تتعدد الفضاءات في حياة الإنسان، وتتخذ أشكالاً عدة وتنويعات مختلفة، ولا يمكن للإنسان أن يعيش من دون أن يحلق في فضاء ما، صانعاً له ودافعاً به نحو التكامل ومتماهياً معه في مستويات تعايشية مرتفعة إلى درجة يستحيل الفصل بينهما، ومن غير هذا النوع من الفضاءات قد يجد الإنسان نفسه يحلق في الفراغ الأصم ويتلاشى في العدم ويعبث مع الوهم ويحصد عصف الرياح، ويبقى الإنسان يبحث عن فضاء ما يسكبُ فيه روحه ويملأه بالابداع والتألق ويستزرعه بمساحات خلاقة تدفعه لخلق صيغٍ من التواصل الجمالي بين ذاته وبين العالم من حوله، بكل ما يحتويه هذا العالم من شخوص وأزمنة وأمكنة ومساحات تأملية ورغبات متحفزة قادرة على التحول التلقائي إلى أفعال تفاعلية شاخصة في الحياة، وناطقة بالممكنات، وواعية للتحولات والمتغيرات، ومتساوقة مع إرث الإنسانية الأزلي في صناعة الحياة الكريمة المبدعة لتلاوين الروح الإنسانية..
وكما أنه لا فضاء مفعم بالرغبة والفعل والإرداة من غير إنسان، فإنه في المقابل لا وجود لمنجز إنساني من غير فضاء يستثير فيه الرغبة والإرادة والفعل، فالإنسان وفضاؤه الخاص يتخلقان بالرغبة ويسيران بالإرادة ويتحققان بالفعل، ليمارسا طقوساً عدة تتجسد في استثارة الامكانيات المتاحة وغير المتاحة، وطقوساً أخرى في التواصل الحياتي عبر مساحات يجب أن تبقى مفتوحة على احتمالات الخطأ والصواب والثابت والمتغير والممكن وغير الممكن، ويتقاسمان بدرجات متفاوتة الأدوار فيما بينهما، فتارةً يجد الإنسان نفسه في فضائه الذي أوجده من اللاشيء وفي هذه الحالة يتحرك بفعل الإرادة الصانعة والمهيمنة، وفي أخرى يجد الإنسان نفسه في الفضاء الذي أثار فيه الرغبات والإرادة وغواية التأمل، وفي هذه الحالة يتحرك الإنسان بفعل الرغبة والاشتهاء وحتى المغامرة..
ومن أكثر الفضاءات المعبرة عن تاريخ الإنسان منذ الأزل وإلى يومنا هذا، فضاء الكتابة، فمن خلالها لخص الإنسان عمق تجربته في الحياة، ودوّن فيها تاريخه، وترجم بها فكره وحركته الدائبة، وسكبَ فيها روحه وذاته ووجدانه، وهام بها تفنناً، وهامت به تحلقاً في كافة الاتجاهات والأشكال والألوان، وأصبحت الكتابة بالنسبة له تشبه النار حينما تعلن عن رغبتها الفطرية في التأجج، أو تشبه الشمس حينما تمارس غريزتها الأبدية في تبديد الظلام..
وأصبح البقاء على قيد الكتابة بالنسبة لأولئك الذين يأتون من أعمق نقطةٍ في الوجع الإنساني، يعني البقاء رغبةً وإرادةً وفعلاً على قيد الحرية والحق والحب والجمال وكل المعاني الرائعة في حياة الإنسان، فهؤلاء يجيؤون ويتقدمهم شوقهم العارم لمعانقة الكلمة الحرة الجميلة وهيَ تتهادى أمامهم بكل عفويتها وسحرها وبراءتها وطهارتها وعذوبتها وسمّوها، وهؤلاء لم تتعرَ حروفهم يوماً كمومسةٍ تبحث عن صيدٍ ثمين، ولم يدفعوا بأبجديتهم يوماً لترقص خليعةً على موائد القمار وموائد البترودولار، ولم تتزلف أقلامهم يوماً لإرضاء دكاكين الأحزاب السياسية وتيارات التخلف الديني، ولم تطأطيء رؤوسها يوماً لموكب فخامة المال، ولم يذهبوا بأوراقهم خانعةً ذليلة إلى قصور السلاطين والطغاة..
هؤلاء يكتبون من دون أن يرفعوا الشعارات الرنانة، ومن دون أن يروجوا للدمامات المعرفية، ومن دون أن يستميلوا الغوغائيين والدهماء والصارخين والمعتوهين والتافهين والأغبياء، ومن دون أن يحملوا يافطات براقة يزيّنون بها قباحات الثقافات المؤدلجة والمريضة والماضوية والمهزومة، لأنهم يغنون لكل الآمال الشاخصة في عيون أطفالهم، لأنهم لا يجيئون متباكينَ على الحليب المسكوب، ولا يجيئون يلطمون وجوههم لمجدٍ ضاع واندثر، لأنهم يقاتلون من أجل أن تبقى الكلمة الحرة الشريفة تتنفس الهواء النقي ولأجل أن تبقى متسامية فوق النذالات والوقاحات والبذاءات، ولأنهم يواجهون بالكلمة الشجاعة الجريئة جيش المهزومين والمستسلمين والخانعين، ولأنهم يحاربون جهالات أولئك الذين ما زالوا يتمترسون في المحاريب وخلف النصوص التراثية والقداسات الدينية، ولأنهم يدافعون عن حق الإنسان في الاختيار الحر، محدقين في الحرية وشاخصين فيها ومتماثلين معها، فهم والحرية فضاءان يتخلقان في الزرقة الأبهى ويحدقان معاً في اتجاهات واحدة، ويسكبان أناقة القيم الإنسانية العالية في روحيهما، ويعكسان معاً لوحة رائعة، باذخة الجمال والنقاء والنبل والمثل الرفعية..
ولكن لم يزل الكثيرون منا يرمقون هؤلاء بنظرات حاقدة عدائية من الشك والريبة والاتهام والتخوين، فكم أنا حزين لهذا الواقع التعيس القبيح، الواقع الذي لم يزل يرى الكتابة الحرة جريمة لا تغتفر، الواقع الذي لم يزل يرى الهمس البريء بأذن الوردة خيانة عظمى للمباديء ولتعاليم السماء، الواقع الذي لم يزل يرى التغزل بالشمس والقمر جريمة بحق الطبيعة، والواقع الذي لم يزل يرى تبديد الوهم والخرافة تطاولاً على المقدسات وتاريخ الأمة ومجد الرسالات، والواقع الذي لم يزل يرى تحرير العقل من التشوهات والعاهات الماضوية والمسلمات اليقينية والغيبية تطاولاً على ثوابت الكون وثوابت الأديان، والواقع الذي لم يزل ممتلئاً بصراخ الدينيين وبهتافاتهم المنبرية ضد أصحاب الفكر الحر وفي الوقت ذاته يغضون الطرف نفاقاً وتزلفاً ومصلحةً عن الفاسدين والمفسدين، وكما يقول عنهم الراحل عبد الله القصيمي: أن من أسوأ ما في المتدينيين أنهم يتسامحون مع الفاسدين، ثم لا يتسامحون مع المفكرين، بل ثم يتعصبون جداً ضد المفكرين، إنه قد يثيرهم مفكر واحد يتحدث مع نفسه همساً، ثم لا يحركهم أن يخرج كل من في الدينا على فضائل الدين والأخلاق، إن المطلوب عندهم هو المحافظة على رجعية التفكير، لا على نظافة السلوك، إنهم قد يغفرون للشيطان كل ذنوبه لو أنه أصبح رجعي التفكير، انتهى..
الكتابة فضاء يبحث فيه الكاتب عن انعكاس فكره وروحه ووجدانه وتاريخه وآماله وتطلعاته واختياراته الحرة وإمكانياته الوجودية، ويصنع فضاءه الأرحب في امتداد الزرقة الشاهقة وفي دهشة المستحيل، ويرسم أبجديته على جدار الذاكرة الآتية من المستقبل ومن حراك الواقع، ومن الأمكنة التي تسكن فيه ويسكن فيها، ومن الأزمنة التي تشبعت برحيق وقته وعمره وأنفاسه ورغباته وحتى تخيلاته، ويصنع فضاءه الكتابي من لغته المتناثرة بين جنبات روحه وشعوره، فتخرج حروفه من أعماق وجوده المكاني والزماني، الغائرين بكثافة شديدة في تفكيره ووعيه وفي صلب كيانه وعمق احساسه..
والكتابة بالنسبة لصاحبها لا تعني بالضرورة امتيازاً ما، أكان وجودياً أو معنوياً أو سلطوياً أو حتى حضورياً، بقدر ما تمنح صاحبها امتيازاً حقيقياً للتداول المعرفي العقلاني المنتج للوعي والمجسِّد له في امتداداته العميقة والحيوية والفاعلة، هذا الوعي الذي يستوعب حركة التاريخ وحركة العالم كونه المدى الذي تتحاور فيه الأفكار ولا تتصادم، وتلتقي فيه الهويات ولا تتحارب، وتتجمع فيه المجهودات الإنسانية المتجاوزة شرور الإنتماءات الضيقة والمؤدلجة، مجسدةً تلك المجهودات التطلع الإنساني الجميل لحلم الرهان على المستقبل البشري السائر نحو وحدة المصير والثقافة الكونية..
وقد تكون الكتابة واحدة من أرفع المستويات الإنسانية في التعبير الحر وفي استثارة الإرادة الواعية وفي تفعيل اتجاهات الرغبة الذاتية الحرة، حينما تتمرد على سلطة المسلمات واليقينيات والمسبقات الدوغمائية وثقافة التوثين والماضي المقدس، فتنتصر بالحرية وتتفوق بالرفض وتسمو بالجمال وتتفرد بالوعي وتستمر بذاكرة الرغبة وتنطلق بالانفتاح وتتطور بالنقد، وكلما ارتقت الكتابة درجات في مستويات الوعي والإرادة والرغبة والفعل، كلما أرتقت أكثر في ممارسة النقد الذاتي لاتجاهاتها وتوجهاتها الثقافية، لأن الفرق بين الكتابة الحرة المحلقة في فضاءاتها الثقافية الممتدة والرحبة والخلاقة، وبين الكتابة الجامدة والراكدة والمجترة والمهزومة والمتقوقعة والمنغلقة والسطحية، هو أن الأولى تبقى تتمتع بالقدرة الذاتية والإرادية والفعلية على النقد والتغيير والتطور والتساؤلات المدهشة والاستمرارية والاستثارة العقلية..
محمود كرم، كاتب كويتي tloo1@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط