بسام درويش
/
Feb 22, 2003
لم يرتكبوا جريمة قتل ولا سرقة.
كل ما هنالك أنهم فتحوا كتابَ التاريخ ليعيدوا قراءة صفحةٍ من صفحاته ويضعوا النقاط على ما فيها من حروف. ولأنهم فعلوا ذلك، كانت عقوبتهم إغلاق صحيفتهم والحكم عليهم بالسجن والغرامة المادية.
تلك كانت جريمة مهند أحمد مبيضين الكاتب في صحيفة الهلال الأردنية الأسبوعية، ورومان زيدان حداد مدير تحرير الصحيفة، وناصر موسى قمش رئيس التحرير. أما ما يدعو للسخرية حقاً، فهو أن محاكمة هؤلاء "المتهمين" قد تمت في محكمة عسكرية تابعة لأمن الدولة!
الاتهامات التي وجهتها محكمة أمن الدولة العسكرية للصحفيين الثلاثة، حسب ما ذكرته صحيفة الدستور، هي التالية:
نشرُ خبرٍ في صحيفةٍ من شأنه المس بهيبة الدولة وسمعتها وكرامتها، والإساءة إلى كرامة الأفراد، وزعزعة أوضاع المجتمع الأساسية والترويج إلى الانحراف ونشر إشاعات كاذبة سندا لأحكام المادة 150 من قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960 وتعديلاته وإطالة اللسان على أرباب الشرائع من الأنبياء سندا لأحكام المادة 273 من قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960 وتعديلاته.
بدأت الحكاية حين نشرت الصحيفة في عددها رقم 111 بتاريخ 14 يناير 2003 مقالاً بعنوان، "عائشة في البيت النبوي عصمها الله من وقع الذباب على جسدها". كتب المقال المحرر مهند أحمد مبيضين تحت اسم مستعار هو، بلقاسم أحمد.
تحدث الكاتب في مقالته عن عائشة زوجة محمد فقال: "لقد دخلت عائشة ابنة السنوات الثمان أو التسع فراشَ سيد الخلق الذي له قوة أربعين رجلا في الجماع مبكرة جدا، لكن سرعان ما راحت نساء أخريات يزاحمنها ذاك الفراش وراح حقدها الجنسي يجد قنوات مختلفة ينفس عن ذاته عبرها، وهكذا نجدها تصرح باستمرار بان أحب النساء إليها سودة لأنها أعطتها ليلتها. ونجد أيضا أنها أكثر نساء النبي عرضة للشائعات الجنسية الطابع كقصتها مع صفوان المعطل السلمي أو طلحة بن عبيد الله. هذا ما وصلنا على الأقل. بل إن عائشة هي الوحيدة بين كل نساء النبي التي لم تتورع قط عن اتهام مارية القبطية جارية الرسول بعلاقة جنسية غير مشروعة كما رأينا من قبل هذا الانشغال الهاجسي بالجنس الذي لامس أحيانا تخوم الشبق تعكسه تلك الأحاديث الكثيرة المتناثرة في كتب التراث الإسلامي المروية عنها والتي لا هم لها سوى الجنس."
وتقول جريدة الدستور التي ننقل عنها الخبر: "وحيث شكلت تلك العبارات مساسا بهيبة الدولة وسمعتها وإساءة لكرامة الأفراد وزعزعة للأوضاع الاجتماعية الأساسية وإطالة اللسان على أرباب الشرائع من الأنبياء، فقد جرى تحريك الدعوى بحق الأظناء وجرت ملاحقتهم قانونا." (!)
تقول الدستور أيضاً أنه، "قد تحقق الركن المادي لهذه الجريمة بما تم نشره في جريدة الهلال الأسبوعية العدد 111 وبما أورده كاتب المقال الظنين الأول من أقاويل وافتراءات طالت السيدة عائشة رضي الله عنها وتعدتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والى جبريل أمين الوحي والى نساء رسول الله وأصحابه رضوان الله عليهم ثم جاء دور الظنين الثاني في تأكيد هذه الافتراءات والأقاويل فقد أجاز هذا المقال بعد أن قام بدراسته وتنقيحه في حين أن الظنين الثالث لم يقم بواجبه المفروض عليه قانونا بمنع إجازة مثل هذا المقال"!
***********
ونظراً لعدم توفر المقال ـ موضوع حديثنا لهذا اليوم ـ فإننا نتابع نقل ما جاء في جريدة الدستور الأردنية، وهي من صحف التيار الإسلامي. تقول الجريدة:
((وتجد المحكمة أن المقال بمجمله يسيء إلى كرامة الأفراد ويزعزع أوضاع المجتمع الأساسية ويناقض ويستهدف حق الجماعة ضمن الدولة في أن لا يمس إحساسهم بانتمائهم لدينهم وولائهم العميق له وإيمانهم المطلق بخصائصه وبالنتيجة لأوضاع المجتمع الأساسية ذلك أن أشد وسائل المساس بالمجتمع المساس بقيمه الدينية فالمجتمع الأردني ـ مسلميه وغير مسلميه ـ يأنف أن ينسب للسيدة عائشة أو لرسول الله ما تجاسر المقال عليه. ولقد أراد المقال ومن هم وراءه أن يقدموا تصورا غير حقيقي يخالف ويناقض ما اتفقت عليه الأمة الإسلامية والمجتمع الأردني المسلم بما يشكل مساسا بالأوضاع الأساسية للمجتمع وبالأسس التي يقوم عليها المجتمع الأردني ومن أهم هذه الأسس المتفق عليها:
1 ـ اتفاق الأمة، ومنها المجتمع الأردني، على أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم اللواتي تزوجهن هن أمهات المؤمنين، قال تعالى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم. سورة الأحزاب آية 6
2 ـ إن عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها واحدة من زوجات النبي وهي من أمهات المؤمنين.
3 ـ إن من الأمور البديهية التي يستوي في معرفتها كل المسلمين على تفاوت درجات علمهم أن من شأن الإساءة إلى السيدة عائشة الإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عرضه وزوجه بل وأحب أزواجه إليه وأبوها رضي الله عنه احب الرجال إليه (اللهم هذه قسمتي فيما املك فلا تلمني فيما تملك ولا املك) وبالتالي فان ما يوجه إليها ذم أو إساءة من شأنه الإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 ـ إن القرآن الكريم هو كلام الله الذي اتفقت الأمة على عدم جواز المساس به أو المساس بالوحي جبريل: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وانه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. (سورة فصلت 41 ـ 42 ) فالأمين جبريل عليه السلام هو الذي تولى إنزال القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم وكان مؤتمنا على ذلك لهذا فان كل مساس بالأمين جبريل فيه تشكيك في القرآن الكريم الأمر الذي يعني المساس بثوابت العقيدة المتمثلة بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وإذا كانت تلك أهم الأسس التي يقوم عليها مجتمعنا فان كل دعوة للمساس بها إنما تمس أوضاع المجتمع الأساسية وكرامة الأفراد وهيبة الدولة ولقد تحقق في المقال كل مساس بهذه الأسس والقيم العليا.
وتجد المحكمة ومن خلال دراستها للمقال مهتدية بكتب السيرة والحديث وأوضاع المجتمع الأساسية، أن ما ورد في المقال الموصوف والوارد تحت مادة حافة النص قد جاء لتقديم تصور جديد وهو ما أريد تسميته ـ قراءة جديدة لميثولوجيا الجنس في الإسلام ـ تهدف لإظهار السيدة عائشة بصورة لا تليق بأي امرأة عفيفة فكيف تليق بأم المؤمنين وهي من أهل بيت رسول الله وزوجه وهي أعظم من أم النسب وبرها أوجب، لقد اظهر المقال وبوضوح فكرة استوحيت فأراد إظهار السيدة عائشة بصورة المرأة التي لا شغل لها إلا الجنس فهو هاجسها الوحيد الذي يصل إلى تخوم الشبق ـ كما يراها الكاتب ـ ويقول ابن منظور في لسان العرب أن الشبق هو طلب النكاح بشدة ـ ولتأكيد هذه الصورة المشوهة فقد عمد المقال لإعادة سرد الأحاديث الصحيح منها والضعيف والمكذوب وإعادة سرد بعض الأحداث التاريخية التي اتضح كذبها أما بتدخل الوحي أو بظهور الحق وافتضاح أمرها ووظف كل كلامه وهواجسه ليخلق صورة مشوهة للسيدة عائشة ويظهر حياتها وسيرتها بأنها محكومة بدافع واحد وتصور واحد هو الجنس ولا شيء غير الجنس وهو بالنتيجة ـ على ضوء ما ورد في المقال ـ جنس غير منضبط بدين أو قيم أو مبادئ. فالمقال في بداية الأمر يظهر انشغالها الهاجسي بالعذرية ويظهر أن ذلك كله مرده تلك الرغبة الجنسية، وهو بعد كل حديث أو حادثة يصر على التعليق بقول مشبوه أو سؤال يوحي بجواب مشبوه وذلك مثل قوله: "وهل كانت علاقتها مع أم سلمة حسنة لان أم سلمة منحتها ليلتها التي ينام الرسول فيها معها؟.. ثم ما العلاقة بين جبريل والعذرية؟ فقد كان ذلك شغل عائشة الشاغل: الشيء الأبرز وربما الأوحد الذي استطاعت أن تتباهى به على غيرها من نساء النبي.. من هذا الانشغال الهاجسي بالعذرية.. لكننا لم نفهم سر العلاقة بين جبريل والعذرية؟.. كانت تشبه جسدها بحقل أو مزرعة أو ما شابه.. ولكن ما الذي تعنيه ببعير رسول الله؟.. لقد خص التراث الميثولوجي الإسلامي عائشة بنصيب وافر من أساطيره والكثير من تلك الأساطير تدور حول محور مركزي هو الجنس.. جنس أم شبق.. إنها اكثر نساء النبي عرضة للشائعات الجنسية الطابع، كقصتها مع صفوان بن المعطل السلمي أو طلحة بن عبيد الله هذا ما وصلنا على الأقل.. هذا الانشغال الهاجسي بالجنس الذي يلامس أحيانا تخوم الشبق تعكسه تلك الأحاديث الكثيرة المتناثرة في كتب التراث الإسلامي المروية عنها والتي لا هم لها سوى الجنس.."
ولقد مس المقال أحد أهم قواعد المجتمع الأساسية عندما تناول رسول الله بأوصاف لا تليق به صلى الله عليه وسلم، ليضعه أيضا في إطار جنسي مبتدع غريب فقد ورد فيه »ولم يكن باستطاعته أن يتزوج عليها أو يطلقها ـ ويقصد السيدة خديجة ـ لأنها كانت المسؤولة عنه وعن بيته ماديا تلك العجوز ـ كما وصفتها عائشة ـ العفيفة كما هو معروف كانت أيضا صاحبة تجارب سابقة على ما يبدو.. ويقول: "وإذا ما رفعنا العنصر الميثولوجي من الرواية السابقة ـ أي الكفيت ـ فتفسيرها السهل يقول كان الجماع بالنسبة للنبي عنصرا ثانويا للغاية في إحدى المراحل ثم في مرحلة أخرى صار عنصرا في غاية الأهمية والمحورية وربما تكون المرحلة الأولى هي الحقبة المكية حيث كان زوجها لعجوز ترملت مرتين على الأقل حقبة صراع وفقر وعذاب والمرحلة الثانية هي المدنية حين صار رجل دين ودولة وغنيا قادرا لا يكاد يمر عام دون ان يكلله بزوجة جديدة شابة ساحرة الجمال.
لقد أوضح المقال غرضه فهو يريد أن يرفع ـ يستبعد ـ ما أسمى بالعنصر الميثولوجي من رواية رسول الله ـ ويقصد الكفيت ـ لتبقى الصورة صورة رجل يبحث عن الجنس مدفوع بشهواته ولا شيء غير ذلك، فيصفه المقال بأنه مجرد رجل دين عندما اصبح غنيا قادرا اصبح لا يكاد يمر عام دون أن يكلله بزوجة جديدة شابة ساحرة الجمال. ومن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة رضي الله عنها وعمره 25 سنة، وتزوج عائشة بعد الهجرة بسنتين أي كان عمره يقارب الـ 55 سنة، وتوفي بعد ذلك بسبع سنين تقريبا، فأين هي النواحي الجنسية في مثل هذا الزواج المتأخر وقد كان زواجه في كل مرة لحكمة أرادها الله، فمن المعلوم ان زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من عائشة كان بأمر من الله وذلك لحكمة فقد شاء الله ان تنشأ عائشة في بيت النبوة وتشاهد الرسول وتسمع حديثه وترافقه في جهاده وهي في كل أحوالها تحفظ ما تسمع وتعي ما تشاهد وتفهم ما ترى، وقد عاشت أم المؤمنين بعد رسول الله زمنا طويلا كانت فيه مرجعا للمسلمين في كثير من شؤون دينهم حيث قال الإمام الزهري: "لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة افضل"، وقد قال رسول الله، "خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء" ولم يقتصر علمها على الحديث الشريف بل حفظت الأشعار وألمت بالطب وكانت تحدث الناس وتصحح للصحابة وتفتيهم بل وتستدرك على فتاواهم واقوالهم، ولم يكن بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان أروى منها، ومن أبي هريرة وكانت من انفذ الناس رأيا في أصول الدين ودقائق الكتاب المبين من هنا تتضح الحكمة من زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة أم المؤمنين.
كما أن في المقال إساءة متعمدة لامين الوحي جبريل عليه السلام ومن ذلك القول: "ثم ما العلاقة بين جبريل والعذرية.. لكننا لا نفهم سر العلاقة بين جبريل والعذرية.. بعد الزواج الإلهي كان لعائشة حوادث كثيرة مع جبريل.. فمن بين كل الصحابة والتابعين لم نصادف أحدا تمكن من رؤية جبريل سوى عائشة".
لقد مس المقال كل المساس بهيبة الدولة وسمعتها وكرامتها فالدولة الأردنية دولة إسلامية تعتصم بالأئمة من آل البيت وهي دولة هاشمية تنتسب إلى هاشم بن عبد مناف جد الرسول الذي تتحدر منه سلالة الهاشميين التي ينسب إلى العترة من أهل البيت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "أيها الناس إنني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي.." وإن من شأن المساس بآل البيت المساس بهيبة الدولة وإنقاص صورتها بين باقي الدول لا سيما وان المادة 2 من دستور المملكة نصت على أن، "الإسلام دين الدولة". ومما لا شك فيه ان الإساءة تتحقق بمجرد ثبوت الفعل المادي لان هذه الجريمة من جرائم الخطر التي يكفي لقيامها التعرض لهيبة الدولة ومكانتها وأوضاع المجتمع الأساسية ويكفي فيها أن يكون الضرر محتملا أو متوقعا لا واقعا بالفعل.
لقد ادعى الأظناء في إفاداتهم الدفاعية ومرافعاتهم أن من شأن هذا المقال تقديم السيرة النبوية وإظهار كيفية تعامل الرسول مع زوجاته وان إظهار مثل هذه الأمور يساعد في حل الكثير من المشاكل التي تعترض العلاقات الزوجية.
ولا ترى المحكمة انه من الممكن للمقال أن يحقق هذا الهدف أو أي هدف نبيل آخر، لقد ظهر سوء القصد من كتابة المقال ومن إجازته والسماح في نشره من عدة وجوه على نحو ما تقدم. إن المقال قد اعتمد بعض الأحاديث التي وردت في بعض المراجع كحديث "زوجني ربي.." وحديث، "كنت اقل الناس في الجماع حتى انزل.." إلا أنه وبعد كل حديث أو قول موثوق أو غريب وضع المقال أسئلة تصب في تحقيق غرض الإساءة لصورة السيدة عائشة. وكيف يمكن لمثل هذه الصورة وهذا التركيز على الغيرة المفرطة وألفاظ من مثل، "الحقد الجنسي، والتباهي والتفاخر بين عائشة وزينب، الجنس أم الشبق، والشائعات الجنسية وعدم تورع عائشة عن اتهام ماريه القبطية بعلاقة جنسية غير مشروعة، والقول أن عائشة رضي الله عنها لا هم لها سوى الجنس"، كيف يمكن لكل ذلك أن يحقق غرضا نبيلا أو صورة مشرفة لامرأة. وهل يمكن لهذه القراءة الجديدة لميثولوجيا الجنس في الإسلام أن تحمي الأسر، إن القراءة المتعمقة لهذا المقال تظهر أنه طريقة للترويج للانحراف بالأخلاق عن طريق اتهام أم المؤمنين بما يفيد انه يحق لغيرها أن تقتدي بالأوصاف والصورة التي أرادها المقال بل وأكثر من ذلك. إن سوء القصد واضح في المقال فإذا كان المقال يقدم حلولا، وهو أمر بعيد عن هذا المقال، فلماذا يجتزئ المقال من الأحاديث ما يوافق غرضه ويطرح ما سواه. فقد ذكر غيرة عائشة من خديجة ووصفها إياها بالعجوز فاجتزأ ما يخدم الغرض وتم التغافل عما يمكن أن يخدم الأسر والنساء تقول عائشة ـ كما روى الطبراني والدولاني، "فذكَرَها ذات يوم فاحتملتني الغيرة فقلت لقد عوضك الله خيرا من كبيرة السن قالت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب غضبا شديدا وسقط في خلدي وقلت اللهم ان ذهب غيض رسولك لم اعد اذكرها بسوء ما بقيت، قالت فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقيت قال: كيف قلت لقد آمنت بي إذ كفر الناس وآوتني إذ رفضني الناس وصدقتني إذ كذبني الناس ورزقت مني الولد إذ حرمتنه، قالت فغدا بها علي وراح شهرا"، أخرجه الطبراني في الكبير.
ثم لماذا الحديث عن حادثة الإفك ووضعها في إطار الشائعات الجنسية وتوظيفها للعرض الوضيع للمقال إذا كان رب العزة قد أنهى الخوض في حديث الإفك، قال تعالى: "إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم، إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب اليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وانتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وان الله رؤوف رحيم، صدق الله العظيم.
أما الأسئلة والجمل والعبارات ـ المشار إليها سابقا ـ التي دست في المقال فهي جاءت لتخدم غرض المقال الدنيء ولم تجد المحكمة في أي كتاب للحديث أو السيرة ومنها الكتب التي قدم الدفاع صورا عن صفحاتها للمحكمة لم تجد مثل هذه النظرة وهذه الجمل والتساؤلات التي ابتدعتها الأهواء رغبة في المساس بكرامة الأفراد ومشاعرهم وترويجها للانحراف وإهانة لمكانة الدولة الأردنية الهاشمية والتطاول على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والأمين جبريل عليه السلام.))
*************
ليس أمراً غريباً أن نسمع بأن العالم الإسلامي يرى في الفكر تهديداً لأمن الدولة ومساً بهيبتها وسمعتها وكرامتها، وزعزعةً لأوضاع المجتمع الأساسية. ولكننا نظلم هذا العالم إذا قلنا بأنه الوحيد بين المجتمعات الإنسانية في نظرته هذه، ذلك أن أمماً كثيرة في عالمنا، لا زالت ترزح تحت عبء أنظمة تعسفية منغلقة على نفسها، دينية كانت أو سياسية، والإسلام ليس إلا واحداً من هذه الأنظمة.
لذلك، فإنه ليس من الصعب علينا أن نفهم خوف هذه الأنظمة من أصحاب الكلمة لما لأقلامهم من قدرة عظيمة على زعزعة أي وضع فاسد. ومن هذا المنطلق يمكن أن نقول أيضاً، بأننا لن نعجب إذ غبط الصحفيون الثلاثة أنفسهم على هذه الاتهامات، لأنهم لم يكتبوا ما كتبوا إلا لغاية تصحيح أوضاع معينة، عارفين مسبقاً، بأن تصحيح هذه الأوضاع لا بدّ سيؤدي إلى زعزعة أسسها. من ناحية أخرى، ليس هناك أدنى شك بأن الصحفيين الثلاثة لم يعيروا أي اهتمام لهيبة الدولة أو سمعتها أو "كرامتها"، لأن هذه الاعتبارات هي آخر ما يجول في فكر الكاتب الساعي وراء الحقيقة.
لكن، أن يُتّهم أصحاب الكلمة هؤلاء، بالإساءة إلى كرامة الأفراد، فهو أمرٌ يصعب هضمه ولا يعكس إلا ما يشتهر به العرب من ميل إلى رمي الكلام على عواهنه، وأيضاً نزوعهم إلى التهويش والمبالغة والتضليل في أحكامهم وخطبهم وأحاديثهم.
إنّ آخر من يحق له التحدّث عن كرامة الأفراد هو هذه الأنظمة نفسها. فكرامة الأفراد تتمثل في حريتهم، ومن أهم عناصر الحرية حقّ التعبير عن الرأي. هؤلاء الصحفيين ليسوا فقط مجرد ثلاثة من أفراد المجتمع الذي يدّعي النظام بأنه حامي حمى كرامتهم، إنما هم في الحقيقة، صوتٌ معبرٌ عن شريحة كبيرة من المجتمع. تلك الشريحة التي لم يتوفّر لأفرادها ما توفر لهم من سعة الاطّلاع أو القدرةِ على الكتابة أو الجرأة على تحدّي الخطأ. لذلك، فإن قرار المحكمة بكم أفواه الصحفيين هو في الحقيقة إساءة إلى كرامة الأفراد، وبالتالي، فإنّ الجهة التي يجب أن تُقاد إلى المحكمة هي هذا النظام نفسه.
**********
إنه لواضحٌ بأن معظم ما جاء في حديث "الدستور" هو في غنىً عن أي تعليق وما فيه من السخف يكفي لعدم إعارته أية أهمية. مع ذلك، فإن عبارةً صغيرة وردت في الحديث لا يسعنا إلا أن نتوقف عندها؛ تقول العبارة: "فالمجتمع الأردني ـ مسلميه وغير مسلميه ـ يأنف أن ينسب للسيدة عائشة أو لرسول الله ما تجاسر المقال عليه.."
إذا افترضنا حقاً أن كل المسلمين في المجتمع الأردني يأنفون أن يُنسب لعائشة أو لمحمد ما تجاسر المقال عليه، رغم أن هذا الافتراض تدحضه جرأة كاتب المقال وهو مسلم، بل ولا شكّ في أنه واحد من كثيرين يشاركونه الرأي، فهل حقاً تعتقد الصحيفة أن غير المسلمين في المجتمع الأردني يأنفون أن يُنسبَ لعائشة أو لمحمد ما تجاسر هذا المقال عليه؟.. حبذا لو أتت الصحيفة على ذكر اسم واحد من غير المسلمين، لا يرى في زواج محمد ابن الخامسة والخمسين من الطفلة عائشة ذات التسع سنوات، إلا أمراً شنيعاً تشمئز منه النفوس!
ختاماً.. تحية إعجاب نوجهها لإدارة جريدة الهلال وللكاتب مهند أحمد مبيضين!
***************
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط