عندما ينمو الإنسان ويكبر في مناخ حر ونظيف ومنفتح، خالٍ من التشوهات والاستبداد والتسلط والاستلاب والاحباط والكبت والقمع والتزمت والإكراه، تنمو معه بشكل تلقائي ثقافة التعبير، كواحدةٍ من أبهى التجليات الثقافية وأروعها في ازدهار الحياة الإنسانية الحرة الخلاقة، فالإرث الإنساني الهائل في فنون الكتابة والتعبير والتمثيل والمسرح والشعر والرسم والنحت والموسيقى والغناء والأدب، استلهمَ وجوده وحركته وتأثيراته وجماليته وتألقه وواقعيته وتخيلاته واستمراريته من قداستهِ الكاملة لثقافة التعبير الإنساني الحر، وأصبح التعبير الحر في إرثهِ ذات الفعل التواصلي، قمة كل مقدس إنساني، هذا المناخ الحر يبعثُ الإنسان كائناً معرفياً لا يستطيع إلا أن يجد نفسهُ وقد تخلّقَ في مخاض التعبير، إنساناً معبّراً عن هواجسه وأفكاره ومقولاته وشكوكه وقناعاته وتساؤلاته وتطلعاته وإبداعاته وأحلامه وكل ما يموج في ذاته، حتى الصمت في بعض حالاته يجده تعبيراً رمزياً عن مكنوناته وتموجاته وانفعالاته الداخلية، ويؤكد بوعيهِ التفردي أن الصمت أيضاً هو خياره الحر والذي يعبّر من خلاله عن موقفه وعما يريد بطريقته الخاصة، إنه يأتي هكذا، معبّراً، متكلماً، موقفاً، ومستنطقاً ذاته الباحثة والمفكرة والقلِقة والناقدة والساخطة والصارخة والمعترضة والمحدقة، لأنه يحيا من أجل أن يكون ذاته، من أجل أن يحاور ويناقش ويفكر ويعترض ويشك ويحدق ويسأل ويبدع ويحتج ويوافق ويجيب ويفاوض، ويرفض أن ينتهي إلى التهميش والتسكيت والتصغير والتذويب، أو إلى التلاشي والانطفاء والعدم..
بينما نرى أن الثقافات التسلطية والقمعية والاستحواذية والاستبدادية والدينية اللاهوتية والثقافات الاستعبادية والشمولية تنمو وتستمر في مناخات مشوّهة مريضة بالتلقين والتكرار والواجب والانغلاق والتعصب والارتداد والتحيّز، ومريضة بقداسة وتقديس النص الماضوي واليقينيات التقليدية والتراثية، ومُصابة بتأليه الكهنوت ورجال الدين، وملوّثة بالأدلجة والشعار، هذه الثقافات تعمل دائماً على أن تسلب من الإنسان حقه في التعبير، وتعمل على قتل ثقافة التعبير في أعماقه، وتعملُ على أن الإنسان ليسَ سوى رقم يأتي مكمّلاً لأعدادٍ أخرى مشابهة غارقة في السكوت والخنوع والإذعان والتكرار والتلقين، وتعملُ على أن يبقى ويكبر الإنسان تحت هيمنتها ورعايتها ووصايتها وهو لا يعرف أن من أولى حقوقه الإنسانية أن يكون معبّراً عن ذاته، يكبرُ ويترسّبُ في ذهنهِ أن التعبير بالرأي خروجٌ على الجماعية وسلامة السائد ونمطية الشائع، وأن التعبير بالاعتراض خيانة للمقدس، وأن التعبير بالنقد خيانة للتراث والنص، وأن التعبير بالتفكير طريق للزندقة والكفر والشطط، وأن التعبير بالتحديق والرفض هلاكٌ للنفس والعقل، هذه الثقافات تريد من الإنسان أن يؤمن بأن الموجود والسائد والمشاع والمتراكم والمقدس واليقيني هو الأصل وهو الذي وحده يملك شرعية الوصاية، ومحاولة التعبير بالجديد وبالمغاير ليسَ سوى هدم وتخريب للتراث والماضي، هذه الثقافات تقتل في الإنسان رغبته في أن يبحث أو يعرف أو يكتشف الحقيقة بالتعبير عن هواجسه وانفعالاته وقلقه وتفكيره وتوجساته وتساؤلاته، لأنها تريدهُ أن يؤمن بأن التعبير عن ذلك تقويض صريح للإيمان (الإيمان : هو عدم الرغبة في معرفة الحقيقة) كما يقول نيتشه، إنه هذا الإيمان الذي يقمع في الإنسان شغف التعبير المعرفي وألق السؤال وسؤال الدهشة، لأنه إيمان لم يتأسس على ثقافة التعبير، وليسَ في ثقافته وأدبياته اعترافٌ أصلاً بالذات الإنسانية المعبّرة بالتفكير والبحث والنقد والسؤال..
ثقافة التعبير في الفكر الإنساني وفي المجتمعات الإنسانية الحرة والمنفتحة والتنويرية تبعثُ الإنسان حراً، حُراً في قناعاتهِ واختياراتهِ وفي استنتاجاته واستفساراته ومعرفياته وفي تساؤلاتهِ، لأنها ثقافة تحترم الإنسان اختياراً وقراراً ورأياً وتعبيراً، تحترم وجوده الحر والمستقل، وفي أدبياتها تُعلن مراراً أن الإنسان لا يكون إنساناً إلا بالتعبير عن ذاته ووجوده وكيانه ورأيه، يكبر الفرد في مناخاتها وهو يعرف تماماً أن عليه أن يتكلّم ويتحدث ويقول ويصرخ ويعترض ويستفسر ويوافق ويرفض ويسأل انطلاقاً من إحساسه الذاتي العميق الواعي بقداسة ثقافة التعبير، وانطلاقاً من قناعاتهِ وحريتهِ الفكرية، وتماهياً معرفياً مع بيئته الثقافية التي تقدّس طرق التعبير الإنساني الحر كأساسٍ فكري في تطور الحياة الإنسانية الخلاقة، إنها الثقافة التي تضع الإنسان في وعي الإدراك الذاتي العميق لوجوده التعبيري، حيث يكون وعي الإدراك عنده يساوي قدرتهُ الكاملة على إدراك واجتراح وابتكار طرقهُ التعبيرية الحرة..
ثقافة التعبير تستمد ألقها الفكري الخلاق كونها تأسيساً جوهرياً لنزعة الإبداع والانفتاح الإنساني التعبيري، وكونها نفياً مطلقاً لثقافة التلقين، لأنها تُعلي من شأن الذاتية التعبيرية في الإنسان، ولأنها تجد أن الحياة تتخلقُ دائماً في الألوان التعبيرية الحرة، ولأنها تؤمن بأن الإنسانَ لا يغدو إنساناً في جوهره وفي وجوده الإدراكي الذاتي إلا حينما يكون معبّراً، ناطقاً بمكنوناته الذاتية، مسكوناً بنزعة الإبداع التعبيري، ولأنها ثقافة معنية في الأساس بتوفير مناخ تعبيري حر ومنفتح، ينطلق فيه الإنسان نحو آفاقٍ ثقافية رحبة تتسع للتعدد والاختلاف والحوار والتطور والتجدد، بينما ثقافة التلقين في البيئات الثقافية الانغلاقية والتحيزيّة والدينية والقمعية والتسلطية تسعى حثيثاً لقمع الإنسان التعبيري، تريدهُ ناكراً لحقه في التعبير، غير مدركٍ لذاته التعبيرية الحرة، تريده خاضعاً للسائد والمقبول، تريده إنساناً واقعاً في دائرة التكرار والإعادة والشفاهية، تريدهُ أن يبدأ حياته بما هو مقبول وجمعي وسائد ومشاع، وليسَ بما هو ذاتيٌ وصحيح وواقعي ومنطقي وعقلاني وحداثي، ولذلك فثقافة التلقين لا تنتجُ سوى مجتمع يتناسلُ فيه الأفراد كأرقامٍ متشابهة مكررة يعيدون ويكررون ما هو سائد ومقبول وماضوي، فاقدينَ رغماً عنهم الإحساس بجمالية الدفق التعبيري الحر، إنهم يأتون وفقاً لرغبة غيرهم ووفقاً لرغبةِ ما يجدونه مقبولاً أمامهم وخلفهم، إنهم يأتون صورة مطابقة للواقع التلقيني الأخرس والأبكم والأصم الذي اندرجوا فيه وانساقوا إليه وكبروا عليه وخضعوا له ورضوا به..
الإنسان التعبيري، إنسان السؤال، يبحثُ عنه دائماً ويخلقهُ، يبحثُ عنه مدهشاً، مباغتاً، ناطقاً، عميقاً، وقاسياً، ويجترحهُ إبداعاً وأفقاً وحضوراً، يتصارع معه في قلق الفكرة، يتخلق في أتونه، ويتعايش مع تموجاتهِ وتحولاته وتبدلاته، ويجد فيه تجربةً ذاتية مُلهمة، وكأنه بالسؤال يفتحُ جرحاً ما في أعماقهِ، وما السؤال بالنسبة له إلا مخاض الألم الجميل الذي يتجلّى به فتحاً معرفياً وفلسفياً ويتطور به تفكيراً إبداعياً، إنه الإنسان الذي تخلّق بهياً في تجليات ثقافة التعبير، الثقافة التي تبعثُ الإنسان سؤالاً وتساؤلاً، وتتقصدُ عمقاً تأسيسياً لثقافة السؤال، إنها الثقافة التي يتجلّى بها الإنسان تعبيراً خلاقاً، مدفوعاً بالحماس التفكيري لاجتراح السؤال بعد السؤال سبيلاً مُلهماً للذات التعبيرية الحرة في مختلف حقول الفلسفة والفن والفكر والأدب..
والإنسان التعبيري، إنسان معرفي بامتياز، لأنه يجد أن ذاته التعبيرية بحكم إدراكها الإرادي الحر بثقافة التعبير قد تعالقت تلقائياً وجمالياً مع ما تمور بها الحياة من تموجات الثقافة المعرفية، فهوَ مسكونٌ دائماً بالاشتهاء المعرفي الخلاق، وشغوفٌ بصناعة الفكرة وعالمه المعرفي الذي يمدّهُ بالجديد والمدهش والمتغير والملهم، ويعرفُ أن رغباته التعبيرية الحرة في مضمار المعرفيات إنما انبثقت من كونهِ شديد الاعتقاد بذاته التعبيرية الحرة، إنه لا يقف عند حدٍ معين أو سقفٍ محدد، بل يرى في الحياة مغامرة معرفية تستحق المجازفة (وحدهم الذين يقومون بالمجازفة يمكن أن يكتشفوا إلى أي مدى يمكنهم البلوغ) كما يقول الشاعر الإنجليزي تي أس إليوت، ويرى في الحياة أيضاً ميداناً فسيحاً يتسع لكل ألوان التفكير ولكل أشكال التعبير، إنه الإنسان الذي أصبحَ يرى في الثقافات اليقينية والتلقينية والشعاراتية والنهائية والمطلقة ثقافات قامعة لسعيهِ المعرفي الخلاق وخانقة لذاتهِ التفكيرية التعبيرية الحرة..
محمود كرم، كاتب كويتي
tloo1996@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط