هذه محاولة بسيطة.. وغير مكتملة لتلمس (بعض) من تضاريس عقل مسلم.
قد يكون ذكراً أو أنثى.. كبيراً أو صغيراً.. متشدداً أو معتدلاً.. أستاذاً أو طالباً.. الخ.
لا أدعي امتلاكي للحقيقة الأبدية، فهي مجرد قراءة انطباعية عادية لشخص عادي، قد أكون على حق في بعضها، وقد أكون على باطل في بعضها.
ـ قراءة انتقائية ومبتسرة للتراث والتاريخ الإسلامي بالشكل الذي يخدم توجهات أيدلوجية معينة ويتماهى مع صور مؤسطرة لشخصيات وظواهر تاريخية غابرة. إن من يكتبون أو يقرأون التاريخ يغلب عليهم تضخيم أحداث تاريخية (كقتال الملائكة مع المسلمين ضد كفار قريش في غزوة بدر)، وإعطاء شخصيات معينة أبعاداً أسطورية (كزهد عمر بن الخطاب واقتصاده في الوقت الذي دفع فيه أربعين ألف دينار مهر لأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب). بينما يشيحون بوجوههم عن العديد من الممارسات والحقائق التي تشوه الصورة الرومانسية وتعكر طوباوية تلك المرحلة المنصرمة خاصة في زمن محمد والخلفاء الراشدين الأربعة. ولإعطاء مجرد مثال بسيط هنا، فإن الكل يتحدث بإعجاب بالغ عن عبقرية خالد بن الوليد في ميادين القتال، وتلك بالطبع حقيقة لا يماري فيها أحد، ولكن هناك جانباً معتماً من تلك الشخصية لا أحد يريد أن يكشف النقاب عنها وهي تصرفاته البربرية مع "ما يسمى بالمرتدين" حيث استعمل النار والرمي من شواهق الجبال والتنكيس في الصحاري ضد من أمسك بهم. والأنكى من ذلك قتله لمالك بن نويره حتى يتسنى له الحصول على زوجة القتيل أم تميم المشهورة بجمالها البارع، الأمر الذي أثار حنق عمر بن الخطاب عليه.
ـ عقل تستبطنه عقدة المؤامرة والشعور المرضي بأن الغرب إجمالاً والولايات المتحدة وبريطانيا واسرائيل تحديداً يتآمرون من أجل سرقة مقدرات بلاد المسلمين ونفطه، وتدمير البنى الأخلاقية، وإحلال النموذج الغربي المنفلت من القيم والدين، وإشاعة الفوضى والبلبلة، واشغال الدول والشعوب بالحروب والفتن حتى لا تقوم للمسلمين قائمة. فحسب هؤلاء فإن سقوط يرجي نيويورك في " غزوة منهاتن" هي تدبير أمريكي ـ إسرائيلي لتبرير ضرب أفغانستان وإيجاد قواعد دائمة بجوار منابع نفط وسط آسيا بالرغم من تأكيدات بن لادن وأعضاء القاعدة على تنفيذ هذا الإنجاز التاريخي للانتقام والتشفي من أمريكا الصليبية. والغريب أن هناك نوعاً آخرَ من ضحايا عقدة المؤامرة والأفلام المكسيكية يلمحون إلى أن بن لادن عميل أمريكي! إن إصرار العقل المسلم بنزعته الدونكيشوتيه على الزج بالغرب وتحميله تبعات هزائمنا السياسية والعسكرية والحضارية هو إسقاط لكافة أزماته وإخفاقاته على الغير، بجانب منحه شعوراً كاذباً بمدى أهميته ومنزلته لدرجة أن القوى الصهيونية والمسيحية لا تكف عن الكيد له وامتصاص ثرواته وتفتيت قواه الذاتية. أضف إلى ذلك أن الهوس بالفكر بالتآمري هو انعكاس لسلوك عريق عرفه العرب والمسلمون وتشهد بذلك صراعات ومؤامرات القصور والأجنحة الحاكمة والاغتيالات السرية من أجل الفوز بالخلافة أو ولاية العهد، وهذا مدون في كتب التاريخ كافة ولا أحد ينسبها إلى دسائس بيزنطة أو روما.
ـ إيمان غير قابل للنقاش بالاصطفاء وامتلاك الحقيقة المطلقة، وهي خاصية تتقاطع عندها الأديان السماوية ولكنها أكثر بروزا وتجذرا في العقل الإسلامي. فالمسلم يتباهى بأنه يبز غير المسلم باعتناقه الدين الذي لن يقبل الله له بديلاً "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه" (آل عمران 85) وبأنه يتبع محمد العربي وهو خاتم النبيين "أنا محمد النبي ولا نبي بعدي، أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش". (جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي) وتأتي آيات قرآنية تعزز شعور المسلم بالتفوق على غيره كما في القرآن "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله". (آل عمران 110) وإلى جانب نقائه واصطفائه الديني فهو مالك الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها وأن الإسلام ينسخ ما قبله من الديانات ويهمين عليها إلى أن يرث الله الأرض وما عليها: "وأنزلنا إليك الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه" (المائدة 48) وقول محمد "والذي نفس محمد بيده لا يسمع أحد هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار". هذه النرجسية الدينية لدى المسلمين وغيرهم شكلت تاريخياً إطارا للحروب الدينية وبالرغم من خفوت أثرها لدى الجماعات غير المسلمة التي اختارت طواعية الاندماج في مجتمع الحداثة والعلمانية إلا أنها مازالت (= النرجسية الدينية) مستيقظة داخل كل مسلم بشكل أو بأخر، ولا أعتقد أننا نجافي المنطق عندما نؤكد على أن شعور الجماعات الإسلاموية بالاصطفاء وامتلاك الحقيقة المطلقة هو أحد المداخل لتفكيك ظاهرة العنف لديهم.
ـ عقل تعشعش فيه الخرافات والأوهام، فالماضي والمستقبل يسيطر عليهما الخرافة والدجل. فما قبل الإسلام هو تاريخ مسحور اختزلته الإسرائيليات بجملة من المعجزات الميتافيزيقية كانفلاق البحر والطوفان ومملكة سليمان الخرافية دون أن يعي هذا العقل أو يسمع بوجود دراسات تاريخية معاصرة كشفت عن تلك الأكاذيب التوراتية التي انتحلت أساطير سومر وبابل قبل أن تتسرب للقرآن. أما ما بعد الإسلام هو تاريخ ذهبي ومشرف يشعر المسلم دوماً بالحنين إليه والصغر أمامه بالرغم من أن الماضي ليس وردي اللون كما يتوهم. فالخلافة مثلاً لم تكن بالنموذج المثالي بل كانت نظاماً قمعياً وتسلطياً، فضلاً عن أنها لم تتحقق على أرض الواقع بسبب الحركات الانفصالية الدائمة والمشتعلة هنا وهناك. ومما يؤسف له أن أشباح الماضي والموتى والتي تحكم حاضرنا اليوم تتدخل أيضاً في كتابة سيناريوهات المستقبل، بل وتزداد تسلطاً مع تردي الأحوال السياسية والإجتماعية والثقافية. فعقل المسلم مسكون بهاجس علامات يوم القيامة الصغرى والكبرى، وبظهور المهدي المنتظر، ومجيء الأعور الدجال، والحرب المنتظرة مع اليهود والمسيحيين. ويذكر أنه قبل حرب أمريكا على النظام الصدامي البائد ازدهرت بكثرة الأحاديث عن احتمال أن يكون صدام هو من نسل خالد بن يزيد من معاوية (= السفياني)، كما راجت وقتها الكتب الصفراء التي تروج لمجيء المهدي وقيام حرب كونية شاملة.
ـ عقل يخلط الدين بالسياسة، والسياسة بالدين، عقل لا يعرف أن يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله، بل أن هذا الخلط بدا متعمداً لتبرير القمع والاستبداد على مدار ما يزيد عن أربعة عشر قرناً. وتتجلى ميوعة الحدود ما بين المقدس والدنيوي، وتماهي شخصية الحاكم الأرضي في الذات الإلهية من خلال سلوكيات الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان، ورد فعله على احتجاجات الناس على الهبات والعطايا المالية التي كانت تنسال بسخاء على بني أميه وبعض الصحابة المقربين والمستفيدين، وتحيزه في تعيين ولاة الأمصار من بني أميه. فعندما تعالت أصوات الساخطين وطالبته بالتنحي عن منصبه احتج بأنه لن يخلع قميصاً ألبسه الله له. وفي مرحلة لاحقة تبنى الأمويون مبدأ الجبرية وعملوا على تعزيزه لضرب مفهوم القدرية الذي تبنته المعارضة السياسية في معرض نزاعها مع الأمويين. واستمر الخلفاء وأمراء الولايات من بعد في توظيف الدين وافتعال جملة من الأحاديث المنسوبة للنبي محمد لشرعنة وجودهم وتصرفاتهم. ومن المحزن أن الثورات الإجتماعية أو السياسية المناهضة لطغيان السلطة اضطرت إلى أن تتلبس بالدين لتمرير برامجها واستقطاب تعاطف العامة كما فعل محمد بن علي (صاحب الزنج)، والذي يبدو أنه قد أضطر إلى إدعاء الانتماء إلى آل البيت لكسب تعاطف الناس مع ثورة الزنج والتي أنهكت السلطة العباسية في بغداد ما يقارب خمسة عشر عام.
ـ عقل يفتقد القدرة على الرؤية البانورماية الشمولية للمشهد، فيغلب الجزء على الكل، والفرع على الأصل. وهو عقل انطباعي ساذج يصدر أحكامه وتصنيفاته بناء على معايير مسبقة ومضحكة. وللتمثيل على ذلك، فقد شكك الكثيرون في إيمان وعلم الداعية المصري عمرو خالد كونه حليق، وقبل سنوات استغرب أحد المتصلين ببرنامج أكثر من رأي على قناة الجزيرة أن تكون الأديبة الكويتية عالية شعيب أستاذة للتربية الإسلامية بجامعة الكويت وهي التي لا ترتدي الحجاب!. وهو عقل مانواي يجهل ألوان قوس قزح، ولا يرى لشدة تعصبه إلا لونين الأبيض والأسود.. والخير والشر.. والجنة والنار.. ودار الإسلام ودار الكفر.. والحلال والحرام. إن صرامة العقل المسلم في التعاطي مع الظواهر المحيطة به، وإصراره على التبويب الثنائي للحكومات والأفكار والأشخاص والديانات إما في خانة الحق أو خانة الباطل أصبح عائقاً على قراءة كل ما يجري من حوله من مشاهدات وأحداث، مما أنعكس بدوره على صياغة علاقاته مع الآخرين واستمراره في تكرار أخطائه. ولعل هلع الحكومات العربية تجاه المشروع الأمريكي لتطوير الشرق الأوسط وقيام الجماعات الإرهابية الإسلاموية باختطاف الغربيين المدنيين ونحرهم وفق الطريقة الإسلامية يحمل في طياته رفضاً وتشككاً بالآخر يعبر عنه إما برفض أفكاره أو بذبحه.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط