضل لدى زعيم الرايخ النازي.. الذي قاد شعبه وشعوب العالم لكارثة انسانية رهيبة من أجل ابراز عظمة الفوهرر.. او رغة الفوهرر بالعظمة.. بكونه السوبرمان لأرقى عنصر اثني ظهر فوق الأرض.وما زلنا نعاني من هذه البدع بأشكال مختلفة حتى اليوم.
وقد إتُهم نيتشة بكل شيء سيء في المانيا الجديدة، من العسكرية المجنونة وحتى الملفوف المكبوس بشكل لا يرضي ذوق الطعام عند الألمان.
بالطبع كلنا نعرف مصير الرايخ وزعيمه ومصير المانيا النازية وايطاليا الفاشية واليابان العسكرية، ومصير شعوب اوروبا وآسيا وشمال افريقيا وانعكاس فكرة السوبرمان على سياسة العالم حتى اليوم بنسختها الأمريكية، التي أبقت قصدا دول الشرق (كما يدعي البعض) ما دون الرقي ليبقى السوبرمان مسيطرا وعظيما، وأحضروا لنا المتفوق الدوري ونحن نيام وما زلنا، وجاء هذا المتفوق على شاكلة الحركة الصهيونية ليبقى العرب في اطار القطيع.. وهو تبرير عربي مخجل وعذر أقبح من ذنب، ولكنه ليس موضوعنا الآن !!
المستهجن ان بعضنا ما زال يؤمن بالنيتشية ويتصرف حسب مفاهيمها، دون ان يفهمها ودون أن يعرفها ودون ان يفهم ان فكر الوهم الاستعلائي قاد شعوبا عديدة الى الانحطاط، ويبقي شعوبا في فاع الرقي بأوهامها القاتلة انها تملك أرقى حضارة... وأن النيتشيين الجدد يحركهم ظنهم انهم يتمتعون بالتميزالبشري عن بقية أبناء شعبهم، وتحركهم مشاعر الاستعلاء على القطيع.
الموضوع ليس سياسيا فقط.. وليس اجتماعيا فقط. هذه الظاهرة تنتشر على الأخص بين أشباه المثقفين المتكاثرين في ظل أزمة الثقافة العربية والفكر العربي، وسيادة الفكر الغيبي، فكر الخرافات والشعوذة، فكر تغييب العقل وتغييب المنطق، فكر التهريج بلا أي حس انساني أو القدرة على فهم سليم للواقع، والوسائل النضالية الأكثر ملاءمة وتأثيرا في ظروف بالغة التعقيد والتركيب.
هناك حقا من يملك قدرات فكرية قد تتطور لو تخلص من الحلقات المغلقة التي تقيد فكره، ولكن مجرد دخول النيتشية الى فكرهم وسيطرتها على عقولهم وتصرفاتهم، بوعي او بدونه، تحيلهم الى نرجسيين مغرورين، مضرتهم أكثر من فائدتهم. وصمتهم وعزلهم مكسبا كبيرا لمجتمعاتهم.
من المؤسف أيضا ان الكثير من المثقفين في أيامنا نيتشيين (من نيتشه) في عقليتهم وتصرفاتهم.. ولكنهم ينسون أو يتناسون انهم عاشوا جل عمرهم كأفراد من القطيع ولم تتحرر ذهنيتهم من روح القطيع. وان النيتشية لا تظهر بقرار شخصي، وحسب توقيت، بعد ان طار أكثر من نصف العمر داخل القطيع. انما هي مسار لمن يفتقد القدرة على التفكير، ويدور في حلقة مفرغة من المقولات غير القابلة للنقاش.. ومن العقائد التي توهمه انه سوبرمان في كل نشاطه وعقائده وكتاباته.
يعتبر فريدريك نيتشة من الفلاسفة غير العقلانيين، دعا في وقته الى القضاء على القواعد الأخلاقية القائمة ونعتها باللاأخلاقية. وكان يرى بالفن والأخلاق مجرد ترياق من سموم "النيهيلية" (العدمية)، والتي تعني حسب نيتشه ان القيم الرفيعة تفقد قيمتها وتوازي حسب تعبيره الانحطاط ، ويتهم بذلك الأخلاق الدينية والنظريات الانسانوية على حد سواء، بما في ذلك النظريات الدمقراطية والاشتراكية التي بدأت تنتشر في فكر النهضة الأوروبي. وطور مذهب "ارادة السلطة" حيث يسيطر الأفراد "الأقوياء" القادرين على خلع الحواجز الأخلاقية، وهكذا توصل الى فكرة الإنسان الأعلى (السوبرمان) نافيا الأخلاق تماما، وهي ما أعجبت كل الحركات الفاشية وجعلت من نيتشه زعيمهم الروحي وفيلسوف منهجهم القمعي والديكتاتوري الاستبدادي والكارثي على شعوبهم في الحساب الأخير .
واجهت دائما نقاشات حول مواقفي.. ولا أرى بذلك الا أمرا طبيعيا. أما غير الطبيعي فأن يلجأ بعض الرافضين، الى كيل التهم جزافا وبلا عقل لمجرد شعورهم بالعجز عن مواجهتي بالفكر والمنطق. وشعورهم انهم سوبرمانيين في عقائدهم وآرائهم حتى لو كانت بالية ومستهلكة ومتهالكة... وسؤالي لأولئك المتثاقفين: "هل انتم أصحاب فكر ومواقف وثقافة وقدرة على فهم المكتوب، ام مجرد قطيع؟"
لا اعني اهانة أحد، بل اثارة الكرامة الشخصية لكل فرد يحترم عقله ويحافظ على ذاته وثقافته.
المثقف الذي يبيع نفسه بكلمة يفقد شرعيته الثقافية. والمثقف الذي يعوم على شبر ماء، هو اشبه بكرة الطاولة يتبادلها اللاعبون بالمضرب.. الموضوع ليس للمساجلة.. الموضوع يشكل الحجر الاساسي في شخصية كل مثقف. والمثقف الذي لا يطور رأيه تنتهي صلاحيته كإنسان أيضا..
هل بالصدفة التخاذل العربي امام ما يجري في غزة، وقبلها في لبنان وقبلها في الضفة الغربية يوم حوصر عرفات في المقاطعة؟
هل بالصدفة ان الطائرات الاسرائيلية تتصرف بحرية فوق أوطانكم، واحتلت عاصمة عربية، ودمرت الفرن الذري العراقي والمبني السورى (ربما فرن ذري؟) وتحلق فوق قصر الرئاسة السوري بحرية.. وماذا كان رد الدول العربية؟
الصمت. الصمت. الصمت.. وأقصى حد الاستنكار والتضامن، وهوعذر أقبح من ذنب!!
اما ان يطرح كاتب ما موقفا بمقال حول غزة كما في حالتي، ويعترض عليه شخص، أشك اذا قرأ أكثر من أسم الكاتب والعنوان.. فتدور رحى التشهير الغبية ضد الكاتب، واذا رد يا ويله.. فصيل من القطيع بلا فكر وبلا منطق، يقف له بالمرصاد. ويسمي البعض هذه الحالة ب " الحوار"!!
حقا هناك حوار.. وهو يطرح رأي مقابل رأي. وليس شتائم مقابل رأي، وليس خروجا عن النص نحو اتهامات تافهة تفاهة مروجها، لا علاقه لها بالطرح ولا بالحوار ولا برأي، انما بسوبرمانية صاحبها النيتشية.
شاعر يشبه المثقفين، اتهمني بأني معاد للأسلام لأني استعملت تعبير "السلفية الاسلامية". اني أستعمل أيضا تعبير الظلامية المسيحية، فهل صرت معاديا للمسيحية أيضا؟ وأستعمل تعبير التخلف العربي والانحطاط العربي، فهل صرت عدوا لنفسي وقوميتي؟
للأسف أكثرية المشاركين بالهجوم على أصحاب الآراء العقلانية يتحركون حسب عقلية السوبرمان النيتشية وهم أجهل من أن يعرفوا ما هي النيتشية. لم يقرأوا وقرروا موقفهم غيبا، واذا قرأوا لا يفهمون المقروء، وهذا يبرز الضحالة الفكرية التي تسود الكثير من نصوص المثقفين. ويا ليت أحدا طرح موقفا مغايرا لما طرحته أو يطرحه أصحاب الرأي.. فقط شتائم ضد كاتب اجتهد ليقول رأيا.
اقرأوا وانتقدوا مواقفي أو مواقف غيري.. وهذا أضعف الايمان.. ولكن رأي مقابل رأي، موقف مبرر مقابل موقف آخر، وليس صياغة كلام بعشوائية وتهريج لا تليق الا بروح القطيع.
حسنا. تقولون حماس منتصرة. هكذا تصرون. وهذا يبسط حماس التي سرعان ما ستعلن عن انتصارها الألهي فوق ركام غزة ودماء أطفالها. هل حقا تحقق نصر فلسطيني في انتصار حماس المفترض؟ أم ان نصر حماس كان هزيمة للشعب الفلسطيني الذي انتخب حماس؟
لا أطرح هذا الموقف ضد حماس. بل أعتبر حماس فصيلا وطنيا مقاوما. ولكن خياراتهم كانت خاطئة وانتحارية بحق شعبهم وبحق أنفسهم.
أوهام قاتلة دفعتهم للمواجهة. ليس وقتها الآن. الثمن الذي دفعه شعبي الفلسطيني غير محمول اطلاقا ويجب ان يجري الحساب مع حماس حول قرارها بالمواجهة.. وهذا نتركه للشعب الثاكل ان يقرره.. هل هو انتصار؟.. أم هو "نصر" شر من هزيمة؟ واذا كان خياره طريق حماس مرة أخرى، سنقف متفرجين بلا رأي ونعترف اننا كنا على ضلال!!
ترى هل تجرؤ حماس ان تتوجه لصناديق الاقتراع كطريق لانهاء اشكالية الانقلاب على السلطة الفلسطينية وانهاء الانشقاق الفلسطيني؟ ام ان الانتخابات هي مرة واحدة في العمر لإنتخاب الحركة السوبرمان التي لا تتغير الا بأمره تعالى...؟!
لا أدعوكم الى تأييد مواقفي.. بل نقدكم يسرني. ولكن باستقامة، اذا كنتم تحترمون صفة الثقافة التي تمثلونها.. او تدعونها!!
هاتوا الحقائق على اتهاماتكم لنبيل عودة وغيره من أصحاب الرأي الذين يهاجمون بغير وجه حق لأنهم كتبوا من ضمائرهم وليس من جيوبهم..
وأعترف انه وقت عصي علينا جميعا.. أحدهم وجه رسالة لكاتب من غزة، أطلق صرخة ألم انسانية صادقة، يعيش تحت خطر الموت 24 ساعة يوميا، يرى أطفاله يتمزقزن بين يديه، لا يجد لقمة خبز جافة ليطعمهم.. وينصحه ان تتركز جهوده الأن على تحقيق النصر، "وبعدها نتحاسب". أضحكني.. وتمنيت لو يكون ذلك الشاطر تحت القصف... لساعة واحدة فقط!!
نبيل عودة – كاتب، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط