ـ 1 ـ
في الحلقات السابقة استعرضت إجمالاً التأثيرات الأجنبية المتمثلة في اليهودية، المسيحية، المندائية، والزرادشتية على الإسلام. بقي أن نعرج على آخر مصدرين، وهما الوثنية والشعر الجاهلي. ربما يتساءل الكثير: كيف يتطبع الإسلام بالوثنية وهو الذي جاء في الأصل لهدمها؟ صحيح أن الإسلام كان ثورة على الوثنية وعلى تعدد الآلهة ولكن هذا لا يلغي إطلاقاً أن جوانب أخرى من حياة المجتمع الوثني قد ورثها الإسلام، أحياناً مع إدخال بعض التعديلات البسيطة وأحياناً مع الإبقاء عليها بالكامل. دع عنك تهاويل المؤرخين وتلك العبارات الإنشائية الرنانة من أن الإسلام جاء لمجتمع غارق في الظلام والجهل. التاريخ يفند تلك الإدعاءات والمبالغات الإسلامية التي تجعل ما قبل انبلاج الإسلام ظلاماً دامساً وما بعده نوراً مشرقاً. ولو كان الإسلام بحق ديناً استثنائياً لما أبقى على تعظيم الكعبة والحجر الأسود وطقوس الحج ذات الأصل الوثني. هناك من يقيم رباطاً وهمياً ما بين تلك المسائل وبين أبي الأنبياء إبراهيم في محاولة ربما لتبرير استمرار تعظيم الإسلام لممارسات وثنية، مثل القول أن إبراهيم هو من بنى الكعبة وهو من أذن في الناس ليحجوا إلى البيت الحرام. للأسف تلك حكايات لا أصل تاريخي لها، فالكعبة (= المقة) هي بيت إله القمر الذي حمله اليمنيون في هجرتهم إلى مكة، ناهيك عن الشكوك حول حقيقة إبراهيم التاريخية أصلاً. يذكر الشيخ خليل عبد الكريم في كتابه القيم (الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، سينا للنشر، ط 2، ص 14-15) "... أن الإسلام ورث الكثير من عرب الجزيرة واستعار العديد من الأنظمة التي كانت سائدة بينهم في شتى المجالات: الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية (= الحقوقية) والسياسية واللسانية.. فالكثير من القراء قد يدهش عندما يعرف أن الإسلام قد أخذ من (الجاهلية) كثيراً من الشؤون الدينية أو التعبدية: أخذ منها فريضة الحج وشعيرة العمرة وتعظيم الكعبة وتقديس شهر رمضان وحرمة الأشهر الحرام وثلاثة حدود: الزنا والسرقة وشرب الخمر وشطراً كبيراً من المسؤولية الجزائية مثل القصاص والدية والقسامة والعاقلة.. الخ ".
لنمضي مع القمص زكريا بطرس في آخر فصول البحث عن مصادر القرآن، متلمسين ملامح الديانة الوثنية والشعر الجاهلي في رسم وجه القرآن. وهذا ليس بالغريب ولا بالمستهجن، فالإسلام كباقي الديانات هو نتاج تفاعلات ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية في البقعة التي انطلق منها.
ـ 2 ـ
تعظيم الكعبة:
حفل القرآن بآيات تعظم من مكانة الكعبة، ومن أمثلة ذلك:
(سورة آل عمران: آية 97) "ومن دخله كان آمنا"
(سورة المائدة: آية 97) "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس.."
(سورة البقرة: آية 127) "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم".
مما لا شك فيه أن الإسلام ورث تعظيم الكعبة من المجتمع الوثني. وتذكر كتب التاريخ قاطبة أن عرب الجزيرة عرفوا أكثر من كعبة. وقد جاء في كتاب الشيخ خليل عبد الكريم (الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، سينا للنشر، ط 2، ص21): "على الرغم من وجود إحدى وعشرين كعبة ـ قبل الإسلام ـ في جزيرة العرب فإن القبائل العربية قاطبة أجمعت على تقديس (كعبة مكة) وحرصت اشد الحرص على الحج إليها، يستوي في ذلك من القبائل من كانت لديه كعبة خاصة مثل غطفان أم لا... بل أن الأخبار وردت أن عدداً من القبائل انتشرت بين أبنائها اليهودية والنصرانية ومع ذلك كانت تشارك في موسم الحج، ومن شدة تقديسهم الكعبة أن الرجل منهم كان يرى قاتل أبيه في البيت الحرام فلا يمسه بسوء..".
لقد تحولت مكة بفضل البيت الحرام أو الكعبة إلى أكبر مزار ديني تؤمها كافة القبائل. ومما يذكر أنه قد كان داخل الكعبة وحولها 360 صنماً لا تخص القرشيين فحسب بل كافة القبائل، حتى أن صورة مريم العذراء وابنها المسيح كانت معلقة داخل الكعبة. إذاً نستخلص من هذا أن موقع الكعبة الديني في وجدان العربي لم يتبدل مع ظهور الإسلام. كل شيء بقي على حاله باستثناء إزالة الأصنام والتوجه بالعبادة إلى الله بشكل تجريدي.
ـ 3 ـ
تعظيم الحج والحجر الأسود:
الحج هو الركن الخامس من الإسلام. وفي القرآن (سورة آل عمران: آية 97) "ولله على الناس حج البيت الحرام من استطاع له سبيلا". والعرب قبل الإسلام كانت تحج إلى البيت الحرام، وكانت لكل قبيلة تلبية خاصة بها، فجاء الإسلام وأبقى على جوهر التلبيات، موحداً إياها في تلبية واحدة. فمن أمثلة ذلك:
تلبية قريش: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، تملكه وما ملك".
تلبية بني تميم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لبيك عن تميم".
تلبية بني كنانة: "لبيك اللهم لبيك، اليوم يوم التعريف، يوم الدعاء والوقوف".
أما الحجر الأسود فهو بيضاوي الشكل، لونه أسود ضارب للحمرة، ويقع في الركن الجنوب الشرقي من الكعبة. وفي (سنن الترمذي – باب الحج –حديث 886) أن رسول الله قال "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضاً من اللبن..". وتعترف (دائرة المعارف الإسلامية، ج 22، ص 6961) بأن النبي محمد استمد تعظيم الكعبة والحجر الأسود من عادات العرب في الجاهلية "كان للطواف شأن عظيم في الشعائر الدينية عند العرب القدماء. وفي مكة كان يطاف حول الكعبة التي فيها الحجر الأسود الذي كان مقدساً منذ قديم الزمان، وقد أخذ محمد بهذه العادة القديمة لما وضع شعائر دينه، وجعل الكعبة مركز هذه الشعائر". وفي (مسند احمد – مسند عبد الله بن عباس – حديث 2835) "اقبل رسول لله حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحجر فاضطبع بردائه فاستلم الركن ثم مشى إلى الركن الأسود فقالت قريش ما يرضون بالمشي إنهم لينقزون نقز الظباء ففعل ذلك ثلاثة أطواف فكانت سنة". والمقصود هنا أن النبي كان يدور حول الحجر الأسود سبع لفات، ثلاث منها قافزاً كالظباء، وأربع لفات ماشياً في احترام الحجر الأسود المقدس. وهناك معلومة غاية في الخطورة ينقلها القمص زكريا عن الدكتور أحمد شوقي إبراهيم رئيس مجلس إدارة المجمع العلمي لبحوث القرآن والسنة بشأن الحجر الأسود. فبماذا يتحفنا العلامة الجهبذ في مقالته المنشورة بجريدة (الأهرام: 15 أغسطس، 2004) عن أسرار الحجر الأسود الخطيرة؟ "تقبيل الحجر الأسود له سر عظيم يعود إلى يوم الذر.. استخرج الله ذرية آدم وأشهدهم أن يعبدوه (هل يعني أننا خلقنا لتقديم الشهادة قبل أن نعود لننزوي في ظلام أرحام أمهاتنا؟)... وكتبت الملائكة الشهادة وكان لهذا الحجر عينان وفم وشفتان (!!!)... فأمر الله الملائكة أن تلقمه الرق وقال الله للحجر: تشهد لمن وافاك... وأودع الله ميثاق الأنبياء بهذا الحجر". ترى لو شققنا جوف هذا الحجر (النيزكي) هل يمكننا وضع أيدينا على أول وثيقة تاريخية كتبت في السماء بين الله والبشر؟
أما طقوس ومناسك الحج فهي لا تختلف عنها اليوم إلا في بعض التفاصيل الصغيرة، مما يقطع بأصلها الوثني، وهو ما أشارت إليه بوضوح الدكتورة نوال السعداوي، الأمر الذي أثار عاصفة من الانتقادات ووصل الحد إلى توجيه التهمة لها بالإساءة والتهجم على الإسلام!!!
لقد كانت العرب في الجاهلية تقوم بذات الطقوس التي يمارسها مسلمو اليوم دون وعي وإدراك بجذورها التاريخية ودلالتها الرمزية. ومن أمثلة تلك المناسك: التلبية، الإحرام، سوق الهدى، الوقوف بعرفة، الدفع إلى مزدلفة، التوجه إلى منى، الطواف بالكعبة، تقبيل الحجر الأسود، والسعي بين الصفا والمروة.
المثير هنا أن كلمة الحج مأخوذة في الأصل من كلمة "الحك". وقد جاء في كتاب (الملل والنحل، أبي القاسم الشهرستاني، ص 247) "أنه كان يمارس في الحج طقس غريب وهو الاحتكاك بالحجر الأسود". ويفسر الدكتور سيد القمني في كتابه الموسوم ب (الأسطورة والتراث، سينا للنشر، ط 2، ص 127) سر الاحتكاك بالحجر الأسود بقوله: "وهناك رواية إسلامية: إن الحجر الأسود كان أبيض ولكنه اسود من مس الحيض في الجاهلية. أي أنه كان هناك طقس لدى الجاهليين تؤديه النساء في الحجر، وهو مس الحجر الأسود بدماء الحيض، ودماء الحيض بالذات؟!! وقد كان دم الحيض عند المرأة في اعتقاد الأقدمين هو سر الميلاد، فمن المرأة الدم، ومن الرجل المني، ومن الإله الروح...".
وإذا كان تقديس الحجر الأسود يحمل مغزىً جنسياً أزلياً، فإن هناك موضوعات أخرى ذات صلة بالحج لها دلالات جنسية عريقة. وانقل هنا عن الدكتور سيد القمني (الأسطورة والتراث، سينا للنشر، ط2، ص 128:126) ما قاله بخصوص عرفة وطقوس أخرى مازالت تمارس حتى يومنا: "وهناك رواية إسلامية أخرى تقول إن آدم وحواء عندما هبطا من الجنة نزلا مفترقين، وظلا هائمين حتى التقيا، و"عرف" آدم حواء أي جامعها (هناك مبادلة بين الحرفين الفاء والباء، فاليمنيون وحتى اليوم يستخدمون كلمة "عرب" بمعنى المباشرة الجنسية)... ولذلك عرف الجبل باسم عرفة لأن آدم عرف أو جامع حواء عليه؟!! ومن هنا تقدس الوقوف بعرفة، وكان الوقوف بعرفة من أهم مناسك الحج الجاهلي، فكانوا يتجهون إلى هناك زرافات ذكورا وإناثا يبيتون ليلتهم حتى يطلع عليهم النهار، وإن العقل ليتساءل أمام مشهد ألوف الرجال والنساء يتجهون إلى الجبل ليبيتوا هناك جميعا حتى الصباح: ما وجه القدسية في هذا الطقس؟ إن لم يكن من قبل ذلك تجمعا لممارسة طقس الجنس الجماعي طلبا للغيث والخصب، مع ملاحظة أن عرفة يطلق عليه الجمع عرفات، ولا نعرف جبلا يجمع اسمه إلا عرفات؟! فهل الجمع هنا للجبل أم للمجتمعين على الجبل في حالة جماع أو عرفات، يماثلون الفعل... ولو عدنا إلى طقوس الحج الجاهلي فسنجد عجيبا ومثيرا، وهو أنهم كانوا يطوفون حول البيت الإلهي ذكورا وإناثا عراة تماماً، فما الداعي لهذا العري إن لم يكن بغرض يستحق العري؟ وعندما جاء الإسلام جعل للإحرام زيا لا يستر إلا العورة، بل وحرم لبس المخيط وكره لبس الطيلسان المزور للمحرم... ثم ما الداعي لطقوس أخرى مثيرة في الحج الجاهلي، ولا معنى لها إلا في ضوء احتفالات الخصب والجنس، مثل طقس الشرب من زمزم، وحتى الاسم زمزم من الزمزمة، والزمزمة صوت الرعد الذي يسبق المطر، وما لزوم طقس حلق الشعر – وبالذات عند المروة – الذي لا يمكن فهمه بالمرة، إلا في ضوء طقوس الخصب الجنسية القديمة، والذي كان بديلاً عن الجنس الجماعي"
ـ 4 ـ
تعظيم الهلال القمري:
يتربع الهلال قمم المآذن، وأحياناً يحتضن نجمة عشتار. والهلال أكثر الرموز التي تزين أعلام الدول المعاصرة مثل تونس والجزائر وماليزيا وموريتانيا. وكان قبلها يرفرف على رايات السلاطين والخلفاء. والهلال أكثر النماذج المستخدمة وبغزارة منذ القدم وحتى الآن في صياغة الحلي والأقراط وتزيين الفخاريات. والهلال له منزلة شعائرية فعندما يطل تنطلق معه طقوس دينية وعندما ينزوي يسدل الستار على طقوس أخرى. والهلال في النهاية رمز إسلامي يقف نداً في الحرب أو حليفاً في السلم مع الصليب المسيحي ونجمة داود اليهودية. ويمكن معرفة مدى أهمية وقداسة الهلال أو القمر من مراجعة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. فمن أمثلة الآيات القرآنية التي تعظم من مكانة القمر:
(سورة المدثر: آية 32) "والقمر والليل إذا أدبر والصبح إذا أسفر".
(سورة الشمس: آية 2) "والقمر إذا اتسق".
(سورة البقرة: آية 189) "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج".
وحسب القمص زكريا، فإن عدد الآيات التي تضمنت الإشارة إلى القمر/الهلال تساوي 50 آية، وعدد الأحاديث النبوية يعادل 2027، أي أن المجموع يقترب من حافة الثلاثة آلاف. وهو ما لم يحظى به أي جرم سماوي آخر.
لكن لماذا القمر بالذات؟ ما السر وراء تعظيم القمر دون سواه من ظواهر الطبيعة الأخرى؟
جاء في (دائرة المعارف البريطانية، ج 1، ص 1058:1057) التالي "كان العرب في جنوب الجزيرة العربية يعبدون ثالوثاً هو: الإله القمر والإلهة الشمس والابن عشتار. وكان الإله الأكبر في هذا الثالوث هو الإله القمر. وكان الناس يعتبرون في كل الأنحاء أنفسهم ذريته". ويذهب الدكتور سيد القمني في نفس الاتجاه في كتاب (الأسطورة والتراث، سينا للنشر، ط2، ص114) "... القمر كإله ذكر أخذ دور الأب، والشمس كإلهه أنثى أخذت دور الأم وعثتر أو الزهرة كإله ذكر أخذ دور الابن. لكن القمر كان هو الإله المقدم، فعبده القتبانيون والحميريون بالاسم (عم)، وعم القبيلة أبوها وسيدها، وعبده الحضارمة بالاسم (سين)، وعبده المعينيون بالاسم (ود)، وعبده السبئيون بالاسم (المقة)". إله السبئيين المعروف بالمقه والذي لا شك أن اسم (مكة) جاء من اسم هذا الإله اليمني (يتم تبادل القاف والكاف، كما في كلمة معد مكرب أو معد مقرب). تعني (مقة) القمر ولكن ماذا عن الألف واللام الذين يسبقا مقة؟ يذكر سيد القمني في (ص 119:118) من كتاب الأسطورة والتراث "... وقد كان (إل) اسما إلهيا في بلاد الرافدين وبلاد الشام القديمة، وهو فيما يؤكد لنا (د. جواد علي ونولدكه وآخرون)، إلها ساميا معروفا في كل العبادات السامية إلا أنهم لم يوضحوا لنا دلالته بشكل صريح، كذلك يؤكد لنا (ديتلف نيلس) أن معبودا باسم (إل) كان معروفا في كل بقاع جزيرة العرب، ويرى أنه كان اسما ذا دلالة عامة، يستعمل كبديل لكل اسم إلهي في حديث الغائب، فيقال (إل كذا) وتبع (إل) اسم الإله المقصود، ويضيف (نيلسن) أن (إل) ورد كعلم لإله خاص في النقوش السبئية والقتبانية، لكنه بدوره لم يوضح لنا أي إله خاص تسمى بالاسم (إل) وعلى أي منطقة من الطبيعة أو على ظاهرة طبيعية كانت دلالته، هذا وقد أفادنا (ريكمانز) أن (إل) قد جاء في النقوش السبئية يحمل اللقبين (فخر) بمعنى العظيم و(تعلى) بمعنى تعالى، كما أفادنا (هوبر) بأنه قد عثر على (إل) في النقوش الثمودية بالصيغة (إل ن) وتعني الله. وتأسيسا على هذه المعاني، يمكننا الزعم أن (الألف واللام) في أول (المقة) إنما تعني الله أو الإله، وتصبح لفظة المقة تعني (الإله مقة)، أو (الرب مقة)".
لقد نشأ النبي محمد وترعرع في أحضان عبادة القمر، وكان اعتراض النبي على قومه أنهم يشركون مع الله (الأب) عبادة زوجته وبناته. ولهذا لا يحتفظ القرآن أو أي مصدر آخر باعتراض من قريش على هوية المعبود الذي يدعو إليه محمد بدليل ما سجله القرآن في أكثر من موضع: (سورة المؤمنون: آية 85) "قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون الله أفلا تذكرون" وفي (سورة يونس: آية 19) "ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله". علاوة على ذلك، فقد كان العرب يسمون أبناءهم بعباد الله، ومنهم عبد الله بن عبد المطلب والد النبي. وينسب القمص زكريا إلى الفيلسوف الكندي ما قاله بأن الله الذي يعبده المسلمون ليس هو نفس الإله الموجود في الكتاب المقدس بل أنه هو إله سبأ الوثني القمري والذي كانوا يدعونه باسم (المقة) أو (إل) أو (إللاه). وينقل كذلك القمص عن الباحث في الإسلاميات قيصر فرح "كان العرب يعبدون إله القمر كإله عظيم وحيث أنهم يقولون أن (الله أكبر)، فهم لازالوا يحملون فكرة آلهة أخرى وإلههم أكبرهم".
ـ 5 ـ
الشعر الجاهلي:
بلغ حب النبي وتعلقه بنماذج شعرية مفعمة بصور إجلال الله وتعظيمه وتنزيهه أن تدحرجت كثير من تلك المقاطع الشعرية لتلتحم بآيات القرآن وتلتصق بمعانيها حتى بدت وكأنها قطعة واحدة من صنع إله أو بشر واحد.
فيما يلي مقاطع مجتزئة من قصيدة لأمرؤ القيس:
دنت الساعة وانشق القمر عن غزال صاد قلبي ونفر
مر بي يوم العيد في زينة فرماني فتعالى فعقر
سهام من لحظ فاتك فر عني كهشيم المحتظر
بالضحى والليل من طرته فرقه ذا النور كم شيء زاهر
قلت إذا شق العذار خده دنت الساعة وانشق القمر
بقي أن نعرف أن امرؤ القيس قد مات قبل النبي بثلاثين عام. لا شك أن تلك القصيدة قد بقيت حاضرة في ذاكرة العرب الشفهية إلى أن وصلت للنبي محمد، والذي لفرط إعجابه بتراكيبها قد اقتبس منها في قرآنه.
دنت الساعة وانشق القمر... (سورة القمر: آية 1) " اقتربت الساعة وانشق القمر".
فتعاطى فعقر... (سورة القمر: آية 29) " فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر".
كهشيم المحتضر... (سورة القمر: آية 31) "كهشيم المحتظر".
بالضحى والليل ... (سورة الضحى: آية 1-2) "والضحى والليل إذا سجى".
وفي قصيدة أخرى لنفس الشاعر يقول فيها:
اقبل العشاق من خلفه كأنهم من كل حدب ينسلون
وجاء يوم العيد في زينة لمثل ذا فليعمل العاملون
كل حدب ينسلون... (سورة الأنبياء: آية 96) "حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون".
لمثل هذا فليعمل العاملون... (سورة الصافات: آية 61) "لمثل هذا فليعمل العاملون".
ولأمية بن الصلت أحد المتألهين الأحناف الذي قال عنه النبي "آمن شعره وكفر قلبه" قصائد في هذا الإطار وجدت طريقاً للقرآن:
إله العالمين وكل أرض ورب الراسيات من الجبال
بناها وابتنى سبعا شدادا بلا عمد يرين ولا رجال
وسواها وزينها بنور من الشمس المضيئة والهلال
رب الراسيات من الجبال... بلا عمد... (سورة لقمان: آية 10) "خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم..."
وقال الشاعر رؤبة بن العجاج واصفاً انكسار حملة أبرهة ببيتين شعر:
ومسهم ما مس أصحاب الفيل ترميهم بحجارة من سجيل
ولعبت بهم طـــير أبابـــــيل فصيروا مثل عصف مأكول
بعد أعوام جاء القرآن في سورة الفيل ليقول: "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، أم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول"
ويصف الشاعر والمتحنف زيد بن نفيل ولادة المسيح بن مريم بتلك الأبيات:
فقالت: أنى يكون ولم أكن بغياً ولا حبلى ولا ذات قيم
فقال لها: إني من الله آية وعلمني والله خير معـــــــلم
وأرسلت ولم أرسل غويا ولم أكن شقيا ولم أبعث بفحش ومأثم
وفي القرآن (سورة مريم: آية 21-23) "قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أكن بغياً، قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً، وبراً بوالدتي ولم يجعلني شقياً".
ـ 6 ـ
في الختام، هناك مسألة يجب أن أؤكد وأشدد عليها وهي أني لا استهدف من وراء هذه السلسلة التهجم على الإسلام والإساءة إليه. أنا أعلن هنا احترامي وتقديري وإجلالي لكل الديانات بما فيها الإسلام. فالدين هو تلبية لغريزة وحاجة إنسانية، ومن حق أي كان أن يعتنق ما يشاء ويرفض ما يشاء. وفي المقابل، فإن الدين يجب أن يوفر الطمأنينة والسلام الداخلي لصاحبه دون أن يتحول إلى وسيلة قمعية تفتش ما في الصدور وتنصب المشانق لغير الملتزمين بتعاليمه. مؤخراً، وصل إلى بريدي الإلكتروني جملة من الرسائل دون أن تتناول من قريب أو بعيد جوهر الموضوعات المطروحة هنا. جميعها للأسف تروج للعنف والكراهية وتكشف عن ضحالة فكر وضيق أفق كاتبيها. أنا هنا لا أرمي للإساءة لهذا الدين ولكني أتلمس الحقيقة وأتعصب للمعرفة دون أي اهتمامٍ بلونها ومصدرها. ليت كل من شتمني وكفرني واصدر حكمه بتصفيتي فكر ولو لدقائق معدودة فيما قلت. أنا لا أدعي الحقيقة ولا أملك مفاتيح المعرفة دون غيري، لكني أثير تساؤلات من حقي كإنسان قبل أن أكون مسلماً أن أفكر فيها. ليتهم يعرفون أن الصراخ والصوت العالي حجة الضعفاء. إن تعنيف الرأي الآخر ومصادرة أبسط حقوقه الفكرية دون تقديم أدنى وسائل للإقناع تعكس إفلاساً معرفياً لا يخدم الإسلام بل يضر به ويشوه سمعة معتنقيه. أحياناً في عصر الفضائيات وثورة المعرفة يحسد المرء من عاشوا قبلنا كابن الرواندي وأبي علاء المعري وأبي بكر الرازي الذين عاشوا وفكروا وكتبوا دون أن يضطروا إلى التخفي وراء أسماء مستعارة ليس خوفاً من جماعات الجهاد التكفيرية فقط بل من كافة أفراد المجتمعات الإسلامية التي لا تحتمل النقد ولا تطيق التفكير ولا تصبر على الرأي الآخر.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط