احتوتني على حين غرة مهابة الصمت البهي حينما وجدتني أتجول بين جنبات المبنى العريق في العاصمة السويدية ستوكهولم، ذلك المبنى الذي يتم فيه تقديم جوائز نوبل في مجالات الكيمياء والفيزياء والطب والآداب والسلام. وخلت للحظةٍ أن هالةً من الأمجاد التخيلية قد تلبستني، وتساءلتُ حينها في دهشةٍ مسرفة تملكتني فجأةً: أية عظمةٍ خاشعة هذه التي تهدي أنبل انجازاتها على منصة التتويج النوبلي للحاضر وللمستقبل وللإنسانية عموماً..؟؟
بالطبع أن حلم البشرية بالتواصل الفذ مع عالم الانجازات المذهلة لا يتوقف عند نوبل، ولكن في الوقت نفسه تحمل جائزة نوبل عظمة كبيرة، وتتجلى عظمتها في إنها انعكاس لعظمة الفعل الإنساني الخالص..
ستوكهولم المدينة التي يُغرم بها الشخص منذ الوهلة الأولى، هكذا وصفتها لي سيدة سويدية عند محطة الباص وهي تداعب كلبها المدلل بمزاجية مترفة، وفعلاً ستوكهولم هي هكذا لأنها تمنحكَ سريعا الإحساس العميق بالطمأنينة والأمان الداخلي وأهمية قيمة الحياة، وتسعد فيها بالتعامل البشري الراقي، بينما صديقي الأستاذ طالب المولي فقد قال عنها إنها البلد الملائكي الجميل على الرغم من أنه لم يزرها أبداً، ولكنه تحدث عنها هكذا ربما بإحساس المواطن العالمي الذي يعرف يقيناً أن هذه الدول قد ذهبت بعيداً في مجالات الديموقراطية وثقافة حقوق الإنسان والحريات والتطور العلمي المدهش. ولكني شخصياً وجدتها النافذة المشرعة على شتى ملامح الجمال الإنساني الأخاذ، وهي المدينة التي تداعبكَ نهاراً برائحة العشب الطازجة، وتأخذكَ مساءً إلى سحر الموسيقى، وتضمكَ طبيعتها الخلابة بين أضلاعها بحميمية باذخة، وتقاسمكَ أمطارها الشفافة ذاكرة الحنين الأولى لنقاوة الحلم الإنساني، وتبعثُ فيك حنيناً تواقاً للذكريات الجميلة، وتزداد هذه المدينة العاشقة فتنةً باهرة خلال فترة الصيف حيث تحتويها الشمس المشرقة من كل جانب، فكأنها تغرق حالمةً، هانئةَ القلب في جدائلها الذهبية..
وحينما هاتفتُ صديقي الجميل، الشاعر (سعد الياسري) المقيم في السويد وأخبرته عن قصتي مع تلك الشابة السويدية التي تركتْ قبلةً رقيقة على خدي، لمجرد أني قلتُ لها بعد دردشةٍ عابرة: نايس تو ميت يو، فقال لي الياسري بفطرته المعهودة: "هذه هي الإنسانية يا محمود،" وأردفَ: "نحن نجدها هنا تنساب بتلقائية وعفوية ولا ترتدي أثواباً مزيفة ولا تتوارى خلف أقنعةٍ زائفة، وليست مترعة بالاحترازات النفسية المريضة التي تتوجس من الآخر كونه مختلفاً.."
وأزدادُ يقيناً بهذه المعاني الرائعة حينما أجد أن النوايا الطيبة هي التي تنتصر، وهي التي تسود العلاقات فيما بينهم، وليسَ أجمل من أن يستقبلكَ الناس هنا دائماً بتحية رقيقة وابتسامةٍ منشرحة في كل مكان، كأن وداً عميقاً وقديماً يجمعكَ بهم، وأزداد إيماناً بأن هذه الشعوب لا تحمل من إرث الإنسانية الطويل سوى جمال الكلمة الطيبة والابتسامة المشرقة وروعة القيم النبيلة..
وربما كانت زوجتي العزيزة محقة لأنها حذرتني وأنا في السويد من الوقوع في سحر عاصمتها الفاتنة، كلما تجدني أحدثها عن روعة هذه المدينة التي تغفو وتصحو على عذوبة الهمسات الحانية لآلهة الجمال والرحمة، وبدوري عززتُ تحذيرها بطمأنتها بأني حتى لو غادرتها في وقتٍ لاحق فسأبقى أحمل في قلبي حب هذه المدينة، ومستعيراً في الوقت نفسه مقولة الروائي باولو كويهلو: (الحب مقرون بغياب الآخر، أكثر منه بحضوره)، وقلت لها: كان عليكِ يا حلوتي أن تحذريني من الوقوع في سحر الشقراوات وكيف أبعد عني سحرهن الطاغي ولو بعد حين، ولكنها تعرفُ جيداً أني لن أتنكر أبداً لسحرها الشرقي حتى لو تغنيتُ بكل ألوان الجمال، لإيمانها الوثيق بأني أغني ابتهاجاً وعشقاً لكل المعاني الإنسانية الجميلة أينما تصادفني..
وفي رسالةٍ الكترونية بعثها لي الصديق الأستاذ عبد الرحمن الماجدي محرر صفحة أصداء في جريدة إيلاف الإلكترونية رداً على رسالتي له، حثني فيها على زيارة منطقة تراثية في العاصمة ستوكهولم تُدعى (كاملا ستان)، وعملتُ بنصيحته التي أشكره عليها كثيراً، وبالفعل ذهبتُ متشوقاً لرؤية تلك المنطقة التراثية التي علمتُ مسبقاً أن تاريخها ضارب في القدم يعود إلى سبعمائة عام تقريباً، ووقفتُ مندهشاً بين مبانيها القديمة وتجولتُ في طرقاتها وكأنني أشاهد قطعة فنية بالغة الأناقة والدقة والفن، وقلتُ في نفسي: كيف يحافظ هذا الشعب على مذاق الماضي بينما نجده في الوقت نفسه ينخرط حثيثاً في عوالم الحداثة وما بعد الحداثة، وكيف يتذوق بجمالية مدهشة تراثه الضخم من دون أن يقع أسيراً مكبلاً في أمجاده السابقة، وكيف يستحضر كل ذلك التراث من دون أن يصاب بلوثة النرجسيات القومية وحماسيات الفخر والتفاخر وعقد الأفضلية..
أما الصديق الودود (يعقوب) الذي ينحدر من أصول سيريانية ويقيم في السويد منذ أربعة أعوام، فقد تعرفتُ عليه بعد حوار قصير في أحد المجمعات التجارية، وهو بدوره تعرّفَ سريعاً على شخصي المتواضع من خلال ما قرأه لي سابقاً في أحد المواقع الإلكترونية حينما أفصحتُ له عن اسمي، وقد جمعتني به حوارات شيقة ممتعة لاحقاً كانت معظمها تتمحور حول جماليات التواصل الإنساني المشبع بنكهة التعاطي الثقافي الحر، وفهمتُ منه اهتمامه الشديد بالاندماج السريع بعالم التعدديات الثقافية الخلاقة، ويجد ضرورة قصوى في التعايش الإنساني الجميل مع المكونات المعرفية للمجتمع السويدي، وأخبرني عن هواية محببة إلى نفسه يمارسها بمزاجية احترافية في السويد، حيث ينتظم بدروس خاصة لتعلم الرقص الكوبي المعروف باسم (الصالصة)، واصطحبني ذات يوم إلى أحد تلك الدروس لمشاهدة مهاراته الفنية أثناء تأديته للرقصات وكانت فرصة جميلة بالنسبة لي للوقوف عن قرب على فنون رقص (الصالصة) الكوبي، وأجمل ما يذكرني في الصديق (يعقوب) ضحكاته الرشيقة واستعداده الرحب لمناقشة مختلف الآراء حينما كنتُ أستوقفه دائماً عند نقطة جوهرية في أغلب حواراتنا الكثيرة، فكنتُ أقول له: تخيل عزيزي يعقوب لو أن هذه المجتمعات كانت محكومة بعقلية الفتاوى المتزمتة وواقعة تحت وصايتها القسرية وغارقة في مظاهر التدين المزيف ومحشورة في موروثات دينية انغلاقية، ومحبوسة في ضوابط دينية ماضوية وترهن كل ما لديها لثقافة المرجعيات الدينية الإستبدادية، فهل كنتَ ستجدها مجتمعات حيوية ومنطلقة في كل المجالات، وهل كنتَ ستجدها مجتمعات متوثبة ومنشرحة وتستقبل الحياة بكل هذه البساطة والتلقائية والمرح، وفي الوقت ذاته تستقبلها بجدية صارمة على تنفيذ برامج التنمية وخطط المستقبل، وتستمتع بأجمل اللحظات الحياتية بعيداً عن ثقافة الموت والكآبة وعذاب القبر وأدبيات العقد الدينية المشبعة بالتزمت والتشدد والانغلاق والنصوص التراثية الماضوية..
وأكثر ما يبعثُ في روحي البهجة ويمدني بتجليات التأمل الروحي الفلسفي وقفاتي المتكررة عند محلات بيع الورود الطبيعية ذات البساطة التلقائية، البعيدة عن التكلف والاصطناع وبهرجة الديكورات الصماء، المنتشرة على الطرقات وبين الأحياء والتي عادةً ما تكون مأوىً للمحبين والعشاق والحالمين والرومانسيين والمزاجيين وأصحاب القلوب المترعة بالوله والحلم، وكم شعرتُ أن الورود ذات التلويحات الجمالية والألوان الزاهية المختلفة في هذه المحلات الأنيقة البسيطة تدخل معكَ في حوار مباشر عبر لغةٍ صافية راقية تتكامل أبجديتها سمواً على ايقاعات الجمال والمحبة والعشق، وتتواصل معكَ في أشد اللحظات الوجدانية الخاصة، وفي الحقيقة لا أفهم كثيراً في لغة الورود ولكني أعتقد أن المجتمعات المولعة باقتناء الورود وتتبادلها بكل حميمية وألفة فإنها بذلك تستزرع مساحات الحياة المختلفة بألوان البهجة وبالمعاني الإنسانية الرقيقة..
وفي ذات يوم وجدتُ نفسي محلقاً في أمتع اللحظات دهشةً تكتنفني مشاعرَ عشقٍ خلابة زادها المطر الشفيف الذي كان يسربلني توهجاً بالحلم البهي، فطلبتُ من بائعة الورد وردة حمراء تتضرج ابتهاجاً بإكليل الفتنة القانية، فقالت لي الشابة البائعة: ألا تريد وردة ثانية تبادل الأولى همسات البوح العاطر، أعجبني جداً تعبيرها الأنيق، فقلت لها مبتسماً: لا يا رائعتي، أريدها وردة وحيدة، وكانت فرصة جميلة للتعبير لها عن لحظتي المدهشة التي اخترقتني عميقاً، ولكني كنتُ أجد بعض الصعوبة في ترجمة ما كنت أود قوله لها باللغة الإنجليزية، ولكنها كانت تساعدني كلما رأتني متعثراً بجملة هنا أو كلمةٍ هناك، وتابعتُ حديثي معها منشرحاً: لا أدري ربما يرجع السر وراء اقتنائي للوردة الحمراء بالذات إلى إنها تعني في لغتي الخاصة أن كل ما أملكه في حياتي هو من أجل امرأة واحدة، واحتفاظي بالوردة في غرفتي وحيدة لا تشاركها وردةٌ أخرى قد يعني ذلك أيضاً في فلسفتي الخاصة أن حباً واحداً فقط في حياتي لا يزال يستولي على كل كياني، فهتفت البائعة وهي تناولني وردتي: وااااو، هذه معانٍ جميلة ترمز لها الوردة الحمراء في لغتك الخاصة، ثم أردفت: احتفظ بها يا سيدي، وأتمنى أن تجلبَ لكَ دائماً حظاً سعيداً، فشكرتها للطفها وودعتها قائلاً: في كل الأحوال علينا أن نكون أوفياء للغة الورود الرائعة..
في وقتٍ سابق ومن خلال قرائتي الممتعة لكتاب (عالم صوفي) الذائع الصيت لمؤلفه القدير الفيلسوف النرويجي (جوستاين غاردر) علمتُ أن حقوق نشر بعض رواياته باللغة العربية تملكها (دار المنى) الموجودة في العاصمة السويدية، وفكرت بزيارة دار النشر هذه ووجدتها فرصة جميلة لاقتناء ما تنشره الدار باللغة العربية للكاتب الرائع (جوستاين) واستطعتُ أن أحصل على رقم الهاتف الخاص بالدار من خلال الانترنت، وفعلا كنت هناك في أحد الأيام المشمسة واستقبلتني بحفاوة ولطف صاحبة الدار الأستاذة القديرة (منى زريقات) التي عرفتني بنفسها سابقاً من خلال الاتصال الهاتفي، ودار بيننا حوار شيق تطرقنا من خلاله إلى الكثير من القضايا ذات العلاقة الوثيقة بعالم الكتب والنشر، وقدرت فيها اهتمامها البالغ بتبنيها ترجمة بعض الروايات إلى العربية وطباعتها، وخاصة الكتب الجميلة ذات الثراء المعرفي والثقافي المتعلقة بأدب الأطفال، وأدركتُ ولعها الشديد بالتواصل الثقافي الإنساني الحر المفتوح على كافة الثقافات، وتؤمن كثيراً بأن العقل الإنساني الحر يصل إلى مستويات رفيعة في التألق والإبداع حينما تتوفر أمامه مساحات رحبة من حرية الرأي والتعبير، ولذلك سألتها: ما الذي يجعل من عملكِ في السويد يتخذ كل هذه الحيوية والانطلاق؟؟ فقالت سريعاً: حرية النشر وحرية التعبير وحرية الكاتب المطلقة في طرح مختلف آرائه، وفوق ذلك الاهتمام الإعلامي الثقافي الجاد من قبل المتخصصين في مجالات النشر والرأي والكتابة والذي عادةً ما يترافق مع أية اصدارات للكاتب، وتقول الأستاذة (منى) أن هناك ندوات فكرية تعقد في السويد على هامش الاصدارات الثقافية الجديدة والهدف منها تنمية الحس التواصلي بين الكاتب والقاريء، وفي هذه الأثناء وبينما كان النقاش يتشعب أكثر دخلت علينا سيدة سويدية في العقد الخامس من عمرها تقريباً، ألقت علينا التحية، فعرفتني عليها صاحبة الدار على إنها متخصصة في مجال تدريس أدب الطفل، وعرفتُ منها إنها الآن تقوم بمهمة في غاية النبل الإنساني، حيث تشتري بعض الكتب المتعلقة بأدب الأطفال باللغة العربية من دار المنى بأسعار رمزية وتذهب بها إلى (العراق) هناك لتدريس الأطفال العراقيين ما تحتويه هذه الكتب من أدبيات معرفية وثقافية خلاقة، فحدقتُ في الفراغ ملياً أريد أن أجد كلمةٍ مناسبة أعبر بها عن اندهاشي لنبل مهمتها الإنسانية الراقية، فلم أعثر سوى على تساؤل موجع: كيف لهذه السيدة التي لا تنتمي لدين ذلك الطفل ولا إلى لغته نراها تبعث فيه الحياة، بينما جماعات التخلف والإرهاب الديني هناك ترسل أطفالها إلى الموت، وأجابت سريعاً الأستاذة (منى) على تساؤلي الذي توجعتُ منه طويلاً، قائلة لي: من خلال إقامتي الطويلة هنا في السويد ومعايشتي لهم، اكتشفتُ أنه منذ الصغر يتم تنمية الحس الإنساني في الفرد ويولون أهمية بالغة لهذا الأمر، فلا غرابة يا سيدي أن تنشأ هذه السيدة السويدية وهي طافحة بالأحاسيس الإنسانية النبيلة..
وحينما خرجتُ من دار المنى كانت شمس السويد الحانية تلامس في أعماقي نقاطاً مضيئة، فتدفقت فجأةً في ذهني كل الصور الجميلة التي رافقتني خلال فترة مكوثي هنا، فصرتُ أردد مع نفسي بين كل خطوة وأخرى: من الصعب جداً أمام كل هذا الجمال، أن يقف الإنسان على الحياد..
السويد، ستوكهولم ـ محمود كرم، كاتب كويتي tloo1@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط